نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي  
{ٱلَّذِينَ ءَاتَيۡنَٰهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ يَعۡرِفُونَهُۥ كَمَا يَعۡرِفُونَ أَبۡنَآءَهُمۡۖ وَإِنَّ فَرِيقٗا مِّنۡهُمۡ لَيَكۡتُمُونَ ٱلۡحَقَّ وَهُمۡ يَعۡلَمُونَ} (146)

ولما ختم الخطاب بالإشارة بقوله : { أهواءهم{[5512]} } إلى علمهم بحقية هذا التحويل تلويحاً كما فتحه بالإعلام به تصريحاً كرّ على تأكيد الإعلام بما هم عليه في أمرها من التحقق{[5513]} إشارة إلى ما تبطنوه{[5514]} من العناد الموجب للتمادي في الفساد فقال مضمراً له على وجه يصلح أن يكون للنبي صلى الله عليه وسلم معظماً لهذه المعرفة بإسناد الإيتاء إليه سبحانه : { الذين آتيناهم }{[5515]} أي بما لنا من العظمة التي هم بها عارفون{[5516]} { الكتاب يعرفونه }{[5517]} أي التحويل المتضمن لزيادة تحققهم لصدق الرسول صلى الله عليه وسلم وكمال{[5518]} علمهم به { كما يعرفون أبناءهم } لا يشكون في حقية ذلك بوجه لظهور دلائله عندهم ، لأنهم يعرفون الرسول صلى الله عليه وسلم بجميع نعوته معرفة{[5519]} لا يشكون فيها لكونها عن الله الذي لا خلف في قوله ، فبذلك صاروا يعرفون صحة هذا التحويل هذه المعرفة ، وذلك كما أنهم لا يشكون في شيء مما تقع به المعرفة لأبنائهم لشدة ملابستهم لهم ؛ والحاصل أن معرفتهم بنبوته تزيدهم في المعرفة بحقية التحويل بصيرة لأنه من نعته ، ومعرفتهم بأمر التحويل{[5520]} يثبتهم في حقية نبوته لكونه مما ثبت منها ، ولذلك قال الحرالي : في إنبائه تحققهم بعيان ما ذكر لهم من أمره ، لأن العارف بالشيء هو الذي كان له به إدراك ظاهر بأدلة ثم أنكره لاشتباهه عليه ثم عرفه لتحقق ذكره لما تقدم من ظهوره في إدراكه ، فلذلك معنى المعرفة لتعلقها بالحس وعيان القلب أتم من العلم المأخوذ عن علم بالفكر{[5521]} ؛ وإنما لم تجز{[5522]} في أوصاف الحق لما في معناها من شرط النكرة ، ولذلك يقال المعرفة حد بين علمين : علم على تشهد{[5523]} الأشياء ببواديها ، وعلم دون يستدل على الأشياء بأعلامها ؛ وفيه أي التشبيه بالأبناء إنباء باتصال معرفتهم به كياناً كياناً إلى ظهوره ، ولو لم يكن شاهده{[5524]} عليهم إلا ارتحالهم من بلادهم من الشام إلى محل الشدائد من أرض الحجاز لارتقابه وانتظاره ( فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به }[ البقرة : 89 ] وأجرى المثل بذكر الأبناء لاشتداد عناية الوالد بابنه لاعتلاقه بفؤاده ، ففيه إنباء بشدة اعتلاقهم به قبل كونه { وإن فريقاً منهم } أي أهل الكتاب { ليكتمون الحق } أي يخفونه ولا يعلنونه . {[5525]}

ولما كان لا يلزم من ذلك علمهم به ولا يلزم من علمهم به استحضاره عند الكتمان قال : { وهم يعلمون } أي أنه حق وأنهم آثمون بكتمانه ، فجعلهم أصنافاً : صنفاً عرفوه فاتبعوه ، وصنفاً عرفوه فأنكروه كما في إفهامه وفريقاً علموه فكتموه ؛ وفي تخصيص هذا الفريق بالعلم إشعار بفرقان ما بين حال من يعرف وحال من يعلم ، فلذلك كانوا ثلاثة أصناف : عارف ثابت ، وعارف منكر{[5526]} هو أردؤهم{[5527]} ، وعالم كاتم لاحق به ؛ وفي مثال يكتمون ويعلمون إشعار بتماديهم في العلم وتماديهم في الكتمان .


[5512]:في م: "بأهواهم"
[5513]:في مد: التحقيق
[5514]:في ظ: يبطنوه
[5515]:ليست في ظ
[5516]:ليست في ظ
[5517]:العبارة من هنا إلى أبناءهم" ليست في م.
[5518]:في ظ: كان
[5519]:زيد من م و ظ
[5520]:زيد من م و ظ ومد
[5521]:وقع في الأصل: الفلك – كذا مصحفا، والتصحيح من بقية الأصول.
[5522]:في م ومد: ولم تجر
[5523]:في م ومد: يشهد
[5524]:من م و ظ ومد، وفي الأصل: شاهدة
[5525]:والحق المكتوم هنا هو نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم –قاله قتادة ومجاهد، أو التوجه إلى الكعبة، أو أن الكعبة هي القبلة،أو أعم من ذلك فيندرج فيه كل حق – البحر المحيط 1/ 436.
[5526]:في ظ: متكبر
[5527]:ي م ومد و ظ: ارداؤهم، وفي الأصل: اراداؤهم - كذا