اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{ٱلَّذِينَ ءَاتَيۡنَٰهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ يَعۡرِفُونَهُۥ كَمَا يَعۡرِفُونَ أَبۡنَآءَهُمۡۖ وَإِنَّ فَرِيقٗا مِّنۡهُمۡ لَيَكۡتُمُونَ ٱلۡحَقَّ وَهُمۡ يَعۡلَمُونَ} (146)

قوله تعالى : في " الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ " : ستة أوجه :

أظهرها : أنه مرفوع بالابتداء ، والخبر قوله : " يعرفونه " .

الثاني : أنه خبر مبتدأ محذوف أي : هم الذين آتيناهم .

الثالث : النصب بإضمار " أعني " .

الرابع : الجر على البدل من " الظَّالمين " .

الخامس : على الصفة للظالمين .

السادس : النصب على البدل من { الَّذين أوتوا الكتاب } في الآية قبلها .

قوله تعالى : " يَعْرِفُونَهُ " فيه وجهان :

أحدهما : أنه خبر ل " الذين آتيناهم " كما تقدم في أحد الأوجه المذكورة في " الَّذِيْنَ آتيناهم " .

الثاني : أنه نصب على الحال على بقية الأقوال المذكورة .

وفي صاحب الحال وجهان :

أحدهما : المفعول الأول ل " آتيناهم " .

والثاني : المفعول الثاني وهو الكتاب ؛ لأن في " يعرفونه " ضميرين يعودان عليهما ، والضمير في " يعرفونه " فيه أقوال :

أحدها : أنه يعود على " الحق " الذي هو التحول ، وهو قول ابن عباس - رضي الله عنهما - وقتادة والربيع وابن زيد .

الثاني : على النبي صلى الله عليه وسلم وشرف وكرم وبجل وعظّم ؛ أي : يعرفونه معرفة جليّة كما يعرفون أبناءهم لا تشتبه أبناؤهم وأبناء غيرهم{[1884]} .

روي عن عمر - رضي الله عنه - أنه سأل عبد الله بن سلام - رضي الله تعالى عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : أنا أعلم به مني بابني ، قال : ولم ؟ قال : لأني لست أشك في محمد أنه نبي ، وأما ولدي فلعل والدته خانت . فقبَّل عمر رأسه{[1885]} .

وجاز الإضمار وإن لم يسبق له ذكر ؛ لأن الكلام يدل عليه ، ولا يلتبس على السامع ، ومثل هذا الإضمار فيه تفخيم وإشعار بأنه لشهرته معلوم بغير إعلام .

قالوا : وهذا القول أولى من وجوه :

أحدها : أن الضمير إنما يرجع إلى مذكور سابق ، وأقرب المذكورات العلم في قوله : { مِّن بَعْدِ مَا جَآءَكَ مِنَ الْعِلْمِ } .

والمراد من ذلك العلم : النبوة ، فكأنه تعالى قال : إنهم يعرفون ذلك العلم كما يعرفون أبناءهم ، وأما أمر القبلة فما تقدم ذكره البتة .

وثانيها : أن الله - تعالى - ما أخبر في القرآن أن أمر تحويل القِبْلة مذكور في التوراة والإنجيل ، وأخبر فيه أن نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وشرف وكرم ومجد وبجل وعظم مذكورة في التوراة والإنجيل ، فكان صرف هذه المعرفة إلى أمر النبوّة أَوْلى .

وثالثها : أن المعجزات لا تدلّ أوّل دلالتها إلا على صدق محمد صلى الله عليه وسلم وشرف وكرم ومجد وبجل وعظّم ، فكان صرف هذه المعرفة إلى أمر النبوة أولى .

وعلى هذا القول أسئلة .

السؤال الأول : أنه لا تعلق لهذا الكلام بما قبله من أمر القبلة .

والجواب : أنه تعالى في الآية المتقدمة لما حذر أمة محمد - عليه الصلاة والسلام - عن اتّباع اليهود والنصارى بقوله تعالى :

{ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم مِّن بَعْدِ مَا جَآءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذَاً لَّمِنَ الظَّالِمِينَ } [ البقرة : 145 ] أخبر المؤمنين بحاله - صلوات الله وسلامه عليه - في هذه الآية فقال : اعلموا يا معشر المؤمنين أن علماء أهل الكتاب يعرفون محمداً ، وما جاء به وصدقه ودعوته وقِبْلَتَه لا يشكّون فيه كما لا يشكون في أبنائهم .

السؤال الثاني : هذه الآية نظيرها قوله تعالى :

{ يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ }[ الأعراف : 157 ] وقال :{ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ } [ الصف : 6 ] إلا أنّا نقول : من المستحيل أن يعرفوه كما يعرفون أبناءهم ، وذلك لأنه وصفه في التوراة والإنجيل : إما أن يكون قد أتى مشتملاً على التفصيل التام ، وذلك إنما يكون بتعيين الزمان والمكان والصفة والخِلْقة والنَّسَب والقبيلة ، أو هذا الوصف ما أتى من هذا النوع من التفصيل ، فإن كان الأول وجب أن يكون بمقدمه في الوقت المعين ، من البلد المعين ، من القبيلة المعينة على الصفة المعينة معلوماً لأهل المشرق والمغرب ؛ لأن التوراة والإنجيل كانا مشهورين فيما بين أهل المشرق والمغرب ، ولو كان الأمر كذلك لما تمكن أحد من النصارى واليهود من إنكار ذلك .

