وقوله : { أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الأوَّلِ } أي : أفأعجزنا{[27280]} ابتداء الخلق حتى هم في شك من الإعادة ، { بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ } والمعنى : أن ابتداء الخلق لم يعجزنا والإعادة أسهل منه ، كما قال تعالى : { وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ } [ الروم : 27 ] ، وقال الله تعالى : { وَضَرَبَ لَنَا مَثَلا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ } [ يس : 78 - 79 ] ، وقد تقدم في الصحيح : " يقول الله تعالى : يؤذيني ابن آدم ، يقول : لن يعيدني كما بدأني ، وليس أول الخلق بأهون علي من إعادته " {[27281]} .
{ أفعيينا بالخلق الأول } أي أفعجزنا عن الإبداء حتى نعجز عن الإعادة ، من عيي بالأمر إذا لم يهتد لوجه عمله والهمزة فيه للإنكار . { بل هم في لبس من خلق جديد } أي هم لا ينكرون قدرتنا على الخلق الأول بل هم في خلط ، وشبهة في خلق مستأنف لما فيه من مخالفة العادة ، وتنكير الخلق الجديد لتعظيم شأنه والإشعار بأنه على وجه غير متعارف ولا معتاد .
وقوله تعالى : { أفعيينا } توقيف للكفار وتوبيخ وإقامة للحجة الواضحة عليهم ، وذلك أن جوابهم على هذا التوقيف هو لم يقع عي ، ثم هم مع ذلك في لبس من الإعادة . وهذا تناقض ، ويقال عيى يعيى إذا عجز عن الأمر ويلح به ، ويدغم هذا الفعل الماضي من هذا الفعل ولا يدغم المستقبل منه فيقال عي ، ومنه قول الشاعر [ عبيد بن الأبرص ] :
عيوا بأمرهم كما . . . عيت ببيضتها الحمامه{[10525]}
و «الخلق الأول » إنشاء الإنسان من نطفة على التدريج الملعوم ، وقال الحسن : «الخلق الأول » آدم عليه السلام ، حكاه الرماني ، واللبس : الشك والريب واختلاط النظر . والخلق الجديد : البعث في القبور .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
يقول الله تعالى: أعجزت عن الخلق حين خلقتهم، ولم يكونوا شيئا، فكيف أعيى عن بعثهم. فلم يصدقوا، فقال الله تعالى بل يبعثهم الله. ثم استأنف، فقال: {بل هم في لبس من خلق جديد} يقول في شك من البعث بعد الموت...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وهذا تقريع من الله لمشركي قريش الذين قالوا:"أئِذَا مِتْنَا وكُنّا تُرَابا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ "يقول لهم جلّ ثناؤه: أفعيينا بابتداع الخلق الأوّل الذي خلقناه، ولم يكن شيئا فنعيا بإعادتهم خلقا جديدا بعد بلائهم في التراب، وبعد فنائهم، يقول: ليس يعيينا ذلك، بل نحن عليه قادرون...
وقوله: "بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ" يقول تعالى ذكره: ما يشكّ هؤلاء المشركون المكذّبون بالبعث أنا لم نعي بالخلق الأوّل، ولكنهم في شكّ من قُدرتنا على أن نخلقهم خلقا جديدا بعد فنائهم وبَلائهم في قبورهم...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{أفعيينا بالخلق الأول} هو يخرّج على وجهين: أحدها: {أفعيينا} أي أعجزنا عن خلق؟ أي حين لم نعجز عن الخلق الأول، فكيف نسبونا إلى العجز عن الخلق الثاني؟. والثاني: {أفعيينا} أي أجهِلنا، وخفي علينا تدبير الخلق الثاني وابتداء تدبير الخلق الأول؟ وإنشاؤه أشدّ عندهم من إعادته والإعادة عندكم أهون. فإذا لم نعجز عن ابتداء إنشائه، ولم نجهل، ولم يخف علينا الابتداء، فأنّى نعجز عن الإعادة؟...
