وتقدم الكلام على هذه القصة مستوفى في سورة " الأعراف " {[14717]} بما أغنى عن إعادته ها هنا ، وبالله التوفيق .
القول في تأويل قوله تعالى : { فَلَمّا جَآءَ أَمْرُنَا نَجّيْنَا صَالِحاً وَالّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مّنّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنّ رَبّكَ هُوَ الْقَوِيّ الْعَزِيزُ } .
يقول تعالى ذكره : فلما جاء ثمود عذابنا ، نَجّيْنا صَالِحا وَالّذِينَ آمَنُوا به مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنّا يقول : بنعمة وفضل من الله . وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ يقول : ونجيناهم من هوان ذلك اليوم وذُلّة بذلك العذاب . إنّ رَبّكَ هُوَ القَوِيّ في بطشه إذا بطش بشيء أهلكه ، كما أهلك ثمود حين بطش بها العزيز ، فلا يغلبه غالب ولا يقهره قاهر ، بل يغلب كلّ شيء ويقهره .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : بِرَحْمَةٍ مِنّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ قال : نجاه الله برحمة منا ، ونجاه من خزي يومئذ .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن أبي بكر بن عبد الله ، عن شهر بن حوشب عن عمرو بن خارجة قال : قلنا له : حدّثنا حديث ثمود قال : أحدثكم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ثمود : «كانت ثمود قوم صالح ، أعمرهم الله في الدنيا فأطال أعمارهم حتى جعل أحدهم يبني المسكن من المدَر ، فينهدم والرجل منهم حيّ ، فلما رأوا ذلك اتخذوا من الجبال بيوتا فَرِهين ، فنحتوها وجوّفوها ، وكانوا في سعة من معايشهم ، فقالوا : يا صالح ادع لنا ربك يخرج لنا آية نعلم أنك رسول الله فدعا صالح ربه ، فأخرج لهم الناقة ، فكان شِرْبُها يوما وشِرْبهم يوما معلوما . فإذا كان يوم شربها خلوا عنها وعن الماء وحلبوها لبنا ، ملأوا كلّ إناء ووعاء وسقاء ، حتى إذا كان يوم شربهم صرفوها عن الماء ، فلم تشرب منه شيئا ، ملأوا كلّ إناء ووعاء وسقاء . فأوحى الله إلى صالح : إن قومك سيعقرون ناقتك فقال لهم ، فقالوا : ما كنا لنفعل فقال : إلا تعقروها أنتم يوشك أن يولد فيكم مولود . قالوا : ما علامة ذلك المولود ؟ فوالله لا نجده إلا قتلناه قال : فإنه غلام أشقر أزرق أصهب أحمر . قال : وكان في المدينة شيخان عزيزان منيعان ، لأحدهما ابن يرغب به عن المناكح ، وللاَخر ابنة لا يجد لها كفؤا ، فجمع بينهما مجلس ، فقال أحدهما لصاحبه : ما يمنعك أن تزوّج ابنك ؟ قال : لا أجد له كفؤا ، قال : فإن ابنتي كفؤٌ له ، وأنا أزوّجك فزوّجه ، فولد بينهما ذلك المولود . وكان في المدينة ثمانية رهط يفسدون في الأرض ، ولا يصلحون ، فلما قال لهم صالح : إنما يعقرها مولود فيكم ، اختاروا ثماني نسوة قوابل من القرية ، وجعلوا معهنّ شُرَطا كانوا يطوفون في القرية ، فإذا وجدوا المرأة تُمْخَض ، نظروا ما ولدها إن كان غلاما قلبنه ، فنظرن ما هو ، وإن كانت جارية أعرضن عنها ، فلما وجدوا ذلك المولود صرخ النسوة وقلن : هذا الذي يريد رسول الله صالح فأراد الشرط أن يأخذوه ، فحال جدّاه بينهم وبينه وقالا : لو أن صالحا أراد هذا قتلناه فكان شرّ مولود ، وكان يشِبّ في اليوم شبابَ غيرِه في الجمعة ، ويشبّ في الجمعة شَبابَ غيره في الشهر ، ويشبّ في الشهر شبابَ غيره في السنة . فاجتمع الثمانية الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون وفيهم الشيخان ، فقالوا نستعمل علينا هذا الغلام لمنزلته وشرف جدّيه ، فكانوا تسعة . وكان صالح لا ينام معهم في القرية ، كان في مسجد يقال له مسجد صالح ، فيه يبيت بالليل ، فإذا أصبح أتاهم فوعظهم وذكرهم ، وإذا أمسى خرج إلى مسجده فبات فيه » . قال حجاج : وقال ابن جريج : «لما قال لهم صالح : إنه سيولد غلام يكون هلاككم على يديه ، قالوا فكيف تأمرنا ؟ قال : آمركم بقتلهم فقتلوهم إلا واحدا . قال : فلما بلغ ذلك المولود قالوا : لو كنا لم نقتل أولادنا ، لكان لكل رجل منا مثل هذا ، هذا عمل صالح . فأتمروا بينهم بقتله ، وقالوا : نخرج مسافرين والناس يروننا عَلانية ، ثم نرجع من ليلة كذا من شهر كذا وكذا فنرصده عند مصلاه فنقتله ، فلا يحسب الناس إلا أنا مسافرون كما نحن فأقبلوا حتى دخلوا تحت صخرة يرصدونه ، فأرسل الله عليهم الصخرة فرضختهم ، فأصبحوا رَضخا . فانطلق رجال ممن قد اطلع على ذلك منهم ، فإذا هم رضخ ، فرجعوا يصيحون في القرية : أي عبادَ الله ، أما رضي صالح أن أمرهم أن يقتلوا أولادهم حتى قتلهم ؟ فاجتمع أهل القرية على قتل الناقة أجمعون ، وأحجموا عنها إلا ذلك الابن العاشر . » ثم رجع الحديث إلى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : «وأرادوا أن يمكروا بصالح ، فمشَوا حتى أتوا على سَرَب على طريق صالح ، فاختبأ فيه ثمانية ، وقالوا : إذا خرج علينا قتلناه وأتينا أهله فبيتناهم فأمر الله الأرض فاستوت عليهم » . قال : «فاجتمعوا ومشَوا إلى الناقة وهي على حوضها قائمة ، فقال الشقيّ لأحدهم : ائتها فاعقرها فأتاها فتعاظمه ذلك ، فأضرب عن ذلك ، فبعث آخَر فأعظم ذلك ، فجعل لا يبعث رجلاً إلا تعاظمه أمرها حتى مشَوا إليها ، وتطاول فضرب عرقوبيها ، فوقعت تركض ، وأتى رجل منهم صالحا ، فقال : أدرك الناقة فقد عقرت فأقبل ، وخرجوا يتلقونه ويعتذرون إليه : يا نبي الله إنما عقرها فلان ، إنه لا ذنب لنا . قال : فانظروا هل تُدْرِكون فصيلها ، فإن أدركتموه ، فعسى الله أن يرفع عنكم العذاب فخرجوا يطلبونه ، ولما رأى الفصيلُ أمه تضطرب أتى جبلاً يقال له القارة قصيرا ، فصعد وذهبوا ليأخذوه ، فأوحي الله إلى الجبل ، فطال في السماء حتى ما يناله الطير » . قال : «ودخل صالح القرية ، فلما رآه الفصيل بكى حتى سالت دموعه ، ثم استقبل صالحا فَرَغا رَغْوة ، ثم رغا أخرى ، ثم رغا أخرى ، فقال صالح لقومه : لكل رَغوة أجل يوم تَمَتّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أيّامٍ ذلكَ وَعْدٌ غيرُ مَكْذُوبٍ ألا إن آية العذاب أن اليوم الأول تصبح وجوهكم مصفرة ، واليوم الثاني محمرة ، واليوم الثالث مسودّة فلما أصبحوا فإذا وجوههم كأنها طُلِيَت بالخَلُوق ، صغيرهم وكبيرهم ، ذكرهم وأنثاهم . فلما أمْسَوْا صاحوا بأجمهم : ألا قد مضى يوم من الأجل وحضركم العذاب فلما أصبحوا اليوم الثالث إذا وجوههم محمرة كأنها خُضِبت بالدماء ، فصاحوا وضجوا وبكوا وعرفوا آية العذاب . فلما أمسوْا صاحوا بأجمعهم : ألا قد مضى يومان من الأجل وحضركم العذاب فلما أصبحوا اليوم الثالث فإذا وجوههم مسودّة كأنها طُليت بالقار ، فصاحوا جميعا : ألا قد حضركم العذاب فتكفنوا وتحنّطوا ، وكان حَنوطهم الصبر والمَقْر ، وكانت أكفانهم الأنطاع . ثم ألَقْوا أنفسهم بالأرض ، فجعلوا يقلبون أبصارهم ، فينظرون إلى السماء مرّة وإلى الأرض مرّة ، فلا يدرون من حيث يأتيهم العذاب من فوقهم من السماء أو من تحت أرجلهم من الأرض خَسْفا وغرقا . فلما أصبحوا اليوم الرابع أتتهم صيحة من السماء فيها صوت كلّ صاعقة ، وصوت كل شيء له صوت في الأرض ، فتقطعت قلوبهم في صدورهم ، فأصبحوا في دارهم جاثمين » .