يقول تعالى مخبرا عن نفسه الكريمة وحكمه العادل : إنه لا يضل قوما بعد بلاغ{[13941]} الرسالة إليهم ، حتى يكونوا قد قامت عليهم الحجة ، كما قال تعالى : { وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى } الآية [ فصلت : 17 ] .
وقال مجاهد في قوله تعالى : { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ } قال : بيان الله ، عز وجل ، للمؤمنين في الاستغفار للمشركين خاصة ، وفي بيانه طاعته ومعصيته عامة ، فافعلوا أو ذَروا .
وقال ابن جرير : يقول الله تعالى : وما كان الله ليقضي عليكم في استغفاركم لموتاكم المشركين بالضلال بعد إذ رزقكم الهداية ووفقكم للإيمان به وبرسوله ، حتى يتقدم إليكم بالنهي عنه فتتركوا ، فأما قبل أن يبين لكم كراهيته{[13942]} ذلك بالنهي عنه ، ثم تتعدوا نهيه إلى ما نهاكم عنه ، فإنه لا يحكم عليكم بالضلال ، فإن الطاعة والمعصية إنما يكونان من المأمور والمنهي ، وأما من لم يُؤمَر ولم يُنْهَ فغير كائن مطيعا أو عاصيًا فيما لم يؤمر به ولم ينه عنه .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِلّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتّىَ يُبَيّنَ لَهُم مّا يَتّقُونَ إِنّ اللّهَ بِكُلّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } .
يقول تعالى ذكره : وما كان الله ليقضي عليكم في استغفاركم لموتاكم المشركين بالضلال بعد إذ رزقكم الهداية ووفقكم للإيمان به وبرسوله ، حتى يتقدم إليكم بالنهي عنه فتتركوا الانتهاء عنه فأما قبل أن يبين لكم كراهية ذلك بالنهي عنه ثم تتعدوا نهيه إلى ما نهاكم عنه ، فإنه لا يحكم عليكم بالضلال ، لأن الطاعة والمعصية إنما يكونان من المأمور والمنهى ، فأما من لم يؤمر ولم ينه فغير كائن مطيعا أو عاصيا فيما لم يؤمر به ولم ينه عنه . إنّ اللّهَ بِكُلّ شَيْء عَلِيمٌ يقول تعالى ذكره : إن الله ذو علم بما خالط أنفسكم عند نهي الله إياكم عن الاستغفار لموتاكم المشركين من الجزع على ما سلف منكم من الاستغفار لهم قبل تقدمه إليكم بالنهي عنه وبغير ذلك من سرائر أموركم وأمور عباده وظواهرها ، فبين لكم حلمه في ذلك عليكم ليضع عنكم ثقل الوجد بذلك .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : لِيُضِلّ قَوْما بَعْدَ إذْ هَدَاهُمْ حتى يُبَيّنَ لَهُمْ ما يَتّقُونَ قال : بيان الله للمؤمنين في الاستغفار للمشركين خاصة ، وفي بيانه طاعته ومعصيته ، فافعلوا أو ذروا .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : وَما كانَ اللّهُ لِيُضِلّ قَوْما بَعْدَ إذْ هَدَاهُمْ حتى يُبَيّنَ لَهُمْ ما يَتّقُونَ قال : بيان الله للمؤمنين أن لا يستغفروا للمشركين خاصة ، وفي بيانه طاعته ومعصيته عامة ، فافعلوا أو ذروا .
قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، نحوه .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، قوله : وَما كانَ اللّهُ لِيُضِلّ قَوْما بَعْدَ إذْ هَدَاهُمْ حتى يُبَيّنَ لَهُمْ ما يَتّقُونَ قال : يبين الله للمؤمنين في أن لا يستغفروا للمشركين في بيانه في طاعته وفي معصيته ، فافعلوا أو ذروا .
{ وما كان الله ليضل قوما } أي ليسميهم ضُلاّلاً ويؤاخذه مؤاخذتهم { بعد إذ هداهم } للإسلام . { حتى يبين لهم ما يتقون } حتى يبين لهم خطر ما يجب اتقاؤه ، وكأنه بيان عذر الرسول عليه الصلاة والسلام في قوله لعمه أو لمن استغفر لأسلافه المشركين قبل المنع . وقيل إنه في قوم مضوا على الأمر الأول في القبلة والخمر ونحو ذلك ، وفي الجملة دليل على أن الغافل غير مكلف . { إن الله بكل شيء عليم } فيعلم أمرهم في الحالين .