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
معناه أننا لم نعجز عن إنشاء الخلق الأول، فكيف تشكون في إنشاء خلق جديد، يعني بالبعث بعد الموت، فيكون هذا خارجاً مخرج البرهان والدليل...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
ثم قال الله تعالى على وجه الانكار عليهم، بلفظ الاستفهام "أفعيينا بالخلق الأول " قال الحسن: الخلق الاول آدم وقد يكون ذلك المراد لإقرارهم به وأنهم ولده يقال: عييت بالأمر إذا لم يعرف وجهه واعييت إذا تعبت، وكل ذلك من التعب في الطلب. والمعنى إنا كما لم نعي بالخلق الأول، لا نعيا بخلقهم على وجه الإعادة، والعي: عجز بانقلاب المعنى على النفس. ثم قال " بل هم في لبس من خلق " فاللبس: منع من إدراك المعنى بما هو كالستر له "من خلق جديد" وهو القريب الإنشاء.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
عيي بالأمر: إذا لم يهتد لوجه عمله، والهمزة للإنكار. والمعنى: أنا لم نعجز كما علموا عن الخلق الأول، حتى نعجز عن الثاني، ثم قال: هم لا ينكرون قدرتنا على الخلق الأوّل، واعترافهم بذلك في طيه الاعتراف بالقدرة على الإعادة {بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ} أي في خلط وشبهة. قد لبس عليهم الشيطان وحيرهم... ولبس الشيطان عليهم: تسويله إليهم أن إحياء الموتى أمر خارج عن العادة، فتركوا لذلك القياس الصحيح: أن من قدر على الإنشاء كان على الإعادة أقدر.
فإن قلت: لم نكر الخلق الجديد، وهلا عرّف الخلق الأول؟ قلت: قصد في تنكيره إلى خلق جديد له شأن عظيم وحال شديد. حق من سمع به أن يهتم به ويخاف، ويبحث عنه ولا يقعد على لبس في مثله.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{أفعيينا بالخلق} أي حصل لنا على ما لنا من العظمة الإعياء، وهو العجز بسبب الخلق في شيء من إيجاده وإعدامه {الأول} أي من السماوات والأرض وما بينهما حين ابتدأناه اختراعاً من العدم، ومن خلق الإنسان وسائر الحيوان مجدداً...
يقال: عيي بالأمر -إذا لم يهتد لأمره أو لوجه مراده أو عجز عنه، ولم يطق إحكامه. ولما كان التقدير قطعاً بما دلت عليه همزة الإنكار: لم نعي بذلك بل أوجدناه على غاية الإحكام للظرف والمظروف وهم يعلمون ذلك ولا ينكرونه ويقرون بتمام القدرة عليه، وفي طيه- الاعتراف بالبعث وهم لا يشعرون، أضرب عنه لقولهم الذي يخل باعتقادهم إياه فقال: {بل هم في لبس} أي خلط شديد وشبهة موجبة- للتكلم بكلام مختلط لا يعقل له معنى، بل السكوت عنه أجمل...
. {من} أجل {خلق جديد} أي الإعادة.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
(أفعيينا بالخلق الأول؟).. والخلق شاهد حاضر فلا حاجة إلى جواب! (بل هم في لبس من خلق جديد).. غير ناظرين إلى شهادة الخلق الأول الموجود! فماذا يستحق من يكذب وأمامه ذلك الشاهد المشهود؟!...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
ثمّ يشير القرآن إلى دليل آخر من دلائل إمكان النشور ويوم القيامة فيقول: (أفعيينا بالخلق الأوّل).
ثمّ يضيف القرآن: إنّهم لا يشكّون ولا يتردّدون في الخلق الأوّل لأنّهم يعلمون أنّ خالق الإنسان هو الله ولكنّهم يشكّون في المعاد مع كلّ تلك الدلائل الواضحة: (بل هم في لبس جديد).
وفي الحقيقة إنّهم في تناقض بسبب هوى النفس والتعصّب الأعمى، فمن جهة يعتقدون بأنّ خالق الناس أوّلا هو الله إذ خلقهم من تراب، إلاّ أنّهم من جهة اُخرى حين يقع الكلام على المعاد وخلق الإنسان ثانية من التراب يعدّون ذلك أمراً عجيباً ولا يمكن تصوّره وقبوله، في حين أنّ الأمرين متماثلان: «وحكم الأمثال في ما يجوز وما لا يجوز واحد».
وهكذا فإنّ القرآن يستدلّ على المعاد في هذه الآيات والآيات الآنفة بأربعة طرق مختلفة، فتارةً عن طريق علم الله، واُخرى عن طريق قدرته، وثالثة عن طريق تكرّر صور المعاد ومشاهده في عالم النباتات، وأخيراً عن طريق الالتفات إلى الخلق الأوّل.
ومتى ما عُدنا إلى آيات القرآن الاُخر في مجال المعاد وجدنا هذه الأدلّة بالإضافة إلى أدلّة اُخر وردت في آيات مختلفة وبصورة مستقلّة، وقد أثبت القرآن المعاد بالمنطق القويم والتعبير السليم والاُسلوب الرائع (القاطع) للمنكرين وبيّنه بأحسن وجه.. فلو خضعوا لمنطق العقل وتجنّبوا الأحكام المسبقة والتعصّب الأعمى والتقليد الساذج فسرعان ما يذعنوا لهذه المسألة وسيعلمون بأنّ المعاد أو يوم القيامة ليس أمراً ملتوياً وعسيراً.