60- ألا تعجب - أيها النبي - من الذين يدَّعون أنهم صدَّقوا بما أُنْزِل عليك من الكتاب وما أُنْزِل من قبلك من الكتب ، يريدون أن يتحاكموا في خصوماتهم إلى ما فيه الضلال والفساد وحكم غير الله ، وقد أمرهم الله أن يجحدوه ولا يتحاكموا إليه ، ويريد الشيطان أن يصدَّهم عن طريق الحق والهدى ، فيضلهم عنه ضلالاً بعيداً .
وحين ينتهي السياق من تقرير هذه القاعدة الكلية في شرط الإيمان وحد الإسلام ، وفي النظام الأساسي للأمة المسلمة ، وفي منهج تشريعها وأصوله . . يلتفت إلى الذين ينحرفون عن هذه القاعدة ؛ ثم يزعمون - بعد ذلك - أنهم مؤ
( ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك . يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت - وقد أمروا أن يكفروا به - ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدًا . . )
ألم تر إلى هذا العجب العاجب . . قوم . . يزعمون . . الإيمان . ثم يهدمون هذا الزعم في آن ؟ ! قوم ( يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك ) . ثم لا يتحاكمون إلى ما أنزل إليك وما أنزل من قبلك ؟ إنما يريدون أن يتحاكموا إلى شيء آخر ، وإلى منهج آخر ، وإلى حكم آخر . . يريدون أن يتحاكموا إلى . . الطاغوت . . الذي لا يستمد مما أنزل إليك وما أنزل من قبلك . ولا ضابط له ولا ميزان ، مما أنزل إليك وما أنزل من قبلك . . ومن ثم فهو . . طاغوت . . طاغوت بادعائه خاصية من خواص الألوهية . وطاغوت بأنه لا يقف عند ميزان مضبوط أيضا ! وهم لا يفعلون هذا عن جهل ، ولا عن ظن . . إنما هم يعلمون يقينا ويعرفون تماما ، أن هذا الطاغوت محرم التحاكم إليه : ( وقد أمروا أن يكفروا به ) . . فليس في الأمر جهالة ولا ظن . بل هو العمد والقصد . ومن ثم لا يستقيم ذلك الزعم . زعم أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك ! إنما هو الشيطان الذي يريد بهم الضلال الذي لا يرجى منه مآب . .
ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدًا . .
فهذه هي العلة الكامنة وراء إرادتهم التحاكم إلى الطاغوت . وهذا هو الدافع الذي يدفعهم إلى الخروج من حد الإيمان وشرطه بإرادتهم التحاكم إلى الطاغوت ! هذا هو الدافع يكشفه لهم . لعلهم يتنبهون فيرجعوا . ويكشفه للجماعة المسلمة ، لتعرف من يحرك هؤلاء ويقف وراءهم كذلك .
تقول العرب : زعم فلان كذا ، في الأمر الذي يضعف فيه التحقيق وتتقوى فيه شبه الإبطال ، فغاية درجة الزعم إذا قوي أن يكون مظنوناً ، يقال : «زَعم » بفتح الزاي وهو المصدر ، «وزُعم » بضمها وهو الاسم{[4122]} وكذلك زعم المنافقين أنهم مؤمنون ، هو مما قويت فيه شبهة الإبطال لسوء أفعالهم ، حتى صححها الخبر من الله تعالى عنهم ، ومن هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم : «بئس مطية الرجل زعموا »{[4123]} وقد قال الأعشى : [ المتقارب ]
ونُبّئْتُ قَيْساً وَلَمْ أبْلُهُ *** كَمَا زَعَمُوا خَيْرَ أهْلِ الْيَمَنْ{[4124]}
فقال الممدوح : وما هو إلا الزعم وحرمه ، وإذا قال سيبويه : زعم الخليل ، فإنما يستعملها فيما انفرد الخليل به ، وكان أقوى رتب «زعم » أن تبقى معها عهدة الخبر على المخبر ، و «أن » معمولة ل { يزعمون } وقال عامر الشعبي وغيره : نزلت الآية في منافق اسمه بشر ، خاصم رجلاً من اليهود ، فدعاه اليهودي إلى المسلمين لعلمه أنهم لا يرتشون ، وكان هو يدعو اليهودي إلى اليهود لعلمه أنهم يرتشون ، فاتفقا بعد ذلك على أن أتيا كاهناً كان بالمدينة فرضياه ، فنزلت هذه الآية فيهما وفي صنفيهما ، «فالذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل » على محمد هم المنافقون ، «والذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل » من قبله هم اليهود ، وكل قد أمر في كتابه بالكفر بالطاغوت ، و { الطاغوت } هنا الكاهن المذكور ، فهذا تأنيب للصنفين ، وقال ابن عباس : { الطاغوت } هنا هو كعب بن الأشرف وهو الذي تراضيا به فعلى هذا إنما يؤنب صنف المنافقين وحده ، وهم الذين آمنوا بما أنزل على محمد وبما أنزل من قبله بزعمهم ، لأن اليهود لم يؤمروا في شرعهم بالكفر بالأحبار ، وكعب منهم ، وذكر النقاش : أن كعباً هذا أصله من طيىء وتهود . وقال مجاهد : نزلت في مؤمن ويهودي ، وقالت فرقة : نزلت في يهوديين .
قال القاضي أبو محمد رحمه الله : وهذان القولان بعيدان من الاستقامة على ألفاظ الآية ، وقال السدي : نزلت في المنافقين من قريظة والنضير ، وذلك أنهم تفاخروا بسبب تكافؤ دمائهم ، إذ كانت النضير في الجاهلية تدي من قتلت ، وتستقيد إذا قتلت قريظة منهم ، فأبت قريظة لما جاء الإسلام ، وطلبوا المنافرة{[4125]} ، فدعا المؤمنون منهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، ودعا المنافقون إلى أبي بردة الكاهن ، فنزلت الآية فيهم ، وحكى الزجّاج : أن المنافق المتقدم الذكر أو غيره اختصم عند النبي صلى الله عليه وسلم فقضى في أمره ، فخرج وقال لخصمه : لا أرضى بحكمه ، فذهبا إلى أبي بكر فقضى بينهما ، فقال المنافق : لا أرضى ، فذهبا إلى عمر فوصفا له جميع ما فعلا ، فقال لهما : اصبرا حتى أقضي حاجة في منزلي ثم أخرج فأحكم بينكما ، فدخل وأخذ سيفه وخرج ، فضرب المنافق حتى برد{[4126]} ، وقال : هذا حكمي فيمن لم يرض بحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فنزلت الآية{[4127]} ، وقال الحسن : احتكم المنافقون بالقداح التي يضرب بها عند الأوثان فنزلت الآية .
و { يضلهم } معناه : يتلفهم ، وجاء { ضلالاً } على غير المصدر تقديره : «فيضلون ضلالاً » ، و { بعيداً } عبارة عن عظم الضلال وتمكنه حتى يبعد الرجوع عنه والاهتداء معه .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.