وقوله تعالى : { وما كان الله ليضل قوماً } الآية معناه التأنيس للمؤمنين ، وقيل : إن بعضهم خاف على نفسه من الاستغفار للمشركين دون أمر من الله تعالى فنزلت الآية مؤنسة ، أي ما كان الله بعد أن هدى إلى الإسلام وأنقذ من النار ليحبط ذلك ويضل أهله لمواقعتهم ذنباً لم يتقدم منه نهي عنه ، فأما إذا بين لهم ما يتقون من الأمور ويتجنبون من الأشياء فحينئذ من واقع بعد النهي استوجب العقوبة ، وقيل : إن هذه الآية إنما نزلت بسبب قوم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا غيباً فحولت القبلة فصلوا قبل أن يصلهم ذلك إلى بيت المقدس ، وآخرين شربوا الخمر بعد تحريمها قبل أن يصل إليهم ، فخافوا على أنفسهم وتكلموا في ذلك فنزلت الآية ، والقول الأول أصوب وأليق بالآية .
عطف على جملة : { وما كان استغفار إبراهيم } [ التوبة : 114 ] لاعتذار عن النبي وإبراهيم عليهما الصلاة والسلام في استغفارهما لمن استغفرا لهما من أولي القربى كأبي طالب وآزر ومن الأمة كعبد الله بن أبي بن سلول بأن فعلهما ذلك ما كان إلا رَجاءً منهما هُدى من استغفرا له ، وإعانة له إن كان الله يريده ، فلما تبين لهما الثابتُ على كفره إما بموته عليه أو باليأس من إيمانه تركا الاستغفار له ، وذلك كله بعد أن أبلغا الرسالة ونصحا لمن استغفرا له . ولأجل هذا المعنى مهد الله لهما الاعتذار من قبل بقوله : { من بعدِ ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم } [ التوبة : 113 ] وقولِه : { فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه } [ التوبة : 114 ] . وفي ذلك معذرة للمؤمنين المستغفرين للمشركين من أولي قرابتهم قبل هذا النهي . فهذا من باب { عفا الله عنك لم أذنت لهم } [ التوبة : 43 ] .
وفيه تسجيل أيضاً لكون أولئك المشركين أحرياء بقطع الاستغفار لهم لأن أنبياء الله ما قطعوه عنهم إلا بعد أن أمهلوهم ووعدوهم وبينوا لهم وأعانوهم بالدعاء لهم فما زادهم ذلك إلا طغياناً .
ومعنى : { وَمَا كَانَ الله لِيُضِلَّ قَوْماً } أن ليس من شأنه وعادة جلاله أن يكتب الضلال لقوم بعد إذ هداهم بإرسال الرسل إليهم وإرشادهم إلى الحق حتى يبين لهم الأشياء التي يريد منهم أن يتقوها ، أي يتجنبوها . فهنالك يُبلغ رسله أن أولئك من أهل الضلال حتى يتركوا طلب المغفرة لهم كما قال لنوح عليه السَّلام : { فلا تسألنِ ما ليس لك به علم } [ هود : 46 ] ولا كان من شأنه تعالى أن يكتب الضلال لقوم بعد إذ هداهم للإيمان واهتدوا إليه لعمل عملوه حتى يبين لهم أنه لا يرضى بذلك العمل .
ثم إن لفظ الآية صالح لإفادة معنى أن الله لا يؤاخذ النبي صلى الله عليه وسلم ولا إبراهيم عليه السلام ولا المسلمين باستغفارهم لمن استغفروا له من قبل ورود النهي وظهور دليل اليأس من المغفرة ، لأن الله لا يؤاخذ قوماً هداهم إلى الحق فيكتبهم ضُلالاً بالمعاصي حتى يبين لهم أن ما عملوه معصية ، فموقع هذه الآية بعد جميع الكلام المتقدم صيّرها كلاماً جامعاً تذييلاً .
وجملة { إن الله بكل شيء عليم } تذييل مناسب للجملة السابقة ، ووقوع { إن } في أولها يفيد معنى التفريع . والتعليل مضمون للجملة السابقة ، وهو أن الله لا يضل قوماً بعد أن هداهم حتى يبين لهم الحق .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: وما كان الله ليقضي عليكم في استغفاركم لموتاكم المشركين بالضلال بعد إذ رزقكم الهداية ووفقكم للإيمان به وبرسوله، حتى يتقدم إليكم بالنهي عنه فتتركوا الانتهاء عنه، فأما قبل أن يبين لكم كراهية ذلك بالنهي عنه ثم تتعدوا نهيه إلى ما نهاكم عنه، فإنه لا يحكم عليكم بالضلال، لأن الطاعة والمعصية إنما يكونان من المأمور والمنهي، فأما من لم يؤمر ولم ينه فغير كائن مطيعا أو عاصيا فيما لم يؤمر به ولم ينه عنه.