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : حُدّثت أنه لما أخذتهمُ الصيحة أهلك الله مَنْ بين المشارق والمغارب منهم إلا رجلاً واحدا كان في حَرَم الله ، منعه حَرَم الله من عذاب الله . قيل : ومن هو يا رسول الله ، قال : «أبو رِغال » . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أتى على قرية ثمود لأصحابه : «لا يَدْخُلَنّ أحَدٌ مِنْكُمُ القَرْيَةَ وَلا تَشْرَبُوا مِنْ مائهِمْ » وأراهم مرتقي الفصيل حين ارتقي في القَارَة . قال ابن جريج ، وأخبرني موسى بن عُقْبة ، عن عبد الله بن دينار ، عن ابن عمر : أن النبيّ صلى الله عليه وسلم حين أتى على قرية ثمود قال : «لا تَدْخُلُوا على هؤلاءِ المَعَذّبِينَ إلاّ أنْ تَكُونُوا باكِينَ ، فإنْ لَمْ تَكُونُوا باكينَ فَلا تَدْخُلُوا عَلَيْهمْ أنْ يُصِيبَكُمْ ما أصَابَهُمْ » . قال ابن جريج : قال جابر بن عبد الله . إن النبيّ صلى الله عليه وسلم لما أتى على الحِجْر ، حمِد الله وأثنى عليه ثم قال : «أمّا بَعْدُ ، فَلا تَسألُوا رَسُولَكُمُ الاَياتِ ، هَؤُلاءِ قَوْمُ صَالِحٍ سألُوا رَسوَلهُمُ الآية ، فَبَعَثَ اللّهُ لَهُمُ النّاقَةَ ، فَكانَتْ تَرِدُ منْ هَذَا الفَجّ وتَصْدُرُ مِنْ هَذَا الفَجّ ، فَتَشْرَبُ ماءَهُمْ يَوْمَ وُرُودِها » .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : ذُكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم لما مرّ بوادي ثمود ، وهو عامد إلى تَبُوك قال : فأمر أصحابه أن يسرعوا السير ، وأن لا ينزلوا به ، ولا يشربوا من مائه ، وأخبرهم أنه وادٍ ملعون . قال : وذُكِر لنا أن الرجل الموسر من قوم صالح كان يعطِي المعسر منهم ما يتكفّنون به ، وكان الرجل منهم يَلْحَد لنفسه ولأهل بيته ، لميعاد نبيّ الله صالح الذي وعدهم وحدّث من رآهم بالطرق والأفنية والبيوت ، فيهم شبان وشيوخ أبقاهم الله عبرة وآية .
حدثنا إسماعيل بن المتوكل الأشجعي من أهلِ حمص ، قال : حدثنا محمد بن كثير ، قال : حدثنا عبد الله بن واقد ، عن عبد الله بن عثمان بن خثيم ، قال : حدثنا أبو الطفيل ، قال : لما غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة تَبُوك ، نزل الحِجر فقال : «يا أيّها النّاسُ لا تَسألُوا نَبِيّكُمُ الاَياتِ هَؤلاءِ قَوْمُ صَالِحٍ سألُوا نَبِيّهُمْ أنْ يَبْعَثَ لَهُمْ آيَةً ، فَبَعَثَ اللّهُ لَهُمُ النّاقَةَ آيَةً ، فَكانَتْ تَلِجُ عَلَيْهِمْ يَوْمَ وُرُودِهُمُ الّذِي كانُوا يَتَرَوّونَ مِنْهُ ، ثُمّ يَحْلُبُونَها مِثْلَ ما كانُوا يَتَرَوّوْنَ مِنْ مائهِمْ قَبْلَ ذلكَ لَبَنا ، ثُمّ تَخْرُجُ مِن ذلكَ الفَجّ ، فَعَتَوْا عَنْ أمْرِ رَبّهِمْ وَعَقَرُوها ، فَوَعَدَهُمُ اللّهُ العَذَابَ بَعْدَ ثَلاثَةِ أيّامٍ ، وكانَ وَعْدا مِنَ اللّهِ غيرَ مَكْذُوبٍ ، فأهْلَكَ اللّهُ مَنْ كانَ مِنْهُمْ فِي مَشارِقِ الأرْضِ وَمَغارِبِها إلاّ رَجُلاً وَاحِدا كانَ فِي حَرَمِ اللّهِ ، فَمَنَعَهُ حَرَمُ اللّهِ مِنْ عَذَابِ اللّهِ » قالُوا : وَمَنْ ذلكَ الرّجُلُ يا رَسُولَ اللّهِ ؟ قالَ : «أبُو رُغال » .