وأما القسم الثاني : فإنه لا يفيد القطع بصدق نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - لأنا نقول : هَبْ أن التوراة اشتملت على أن رجلاً من العرب سيكون نبيّاً إلا أن ذلك الوصف لما لم يكن منتهياً في التفصيل إلى حَدّ اليقين ، لم يلزم من الاعتراف به الاعتراف بنبوّة محمد صلى الله عليه وسلم .

والجواب : أن هذا الإشكال إنما يتوجّه لو قلنا بأن العلم بنبوته إنما حصل من اشتمال التوراة والإنجيل على وصفه ، ونحن لا نقول به ، بل نقول : إنه ادّعى النبوة ، وظهرت المعجزة على يده وكل من كان كذلك كان نبياً صادقاً ، فهذا برهان ، والبرهان يفيد اليقين ، فلا جرم كان العلم بنبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - أقوى وأظهر من العلم ببنوّة الأبناء ، وأبوة الآباء .

السؤال الثالث : فعلى هذا الوجه الذي قرّرتموه كان العلم بنبوة محمد - صلوات الله وسلامه عليه - علماً برهانياً ، غير محتمل للغَلَطِ .

أما العلم بأن هذا ابْني فذلك ليس علماً يقينياً ، بل ظن ومحتمل للغلط ، فلم شبه اليقين بالظن ؟

والجواب : ليس المراد أن العلم بنبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - يشبه العلم ببنوّة الأبناء ، بل المراد به تشبيه العلم بأشخاص الأبناء وذواتهم ، فكما أن الأب يعرف شخص ابنه معرفة لا يشتبه هو عنده بغيره فكذا هاهنا ، وعند هذا يستقيم التشبيه ، لأن هذا العلم ضروري وذلك نظري ، وتشبيه النظري بالضروري يفيد المبالغة وحسن الاستعارة .

السؤال الرابع : لم خص الأبناء بالذكر دون البنات .

الجواب : لأن الذكور أعرف وأشهر ، وهم بصحبة الآباء ألزم ، وبقلوبهم ألصق .

والضمير في " يَعْرِفُونَه " يعود على القرآن الكريم .

وقيل : على العلم .

وقيل : على البيت الحرام .

[ ويعود الضمير إلى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وشرف وكرم ومجد وبجل وعظم . وهو رأي الزمخشري ، واختاره الزَّجاج وغيره ، وقال أبو حيان : هذا من باب الالتفات من الخطاب في قوله : " فَوَلِّ وَجْهَكَ " إلى الغيبة ]{[1886]} .

قوله : " كَمَا يَعْرِفُونَ " " الكاف " في محل نصب إما على كونها نَعْتاً لمصدر محذوف أي : معرفة كائنة مثل معرفتهم أبناءهم ، أو في موضع نصب على الحال من ضمير ذلك المصدر المعرفة المحذوف ، التقدير : يعرفونه معرفة مُمَاثلة لعرفانهم ، وهذا مذهب سيبويه وتقدم تحقيق هذا . و " ما " مصدرية لأنه ينسبك منها ومما بعدها مصدر كما تقدم تحقيقه .

قوله تعالى : { وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ }

[ البقرة : 146 ] .

اعلم أن الذين أوتوا الكتاب وعرفوا الرسول ، فمنهم من آمن به مثل عبد الله بن سلام وأتباعه ، ومنهم من بقي على كفره ، ومن آمن لا يوصف بكتمان الحق ، وإنما يوصف بذلك من بقي على كفره ، لا جرم قال الله تعالى : { وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } فوصف البعض بذلك ، ودلّ بقوله ]{[1887]} : " لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ " على سبيل الذَّم ، على أنّ كتمان الحقّ في الدين محظور إذا أمكن إظهاره ، واختلفوا في المَكْتُوم ، فقيل : أمر محمد - صلى الله عليه وسلم - وقيل : أمر القبلة كما تقدم .

قوله تعالى : " وَهُمْ يَعْلَمُونَ " جملة اسمية في محلّ نصب على الحال من فاعل " يكتمون " ، والأقرب فيها أن تكون حالاً مؤكدة ؛ لأن لفظ " يَكْتُمون الحَقّ " يدل على علمه ، إذ الكتم إخفاء ما يعلم وقيل : متعلق العلم هو ما على الكاتم من العقاب ، أي : وهم يعلمون العقاب المرتب على كاتم الحق ، فتكون إذ ذاك حالاً مبينة ، وهذا ظاهر في أن كفرهم كان عِنَاداً ، ومثله : { وَجَحَدُواْ بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَآ أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً } [ النمل : 14 ] .


[1884]:- الأثر ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (1/270) عن قتادة، وعزاه لعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ.
[1885]:- أخرجه الثعلبي من طريق السدي الصغير عن الكلبي عن ابن عباس؛ كما ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (1/271).
[1886]:- - سقط في ب.
[1887]:- في أ: فبعض الوصف ودل قوله.