"إنّ اللّهَ بِكُلّ شَيْء عَلِيمٌ" يقول تعالى ذكره: إن الله ذو علم بما خالط أنفسكم عند نهي الله إياكم عن الاستغفار لموتاكم المشركين من الجزع على ما سلف منكم من الاستغفار لهم قبل تقدمه إليكم بالنهي عنه وبغير ذلك من سرائر أموركم وأمور عباده وظواهرها، فبين لكم حلمه في ذلك عليكم ليضع عنكم ثقل الوجد بذلك...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
قوله "ليضل قوما "معناه -هاهنا- لم يكن الله ليحكم بضلال من عدل عن طريق الحق على وجه الذم له إلا بعد أن ينصب له على ذلك الدليل، والهدى هو الحكم بالاهتداء إلى الحق على وجه الحمد له..
والبيان والبرهان والحجة والدلالة بمعنى واحد، وفرق الرماني بين البيان والبرهان، فقال: البيان: إظهار المعنى في نفسه بمثل إظهار نقيضه. والبرهان: إظهار صحته بما يستحيل في نقيضه...
تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :
(حتى يبين لهم ما يتقون) فيتركوا. وعن أبي عمرو بن العلاء قال: معناه: حتى يحتج عليهم بالأمر.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
يعني ما أمر الله باتقائه واجتنابه كالاستغفار للمشركين وغيره مما نهى عنه وبين أنه محظور لا يؤاخذ به عباده الذين هداهم للإسلام، ولا يسميهم ضلالاً، ولا يخذلهم إلاّ إذا أقدموا عليه بعد بيان خطره عليهم وعلمهم أنه واجب الاتقاء والاجتناب، وأما قبل العلم والبيان فلا سبيل عليهم، كما لا يؤاخذون بشرب الخمر ولا ببيع الصاع بالصاعين قبل التحريم. وهذا بيان لعذر من خاف المؤاخذة بالاستغفار للمشركين قبل ورود النهي عنه. وفي هذه الآية شديدة ما ينبغي أن يغفل عنها: وهي أنّ المهديّ للإسلام إذا أقدم على بعض محظورات الله داخل في حكم الإضلال...
وقيل: المراد إن من أول السورة إلى هذا الموضع في بيان المنع من مخالطة الكفار والمنافقين، ووجوب مباينتهم، والاحتراز عن موالاتهم، فكأنه قيل: إن الإله الرحيم الكريم كيف يليق به هذا التشديد الشديد في حق هؤلاء الكفار والمنافقين؟ فأجيب عنه بأنه تعالى لا يؤاخذ أقواما بالعقوبة بعد إذ دعاهم إلى الرشد حتى يبين لهم ما يجب عليهم أن يتقوه، فأما بعد أن فعل ذلك وأزاح العذر وأزال العلة فله أن يؤاخذهم بأشد أنواع المؤاخذة والعقوبة...