{ فلما جاء أمرنا نجّينا صالحا والذين آمنوا معه برحمة منا ومن خزي يومئذ } أي ونجيناهم من خزي يومئذ وهو هلاكهم بالصيحة أو ذلهم وفضيحتهم يوم القيامة . وعن نافع { يومئذ } بالفتح على اكتساب المضاف البناء من المضاف إليه هنا وفي " المعارج " في قوله : { من عذاب يومئذ } { إن ربك هو القوي العزيز } القادر على كل شيء والغالب عليه .
تقدّم الكلام على نظائر بعض هذه الآية في قصّة هود في سورة الأعراف .
وعطف { ومن خِزي يومئذٍ } على متعلّق { نجّينا } المحذوف ، أي نجّينا صالحاً عليه السّلام ومَن معه من عذاب الاستئصال ومن الخزي المكيّف به العذاب فإنّ العذاب يكون على كيفيات بعضها أخزى من بعض . فالمقصود من العطف عطف منّة على منّة لا عطف إنجاء على إنجاء ، ولذلك عطف المتعلّق ولم يعطف الفعل ، كما عطف في قصة عاد { نجينا هوداً والذين آمنوا معه برحمة منّا ونجّيناهم من عذاب غليظ } [ هود : 58 ] لأنّ ذلك إنجاء من عذاب مغاير للمعطوف عليه .
وتنوين { يومئذٍ } تنوين عوض عن المضاف إليه . والتقدير : يوم إذ جاء أمرنا .
والخزي : الذّلّ ، وهو ذلّ العذاب ، وتقدّم الكلام عليه قريباً .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
قوله: {فلما جاء أمرنا}، يعني قولنا في العذاب، {نجينا صالحا والذين ءامنوا معه برحمة منا} يعني بنعمة عليهم منا، {ومن خزي يومئذ}، يعني ونجيناهم من عذاب يومئذ، {إن ربك هو القوي} في نصر أوليائه، {العزيز} يعني المنيع في ملكه وسلطانه حين أهلكهم...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: فلما جاء ثمود عذابنا، "نَجّيْنا صَالِحا وَالّذِينَ آمَنُوا "به "مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنّا" يقول: بنعمة وفضل من الله. "وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ" يقول: ونجيناهم من هوان ذلك اليوم وذُلّه بذلك العذاب. "إنّ رَبّكَ هُوَ القَوِيّ" في بطشه إذا بطش بشيء أهلكه، كما أهلك ثمود حين بطش بها، "العزيز"، فلا يغلبه غالب ولا يقهره قاهر، بل يغلب كلّ شيء ويقهره...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
(فلما جاء أمرنا) أي جاء ما أمر به كما يقال: جاء وعد ربنا، أي جاء موعود ربنا لأن وعده وأمره لا يجيء، ولكن جاء ما أمر به وما وعد به، وهو العذاب. أو يقول: جاء أي أتى وقت وقوع ما أمر به ووعد، وهو العذاب الذي وعد، وأمر به، والله أعلم...
(ومن خزي يومئذ) قيل: الخزي العذاب الذي يفضحهم، وقيل: كل عذاب فهو خزي، أي نجاهم من خزي ذلك اليوم.
