وبعد هذا البيان المعترض يعود إلى سمات ( عباد الرحمن ) :
( والذين لا يشهدون الزور ، وإذا مروا باللغو مروا كراما ) . .
وعدم شهادة الزور قد تكون على ظاهر اللفظ ومعناه القريب ، أنهم لا يؤدون شهادة زور ، لما في ذلك من تضييع الحقوق ، والإعانة على الظلم . وقد يكون معناها الفرار من مجرد الوجود في مجلس أو مجال يقع فيه الزور بكل صنوفه وألوانه ، ترفعا منهم عن شهود مثل هذه المجالس والمجالات . وهو أبلغ وأوقع . وهم كذلك يصونون أنفسهم واهتماماتهم عن اللغو والهذر : ( وإذا مروا باللغو مروا كراما )لا يشغلون أنفسهم به ، ولا يلوثونها بسماعه ؛ إنما يكرمونها عن ملابسته ورؤيته بله المشاركة فيه ! فللمؤمن ما يشغله عن اللغو والهذر ، وليس لديه من الفراغ والبطالة ما يدفعه إلى الشغل باللغو الفارغ ، وهو من عقيدته ومن دعوته ومن تكاليفها في نفسه وفي الحياة كلها في شغل شاغل .
ثم استمرت الآيات في وصف عباد الله المؤمنين بأن نفى عنهم شهادة الزور ، و { يشهدون } في هذا الموضع ظاهر معناها يشاهدون ويحضرون ، و { الزور } كل باطل زور وزخرف فأعظمه الشرك وبه فسر الضحاك وابن زيد ، ومنه الغناء ، وبه فسر مجاهد ، ومنه الكذب ، وبه فسر ابن جريج ، وقال علي بن أبي طالب ومحمد بن علي المعنى لا يشهدون بالزور فهو من الشهادة لا من المشاهدة والزور الكذب .
قال الفقيه الإمام القاضي : والشاهد بالزور حاضره ومؤديه جرأة ، فالمعنى الأول أعم لكن المعنى الثاني أغرق في المعاصي وأنكى ، و «اللغو » كل سقط من فعل أو قول يدخل فيه الغناء واللهو وغير ذلك ، ويدخل في ذلك سفه المشركين وأذاهم للمؤمنين وذكر النساء وغير ذلك من المنكر ، و { كراماً } معناه معرضين مستحين يتجافون عن ذلك ويصبرون على الأذى فيه ، وروي أن عبد الله بن مسعود سمع غناء فأسرع في مشيه وذهب فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لقد أصبح ابن أم عبد كريماً ، وقرأ الآية{[8889]} .
قال الفقيه الإمام القاضي : وأما إذا مر المسلم بمنكر فكرمه أن يغير ، وحدود التغيير معروفة .
أتبع خصال المؤمنين الثلاث التي هي قِوام الإيمان بخصال أخرى من خصالهم هي من كمال الإيمان ، والتخلق بفضائله ، ومجانبة أحوال أهل الشرك . وتلك ثلاث خصال أولاها أفصح عنه قوله هنا { والذين لا يشهدون الزور } الآية .
وفعل ( شهد ) يستعمل بمعنى ( حضر ) وهو أصل إطلاقه كقوله تعالى : { فمن شَهِد منكم الشهر فلْيَصُمْه } [ البقرة : 185 ] ، ويستعمل بمعنى أخبر عن شيء شهده وعلمه كقوله تعالى : { وشَهد شاهد من أهلها } [ يوسف : 26 ] .
والزور : الباطل من قول أو فعل وقد غلب على الكذب . وقد تقدم في أول السورة فيجوز أن يكون معنى الآية : أنهم لا يحضرون محاضر الباطل التي كان يحضرها المشركون وهي مجالس اللهو والغناء والغيبة ونحوها ، وكذلك أعياد المشركين وألعابهم ، فيكون الزور مفعولاً به ل { يشهدون } . وهذا ثناء على المؤمنين بمقاطعة المشركين وتجنبهم . فأما شهود مواطن عبادة الأصنام فذلك قد دخل في قوله : { والذين لا يَدعون مع الله إلهاً آخر } [ الفرقان : 68 ] . وفي معنى هذه الآية قوله في سورة الأنعام ( 68 ) { وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره وإما ينسِيَنَّك الشيطانُ فلا تقْعُد بعد الذكرى مع القوم الظالمين } ويجوز أن يكون فعل يشهدون } بمعنى الإخبار عما علموه ويكون الزور منصوباً على نزع الخافض ، أي لا يشهدون بالزور ؛ أو مفعولاً مطلقاً لبيان نوع الشهادة ، أي لا يشهدون شهادة هي زور لا حَقٌ .
وقوله : { وإذا مروا باللغو مروا كراماً } مناسب لكلا الجملتين .
واللغو : الكلام العبث والسفه الذي لا خير فيه . وتقدم في قوله تعالى : { لا يسمعون فيها لغواً } في سورة مريم ( 62 ) . ومعنى المرور به المرور بأصحابه اللاغين في حال لغوهم ، فجعل المرور بنفس اللغو للإشارة إلى أن أصحاب اللغو متلبسون به وقت المرور .
ومعنى : { مروا كراماً } أنهم يمرون وهم في حال كرامة ، أي غير متلبسين بالمشاركة في اللغو فيه فإن السفهاء إذا مروا بأصحاب اللغو أنِسُوا بهم ووقفوا عليهم وشاركوهم في لغوهم فإذا فعلوا ذلك كانوا في غير حال كرامة . ٍ
والكرامة : النزاهة ومحاسن الخلال ، وضدها اللؤم والسفالة . وأصل الكرامة أنها نفاسة الشيء في نوعه قال تعالى : { أنبتنا فيها من كل زوج كريم } [ الشعراء : 7 ] . وقال بعض شعراء حمير في « الحماسة » :
ولا يَخيم اللقاءَ فارسُهم *** حتى يشقَّ الصفوف مِن كَرمه
أي شجاعته ، وقال تعالى : { وأعد لهم أجراً كريماً } [ الأحزاب : 44 ] .
وإذا مر أهل المروءَة على أصحاب اللغو تنزهوا عن مشاركتهم وتجاوزوا ناديهم فكانوا في حال كرامة ، وهذا ثناء على المؤمنين بترفّعهم على ما كانوا عليه في الجاهلية كقوله تعالى : { وذرِ الذين اتّخذوا دينَهم لعباً ولهواً } [ الأنعام : 70 ] ، وقوله : { وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين } [ القصص : 55 ] .
وإعادة فعل { مروا } لبناء الحال عليه ، وذلك من محاسن الاستعمال ، كقول الأحوص :
فإذَا تزول تزولُ عن متخمّط *** تُخشى بوادره على الأقران
ومنه قوله تعالى : { ربنا هؤلاء الذين أغوينا أغويناهم كما غوينا } [ القصص : 63 ] كما ذكره ابن جنّي في « شرح مشكل أبيات الحماسة » ، وقد تقدم عند قوله تعالى : { صراط الذين أنعمت عليهم } [ الفاتحة : 7 ] .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.