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
والذي يظهر في مناسبة هذه الآية لما قبلها وفي شرحها: أنه تعالى لما بين أنه لا يستغفر للمشركين ولو كانوا أولي قربى، كان في هذه الآية وفي التي بعدها تباين ما بين القرابة حتى منعوا من الاستغفار لهم، فمنع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الاستغفار لعمه أبي طالب وهو الذي تولى تربيته ونصره وحفظه إلى أن مات، ومنع ابراهيم من الاستغفار لأبيه وهو أصل نشأته ومربيه، وكذلك منع المسلمون من الاستغفار للمشركين أقرباء وغير أقرباء، فكأنه قيل: لا تعجب لتباين هؤلاء، هذا خليل الله، وهذا حبيب الله، والأقرباء المختصون بهم المشركون أعداء الله، فإضلال هؤلاء لم يكن إلا بعد أن أرشدهم الله إلى طريق الحق بما ركز فيهم من حجج العقول التي أغفلوها، وتبيين ما يتقون بطريق الوحي، فتظافرت عليهم الحجج العقلية والسمعية، ومع ذلك لم يؤمنوا ولم يتبعوا ما جاءت الرسل به عن الله تعالى، ولذلك ختمها بقوله: إن الله بكل شيء عليم، فيضل من يشاء ويختص بالهداية من يشاء. فالمعنى: وما كان الله ليديم إضلال قوم أرشدهم إلى الهدى حتى يبين لهم ما يتقونه أي: يجتنبونه فلا يجدي ذلك فيهم، فحينئذ يدوم إضلالهم.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كان الاستغفار للمشركين أمراً عظيماً، وكان فيه نوع ولاية لهم، أظهر سبحانه للمؤمنين ما منّ عليهم به من عدم المؤاخذة بالإقدام عليه تهويلاً لذلك وقطعاً لما بين أوج الإيمان وحضيض الكفران بكل اعتبار فقال تعالى: {وما كان الله} أي الذي له صفات الكمال؛ ولما كان الضلال سبب الهلاك، وكان من شرع شريعة ثم عاقب ملتزمها من غير بيان كمن دل على طريق غير موصل فهلك صاحبه فكان الدال بذلك مضلاً، قال: {ليضل قوماً} أي يفعل بهم ما يفعل بالضالين من العقوبة لأجل ارتكابهم لما ينهي عنه بناسخ نسخه {بعد إذ هداهم} أي بشريعة نصبها لهم {حتى يبين لهم} أي بياناً شافياً لداء العي {ما يتقون} أي مما هو جدير بأن يحذروه ويتجنبوه خوفاً من غائلته بناسخ ينسخ حال الإباحة التي كانوا عليها.
ولما كان الذي يأمر بسلوك طريق ثم يترك فيها ما يحتاج إلى البيان إنما يؤتى عليه من الجهل أو النسيان. نفى ذلك سبحانه عن نفسه فقال معللاً لعدم الإضلال: {إن الله} أي المحيط بصفات الكمال {بكل شيء عليم} أي بالغ العلم فلا يتطرق إليه خفاء بوجه من الوجوه في حين من الأحيان فهو يبين لكم جميع ما تأتون وتذرون وما يتوقف عليه الهدى، وما تركه فهو إنما يتركه رحمة لكم {لا يضل ربي ولا ينسى} [طه: 52] فلا تبحثوا عنه.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{ومَا كَانَ اللّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ} أي وما كان من شأن الله تعالى في حلمه ورحمته، ولا من سننه في خلقه التي هي مظهر عدله وحكمته، أن يصف قوما بالضلال، ويجري عليهم أحكامه بالذم والعقاب، بعد إذ هداهم إلى الإيمان، وشرح صدورهم بالإسلام، بمجرد قول أو عمل صدر عنهم بخطأ الاجتهاد.
{حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ} من الأقوال والأفعال، بيانا جليا واضحا لا شبهة فيه ولا إشكال.
{إِنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} فهو يشرع لهم من الأحكام ما تكمل به فطرتهم، ويستقيم به رأيهم وفهمهم، فبين لهم مهمات الدين بالنص القاطع حتى لا يضل فيه اجتهادهم بأهواء نفوسهم، ويترك لهم مجالا للاجتهاد فيما دون ذلك من مصالحهم، فهو لهذا لم يؤاخذ إبراهيم في استغفاره لأبيه قبل أن يتبين له حاله، وكذلك لا يؤاخذ النبي والذين آمنوا بما سبق لهم من الاستغفار لوالديهم وأولي القربى منهم قبل هذا التبيين لحكم الله في ذلك، وإن كان من شأنه أن يعلم أنه من لوازم الإيمان، قال مجاهد في تفسير الجملة: بيان الله للمؤمنين في الاستغفار للمشركين خاصة، وفي بيان طاعته و معصيته عامة، ما فعلوا أو تركوا اه.
يعني أن الآية عامة وإن نزلت في مسألة استغفارهم للمشركين. وعن ابن عباس أنها نزلت حين أخذوا الفداء من المشركين يوم الأسارى، قال: لم يكن لكم أن تأخذوه حتى يؤذن لكم. ولكن ما كان الله ليعذب قوما بذنب أذنبوه حتى يبين لهم ما يتقون، قال: حتى ينهاهم قبل ذلك اه.
وأقول: الآية متأخرة النزول عن غزوة بدر، ولكنها شاملة لحكمها، فقد تقدم أن أخذ الفداء من الأسرى هو في معنى الاستغفار للمشركين هنا من حيث إنه خلاف ما يقتضيه شأن النبوة والإيمان لقوله تعالى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ} [الأنفال: 67]، فهذا نفي للشأن كنفي الاستغفار هنا، ثم قال تعالى هنالك بعد عتابهم الشديد {لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ اللّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [الأنفال: 68]، فابن عباس يفسر هذا الكتاب بحكمه تعالى في هذه الآية بأنه لا يحكم بضلال قوم في شيء فيعاقبهم عليه إلا بعد أن يبين لهم ما يتقون بيانا واضحا تاما لا مجال معه للاجتهاد الذي يكون عذرا في المخالفة، سواء كانت هذه الآية نزلت وقتئذ أم لا، فهذا حكم الله تعالى.