(إن ربك هو القوي العزيز) قيل: (القوي) هو الذي لا يعجزه شيء، و (العزيز) هو الذي يذل من دونه. وقيل (القوي) المنتقم المنتصر لأوليائه من أعدائه، (العزيز) هو المنيع في ملكه وسلطانه الذي لا يعجزه شيء...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
"ومن خزي يومئذ" فالخزي: العيب الذي تظهر فضيحته ويستحيا من مثله... وقوله: "أن ربك هو القوي العزيز "فالقوي: هو القادر، والعزيز هو القادر على منع غيره من غير أن يقدر أحد على منعه، وأصله المنع، فمنه عز علي الشيء: إذا امتنع بقلبه، ومنه العزاز: الأرض الصلبة الممتنعة بالصلابة، ومنه تعزز بفلان أي امتنع به...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
... كانت التنجية من خزي يومئذ، أي من ذله ومهانته وفضيحته، ولا خزي أعظم من خزي من كان هلاكه بغضب الله وانتقامه. ويجوز أن يريد بيومئذ يوم القيامة، كما فسر العذاب الغليظ بعذاب الآخرة...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{برحمة منا} يحتمل أن يقصد أن التنجية إنما كانت بمجرد الرحمة، ويحتمل أن يكون وصف حال فقط: أخبر أنه رحمهم في حال تنجية... والإشارة بقوله: {يومئذ} إلى يوم التعذيب...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
أشار إلى تعقب العذاب للأيام وتسببه عن الوعيد المعين بقوله: {فلما جاء أمرنا} بالفاء بخلاف ما في قصة هود وشعيب عليهما السلام، أي مع مضي الأيام كان أول ما فعالنا أن {نجينا} بما لنا من العظمة أولياءنا {صالحاً والذين آمنوا معه} من كيد قومهم، وبين أن إحسانه سبحانه لا يكون إلا فضلاً منه بقوله: {برحمة منا}... ولما ذكر نجاتهم من كل هلكة، ذكر نجاتهم من خصوص ما عذب به قومهم فقال: {ومن} أي ونجيناهم من {خزي} أي ذل وفضيحة {يومئذ} أي يوم إذ جاء أمرنا بإهلاكهم بالصيحة وحل بهم دونهم فرقاً بين أوليائنا و أعدائنا، وحذف "نجينا "هنا يدل على أن عذابهم دون عذاب عاد؛ ثم عقب ذلك بتعليله إهلاكاً وإنجاء باختصاصه بصفات القهر والغلبة والانتقام فقال: {إن ربك} أي المحسن إليك كما أحسن إلى الأنبياء من قبلك {هو} أي وحده {القوي} فهو يغلب كل شيء {العزيز} أي القادر على منع غيره من غير أن يقدر أحد عليه أو على الامتناع منه، من عز الشيء أي امتنع، ومنه العزاز -للأرض الصلبة الممتنعة بذلك عن التصرف فيها...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
هذه الآية كالآية 57 في قصة هود ومعناهما واحد، إلا أن هذه جاءت بالفاء [فلما] وتلك بالواو وهو الأصل في مثل هذا العطف، وإنما كانت الفاء هي المناسبة لما هنا لأن ما قبلها جاء بالفاءات المتعاقبة الواقعة في مواقعها من أمر الإنذار فالوعيد على المخالفة فالمخالفة فتحديد موعد العذاب بثلاثة أيام فالإخبار بإنجازه ووقوعه-فما كان المناسب في هذا إلا أن يكون بالفاء تعقيبا على ما قبله كما قال في آخر سورة الشمس {فقال لهم رسول الله ناقة الله وسقياها فكذبوه فعقروها فدمدم عليهم ربهم بذنبهم فسواها} [الشمس: 13، 14] وإنما بينت من نكت البلاغة لأنني لم أره في التفاسير التي تعنى بها. فليتأمل القارئ هذه الدقة الغريبة في اختلاف التعبير عن المعنى الواحد في الموضوع الواحد والفروق الدقيقة في العطف، فإنها لا توجد في كلام أحد من بلغاء البشر البتة...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
في هذه الآيات يتبيّن كيف نزل العذاب على قوم صالح المعاندين بعد أن أمهلهم وقال لهم: (تمتعوا في داركم ثلاثة أيّام) فتقول الآيات: (فلما جاء أمرنا نجّينا صالحاً والذين آمنوا معه برحمة منّا) لا من العذاب الجسماني والمادي فحسب، بل (ومن خزي يومئذ).
لأنّ الله قوي وقادر على كل شيء، وله السلطة على كل أمر، ولا يصعب عليه أي شيء ولا قدرة فوق قدرته (إنّ ربّك هو القوي العزيز).
وعلى هذا فإنّ نجاة جماعة من المؤمنين من بين جماعة كثيرة تبتلى بعذاب الله ليس بالأمر المشكل بالنسبة لقدرة الله تعالى.