تفسير القرآن الكريم لعبد الله شحاته - شحاته  
{ٱلَّذِينَ ءَاتَيۡنَٰهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ يَعۡرِفُونَهُۥ كَمَا يَعۡرِفُونَ أَبۡنَآءَهُمۡۖ وَإِنَّ فَرِيقٗا مِّنۡهُمۡ لَيَكۡتُمُونَ ٱلۡحَقَّ وَهُمۡ يَعۡلَمُونَ} (146)

معرفتهم للنبي( صلى الله عليه وسلم )

{ الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وإن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون( 146 ) الحق من ربك فلا تكونن الممترين( 147 ) } .

146

التفسير :

{ الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم . . . }

يقول تعالى : إن علماء أهل الكتاب يعرفون صحة ما جاءهم به الرسول صلى الله عليه وسلم كما يعرف أحدهم ولده . والعرب كانت تضرب المثل في صحة الشيء بهذا( 8 ) . وذكر الأبناء لأنهم ألصق بآبائهم ، فهم وآباءهم أكثر خبرة ودراية بهم ، واستيثاقا من نسبهم بحكم الفطرة . فالآية تقرر : أن أهل الكتاب وهم اليهود والنصارى يعرفون أن محمدا رسول الله معرفة حقيقية كمعرفة الآباء للأبناء .

قال عمر لعبد الله بن سلام ، وكان من أحبار اليهود قبل إسلامه : أتعرف محمدا صلى الله عليه وسلم كما تعرف ابنك ؟ قال : نعم ، وأكثر لقد بعث الله أمينه في سمائه إلى أمينه في أرضه بنعته ، فعرفته ، أما ابني فلا أدري ما كان من أمر أمه ، فقبل عمر رأسه .

{ وإن فريقا منكم ليكتمون الحق وهم يعلمون } .

وإن طائفة من أهل الكتاب مع ذلك التحقيق والإيقان العلمي من أنك على حق في كل شئونك ليتمادون في إخفائه وجحوده ، وهم يعلمون ما يترتب على ذلك الكتمان من سوء المصير لهم في الدنيا والآخرة .

جاء في تفسير المنار( 9 ) : «كان أهل الكتاب من اليهود والنصارى يتناقلون خبر بعثته ( صلى الله عليه وسلم ) فيما بينهم ويذكرون البشارات به من كتبهم ، حتى إذا ما بعثه الله تعالى بالهدى ودين الحق آمن به كثيرون ، وكان علماءهم يصرحون بذلك كعبد الله بن سلام وأصحابه من علماء اليهود ، وتميم الداري من علماء النصارى وغيرهم من الذين أسلموا في عصر النبي صلى الله عليه وسلم ، والروايات في هذا كثيرة ، ومن أعجبها قصة سلمان الفارسي رضي الله عنه( 10 ) .

وأما الذين أبوا واستكبروا فكانوا يكتمون البشارات به في كتبهم ويؤولون ما بقي منها لمن اطلع عليه ، ويكتمونه عمن لم يطلع عليه ، وقد أربى المتأخرون ولاسيما الإفرنج منهم على المتقدمين في المكابرة والتأويل والتضليل ، لذلك وضح العلامة المحقق الشيخ رحمه الله الهندي هذه المسألة في كتابه ( إظهار الحق ) بأمور جعلها مقدمات لبشارات تلك الكتب به صلى الله عليه وسلم . ( 11 ) .

ومن هذه المقدمات نرى :

إن الأنبياء الإسرائيليين مثل أشعيا وأرميا ودانيال وحزقيال وعيسى عليهم السلام أخبوا عن الحوادث الآتية كحادثة بختنصر وقورش والإسكندر وخلفائه وحوادث أرض أدوم ومصر ونينوي وبابل ، ويبعد كل البعد ألا يخبر أحد منهم عن خروج محمد صلى الله عليه وسلم الذي كسر الجبابرة والأكاسرة وبلغ دينه شرقا وغربا وامتد دهرا بحيث مضى على ظهوره أربعة عشر قرنا ويمتد إن شاء الله إلى آخر بقاء الدنيا( 12 ) .

وقد بشرت التوراة والإنجيل بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم وعلماء اليهود والنصارى يعرفون هذه البشارات ولكنهم ينكرونها لمرض في نفوسهم إلا من عصمه الله منهم فآمن .

جاء في الإصحاح الثاني والسبعين من إنجيل برنابا ، على لسان المسيح عليه السلام :

«إنني قد أتيت لأهيئ الطريق لرسول الله الذي سيأتي بقوة عظيمة على الفجار ، ويبيد عبادة الأصنام من العالم » ثم قال : «وسينتقم من الذين يقولون : إني أكبر من إنسان وسيجيء بحق أجلى منة سائر الأنبياء وسيمتد دينه ويعم العالم » .

وجاء في الإصحاح السابع والستين منه : «تعزيتي في مجيء الرسول الذي سيبيد كل رأى كاذب في وسيمتد دينه ، ويعم العلم بأسره . . . ولا نهاية لدينه ، لأن الله سيحفظه صحيحا » .

والأناجيل الأخرى التي يعترف بها المسيحيون ، والتوراة التي بين أيدينا الآن فيها إشارات عدة ترمز إلى النبي صلى الله عليه وسلم ( 13 ) .