أخرج ابن المنذر أن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه كان يخطب أصحابه كل عشية خميس ثم يقول: فمن استطاع منكم أن يغدو عالما أو متعلما فليفعل، ولا يغدو لسوى ذلك، فإن العالم والمتعلم شريكان في الخير. أيها الناس: إني والله ما أخاف عليكم أن تؤخذوا بما لم يبين لكم، وقد قال الله تعالى: {ومَا كَانَ اللّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ} فقد بين لكم ما تتقون.
ويؤخذ من هذا كله قاعدة أن أحكام الإسلام العامة التي عليها مدار الجزاء في الآخرة، ويكلف العمل به كل من بلغه إن كان من الأحكام الشخصية، ويؤخذ بها الأمة كلها، وينفذه أئمتها وأمراؤها فيها، هو ما كان قطعي الدلالة ببيان الله تعالى ورسوله لا حجة معه لأحد في تركه. وأن ما عداها منوط بالاجتهاد، فمن ظهر له من نص ظني الدلالة حكم، واعتقد أنه مراد الله من الآية وجب عليه اتباعه، ومن لا فلا، كما وقع عند نزول آية البقرة في الخمر والميسر، إذ فهم بعض الصحابة من قوله تعالى: {وإثمهما أكبر من نفعهما} [البقرة: 219] تحريمهما فترك، وبقي من لم يفهم هذا يشرب الخمر حتى بين الله تحريمها مع الميسر بيانا قطعيا بآيات المائدة...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
يعني أن اللّه تعالى إذا منَّ على قوم بالهداية، وأمرهم بسلوك الصراط المستقيم، فإنه تعالى يتمم عليهم إحسانه، ويبين لهم جميع ما يحتاجون إليه، وتدعو إليه ضرورتهم، فلا يتركهم ضالين، جاهلين بأمور دينهم، ففي هذا دليل على كمال رحمته، وأن شريعته وافية بجميع ما يحتاجه العباد، في أصول الدين وفروعه.. {إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ْ} فلكمال علمه وعمومه علمكم ما لم تكونوا تعلمون، وبين لكم ما به تنتفعون.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وقد ورد أنه لما نزلت الآيتان خشي الذين كانوا يستغفرون لآبائهم المشركين أن يكونوا قد ضلوا لمخالفتهم عن أمر اللّه في هذا فنزلت الآية التالية تطمئنهم من هذا الجانب، وتقرر القاعدة الإسلامية: أنه لا عقوبة بغير نص؛ ولا جريمة بغير بيان سابق على الفعل
(وما كان اللّه ليضل قوماً بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون. إن اللّه بكل شيء عليم). إن اللّه لا يحاسب الناس إلا على ما بين لهم أن يتقوه ويحذروه ولا يأتوه. وليس من شأنه أن يذهب بهدى قوم بعد إذ هداهم ويكلهم إلى الضلال لمجرد الفعل، ما لم يكن هذا الفعل مما نهاهم عنه قبلا.. ذلك أن الإنسان قاصر واللّه هو العليم بكل شيء. ومنه البيان والتعليم.
ولقد جعل اللّه هذا الدين يسراً لا عسراً، فبين ما نهى عنه بياناً واضحاً، كما بين ما أمر به بياناً واضحاً. وسكت عن أشياء لم يبين فيها بياناً -لا عن نسيان ولكن عن حكمة وتيسير- ونهى عن السؤال عما سكت عنه، لئلا ينتهي السؤال إلى التشديد. ومن ثم فليس لأحد أن يحرم شيئاً من المسكوت عنه، ولا أن ينهى عما لم يبينه اللّه. تحقيقاً لرحمة اللّه بالعباد...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
عطف على جملة: {وما كان استغفار إبراهيم} [التوبة: 114] لاعتذار عن النبي وإبراهيم عليهما الصلاة والسلام في استغفارهما لمن استغفرا لهما من أولي القربى كأبي طالب وآزر ومن الأمة كعبد الله بن أبي بن سلول بأن فعلهما ذلك ما كان إلا رَجاءً منهما هُدى من استغفرا له، وإعانة له إن كان الله يريده، فلما تبين لهما الثابتُ على كفره إما بموته عليه أو باليأس من إيمانه تركا الاستغفار له، وذلك كله بعد أن أبلغا الرسالة ونصحا لمن استغفرا له. ولأجل هذا المعنى مهد الله لهما الاعتذار من قبل بقوله: {من بعدِ ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم} [التوبة: 113] وقولِه: {فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه} [التوبة: 114]. وفي ذلك معذرة للمؤمنين المستغفرين للمشركين من أولي قرابتهم قبل هذا النهي. فهذا من باب {عفا الله عنك لم أذنت لهم} [التوبة: 43].
