اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{أَفَعَيِينَا بِٱلۡخَلۡقِ ٱلۡأَوَّلِۚ بَلۡ هُمۡ فِي لَبۡسٖ مِّنۡ خَلۡقٖ جَدِيدٖ} (15)

قوله : «أَفَعَيِينَا » العامة على ياء مكسورة بعدها ياء ساكنة . وقرأ ابنُ أبي عَبْلَةَ أفعُيِّنا{[52350]} بتشديد الياء من غير إشباع ، وهذه القراءة على إشكالها قرأ بها الوليدُ بن مسلم وأبو جعفر وشيبةُ ونافعٌ في رواية{[52351]} . وروى ابن خالويه عن ابن عبلة أَفَعُيِّينَا كذلك ، لكنه أتى بعد الياء المشددة بأخرى ساكنة{[52352]} وخرجها أبو حيان{[52353]} على لغة من يقول في عَيِيَ عَيَّ وفي حَيِيَ حَيَّ بالإدغام . ثم لما أسند هذا الفعل وهو مدغم اعتبر لغة بكرِ بْنِ وائل وهو أنهم لا يفكون الإدغامَ في مثل هذا إذا أسندوا ذلك الفعل المدغم لتاء المتكلم ولا إحدى أخواتها التي تسكن لها لام الفعل فيقولون في رَدّ ردّت وردّنا ، قال : وعلى هذه اللغة تكون التاء مفتوحة{[52354]} . ولم يذكر توجيه القراءة الأخرى . وتوجيهها أنها من عَيَّا يُعَيِّي كَحلَّى يُحَلِّي .

فصل

ومعنى أفعيينا بالخلق الأول أي أَعَجَزْنَا حين خلقناهم أولاً فتعبنا بالإعادة . وهذا تقريع لهم لأنهم اعترفوا بالخلق الأول وأنكروا البعث ، ويقال لكل من عجز عن شيء عَيِي بِهِ .

{ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ } أي شك { مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ } وهو البعث . والمراد بالخلق الأول قبل خلقهم ابتداء لقوله تعالى : { وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ الله } [ الزخرف : 87 ] . وقيل : هو خلق السماوات لأنه هو الخلق الأول فكأنه تعالى قال : { أَفَلَمْ ينظروا إِلَى السماء } ثم قال : «أَفَعَيِينَا » بهذا ، ويؤيدهُ قوله تعالى : { أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ الله الذي خَلَقَ السماوات والأرض وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ } [ الأحقاف : 33 ] وقال بعد هذه الآية : { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان } وعطفه بحرف الواو على ما تقدم من الخلق ، وهو بناء السماوات ، ومدّ الأرض ، وتنزيل الماء وإنبات الحبِّ{[52355]} .

فصل

عطف دلائل الآفاق بعضها على بعض بحرف الواو فقال : «وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا ونَزَّلْنَا مِنَ السماء مَاءً » ، ثم في الدليل النفسيّ ذكر حرف الاستفهام ، والفاء بعده إشارة إلى أن تلك الدلائل من جنس ، وهذا من جنس ، فلم يجعل هذا تبعاً لذلك ، ومثل هذا مراعى في سورة «يس » حيث قال : { أَوَلَمْ يَرَ الإنسان أَنَّا خَلَقْنَاهُ }{[52356]} [ يس : 77 ] .

فإن قيل : لِمَ لَمْ يعطف الدليل الآفاقيّ ههنا كما عطفه في سورة يس ؟

فالجواب - والله أعلم - أن ههنا وُجِدَ منهم استبعاد بقولهم : { ذَلِكَ رَجْعُ بَعِيدٌ } فاستدل بالأكبر وهو خلق السماوات ، ثم نزل كأنه قال : لا حاجة إلى ذلك الاستدلال بل في أنفسهم دليل جواز إرْشادِهِمْ لا ليدفع استبعادهم فبدأ بالأَدْنَى وارتقى إلى الأعْلى .

فصل

في تعريف «الخلق الأول » وتنكير «خلق جديد » وجهان :

الأول : أن الأول عرفه كل أحد و«الخلق الجديد » لم يعرفه كل أحد ولم يعلم كيفيته ولأنَّ الكلام عنهم وهم لم يكونوا عالمين بالخلق الجديد .

الثاني : أن ذلك لبيان إنكارهم للخلق الثاني من كل وجه كأنهم قالوا : أيكون لنا خلق على وجه إنكار الإله بالكلية{[52357]} .


[52350]:في (ب) أفعيينا تحريف.
[52351]:نقله أبو حيان في البحر 8/123 عن الهُذَليّ صاحب القراءات الخمسين. وهي شاذة. ولم أجد هذه القراءة إلا في البحر لصاحبه أبي حيان.
[52352]:مختصر ابن خالويه 144.
[52353]:قال: وفكرت في توجيه هذه القراءة إذ لم يذكر أحد توجيهها فخرجتها على لغة من أدغم الياء في الياء في الماضي فقال: عيّ وحيّ، فلما أدغم ألحقه ضمير المتكلم المعظّم نفسه ولم يفك الإدغام فقال عينا وهي لغة لبعض بكر بن وائل يقولون في رددتُ ورددنا: ردّت وردّنا، فلا يفكون. وانظر البحر 8/123.
[52354]:المرجع السابق.
[52355]:انظر البغوي في معالم التنزيل 6/235 والرازي في التفسير الكبير 28/161 و162.
[52356]:وانظر تفسير الرازي السابق.
[52357]:وانظر في هذا كله تفسير العلامة الرازي 28/161 و 162.