وفيه تسجيل أيضاً لكون أولئك المشركين أحرياء بقطع الاستغفار لهم لأن أنبياء الله ما قطعوه عنهم إلا بعد أن أمهلوهم ووعدوهم وبينوا لهم وأعانوهم بالدعاء لهم فما زادهم ذلك إلا طغياناً.
ومعنى: {وَمَا كَانَ الله لِيُضِلَّ قَوْماً} أن ليس من شأنه وعادة جلاله أن يكتب الضلال لقوم بعد إذ هداهم بإرسال الرسل إليهم وإرشادهم إلى الحق حتى يبين لهم الأشياء التي يريد منهم أن يتقوها، أي يتجنبوها. فهنالك يُبلغ رسله أن أولئك من أهل الضلال حتى يتركوا طلب المغفرة لهم كما قال لنوح عليه السَّلام: {فلا تسألنِ ما ليس لك به علم} [هود: 46] ولا كان من شأنه تعالى أن يكتب الضلال لقوم بعد إذ هداهم للإيمان واهتدوا إليه لعمل عملوه حتى يبين لهم أنه لا يرضى بذلك العمل.
ثم إن لفظ الآية صالح لإفادة معنى أن الله لا يؤاخذ النبي صلى الله عليه وسلم ولا إبراهيم عليه السلام ولا المسلمين باستغفارهم لمن استغفروا له من قبل ورود النهي وظهور دليل اليأس من المغفرة، لأن الله لا يؤاخذ قوماً هداهم إلى الحق فيكتبهم ضُلالاً بالمعاصي حتى يبين لهم أن ما عملوه معصية، فموقع هذه الآية بعد جميع الكلام المتقدم صيّرها كلاماً جامعاً تذييلاً.
وجملة {إن الله بكل شيء عليم} تذييل مناسب للجملة السابقة، ووقوع {إن} في أولها يفيد معنى التفريع. والتعليل مضمون للجملة السابقة، وهو أن الله لا يضل قوماً بعد أن هداهم حتى يبين لهم الحق.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
إِن الآية الأُولى تشير إِلى قانون كلّي وعام، يؤيده العقل أيضاً، وهو أنّ الله سبحانه وتعالى مادام لم يبيّن حكماً، ولم يصل شيء من الشرع حوله، فإنّه تعالى سوف لا يحاسب عليه أحداً، وبتعبير آخر: فإنّ التكليف والمسؤولية تقع دائماً بعد بيان الأحكام...
ولذلك فأوّل ما تطالعنا به الآية قوله: (وما كان الله ليضل قوماً بعد إِذ هداهم حتى يبيّن لهم ما يتقون).
إِنّ المقصود من (يضل) في الأصل الإِضلال والتضييع، أو الحكم بالإِضلال كما احتمله بعض المفسّرين (كما يقال في التعديل والتفسيق، أي الحكم بعدالة الشخص وفسقه) أو بمعنى الإِضلال من طريق الثواب يوم القيامة، وهو في الواقع بمعنى العقاب.
أو أنّ المقصود من «الإِضلال» ما قلناه سابقاً، وهو سلب نعمة التوفيق، وإِيكال الإِنسان إِلى نفسه، ونتيجة ذلك هو الضياع والحيرة والانحراف عن طريق الهداية لا محالة، وهذا التعبير إِشارة خفية ولطيفة إِلى حقيقة ثابتة، وهي أنّ الذّنوب دائماً هي مصدر وسبب الضلال والضياع والابتعاد عن طريق الرشاد.
وأخيراً تقول الآية: (إِنّ الله بكل شيء عليم) أي إِن علم الله يحتم ويؤكّد على أنّ الله سبحانه مادام لم يبيّن الحكم الشرعي لعباده، فإنّه سوف لا يؤاخذهم أو يسألهم عنه...