ويقف السياق وقفة قصيرة للتعقيب على ذلك المثل الشاخص في ذلك المشهد ، للذي آتاه الله آياته فانسلخ منها ، بأن الهدى هدى الله . فمن هداه الله فهو المهتدي حقاً ؛ ومن أضله الله فهو الخاسر الذي لا يربح شيئاً :
( من يهد الله فهو المهتدي ، ومن يضلل فأولئك هم الخاسرون ) . .
والله سبحانه يهدي من يجاهد ليهتدي ، كما قال تعالى في السورة الأخرى : ( والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا ) . . وكما قال : ( إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ) . . وكما قال : ( ونفس وما سواها ، فألهمها فجورها وتقواها . قد أفلح من زكاها ، وقد خاب من دساها ) . .
كذلك يضل الله من يبغي الضلال لنفسه ويعرض عن دلائل الهدى وموحيات الإيمان ، ويغلق قلبه وسمعه وبصره دونها . وذلك كما جاء في الآية التالية في السياق : ( ولقد ذرأنا لجهنم كثيراً من الجن والإنس ، لهم قلوب لا يفقهون بها ، ولهم أعين لا يبصرون بها ، ولهم آذان لا يسمعون بها ، أولئك كالأنعام بل هم أضل ، أولئك هم الغافلون ) . . وكما قال تعالى : ( في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضاً ) . . وكما قال : ( إن الذين كفروا وظلموا لم يكن الله ليغفر لهم ، ولا ليهديهم طريقاً ، إلا طريق جهنم خالدين فيها )
ومن مراجعة مجموعة النصوص التي تذكر الهدى والضلال ، والتنسيق بين مدلولاتها جميعاً يخلص لنا طريق واحد بعيد عن ذلك الجدل الذي أثاره المتكلمون من الفرق الإسلامية ، والذي أثاره اللاهوت المسيحي والفلسفات المتعددة حول قضية القضاء والقدر عموماً . .
إن مشيئة الله سبحانه التي يجري بها قدره في الكائن الإنساني ، هي أن يخلق هذا الكائن باستعداد مزدوج للهدى والضلال . . وذلك مع إيداع فطرته إدراك حقيقة الربوبية الواحدة والاتجاه إليها . ومع إعطائه العقل المميز للضلال والهدى . ومع إرسال الرسل بالبينات لإيقاظ الفطرة إذا تعطلت وهداية العقل إذا ضل . . ولكن يبقى بعد ذلك كله ذلك الاستعداد المزدوج للهدى والضلال الذي خلق الإنسان به ، وفق مشيئة الله التي جرى بها قدره .
كذلك اقتضت هذه المشيئة أن يجري قدر اللّه بهداية من يجاهد للهدى . وأن يجري قدر اللّه كذلك بإضلال من لا يستخدم ما أودعه اللّه من عقل وما أعطاه من أجهزه الرؤية والسمع في إدراك الآيات المبثوثة في صفحات الكون ، وفي رسالات الرسل ، الموحية بالهدى .
وفي كل الحالات تتحقق مشيئة اللّه ولا يتحقق سواها ، ويقع ما يقع بقدر اللّه لا بقوة سواه . وما كان الأمر ليكون هكذا إلا أن اللّه شاءه هكذا . وما كان شيء ليقع إلا أن يوقعه قدر اللّه . فليس في هذا الوجود مشيئة أخرى تجري وفقها الأمور ، كما أنه ليس هناك قوة إلا قدر اللّه ينشىء الأحداث . . وفي إطار هذه الحقيقة الكبيرة يتحرك الإنسان بنفسه ، ويقع له ما يقع من الهدى والضلال أيضاً . .
وهذا هو التصور الإسلامي الذي تنشئه مجموعة النصوص القرآنية مقارنة متناسقة ، حين لا تؤخذ فرادى وفق أهواء الفرق والنحل ، وحين لا يوضع بعضها في مواجهة البعض الآخر ، على سبيل الاحتجاج والجدل !
وفي هذا النص الذي يواجهنا هنا :
( من يهد اللّه فهو المهتدي ، ومن يضلل فأولئك هم الخاسرون ) .
يقرر أن من يهديه الله - وفق سنته التي صورناها في الفقرة السابقة - فهو المهتدي حقاً ، الواصل يقيناً ، الذي يعرف الطريق ، ويسير على الصراط ، ويصل إلى الفلاح في الآخرة . . وأن الذي يضله الله - وفق سنته تلك - فهو الخاسر الذي خسر كل شيء ولم يربح شيئاً . . مهما ملك ، ومهما أخذ ؛ فكل ذلك هباء أو هواء ! وإنه لكذلك إذا نظرنا إليه من زاوية أن هذا الضال قد خسر نفسه . وماذا يأخذ وماذا يكسب من خسر نفسه ؟ !
يقول تعالى : من هداه الله فإنه لا مضل له ، ومن أضله فقد خاب وخسر وضل لا محالة ، فإنه تعالى ما شاء كان ، وما لم يشأ لم يكن ؛ ولهذا جاء في حديث ابن مسعود : " إن الحمد لله ، نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل الله فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله " .
الحديث بتمامه رواه الإمام أحمد ، وأهل السنن ، وغيرهم{[12403]}
هذه الجملة تذييل للقصة والمثل وما أعقبا به من وصف حال المشركين ، فإن هذه الجملة تُحصل ذلك كله وتجري مجرى المثل ، وذلك أعلى أنواع التذييل ، وفيها تنويه بشأن المهتدين وتلقين للمسلمين للتوجه إلى الله تعالى بطلب الهداية منه والعصمة من مزالق الضلال ، أي فالذين لم يهتدوا إلى الحق بعد أن جاءهم دلت حالهم على أن الله غضب عليهم فحرمهم التوفيق .
والهداية حقيقتها إبانة الطريق ، وتطلق على مطلق الإرشاد لما فيه النفع سواء اهتدى المهْدي إلى ما هُدي إليه أم لم يهتد ، قال تعالى : { إنّا هديناه السبيل إما شاكراً وإما كفوراً } [ الإنسان : 3 ] وقال : { وأما ثمودُ فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى } [ فصلت : 17 ] .
ثم قد علم أن الفعل الذي يسند إلى الله تعالى إنما يراد به اتقن أنواع تلك الماهية وأدوَمها ، ما لم تقم القرينة على خلاف ذلك ، فقوله : { من يَهْد الله } يُعنى به من يقدرِ الله اهتداءَه ، وليس المعنى من يرشده الله بالأدلة أو بواسطة الرسل ، وقد استفيد ذلك من القصة المُذَيلة فإنه قال فيها : { الذي آتيناه آياتنا } [ الأعراف : 175 ] فإيتاءُ الآيات ضرب من الهداية بالمعنى الأصلي ، ثم قال فيها { فانسلخ منها } [ الأعراف : 175 ] وقال { ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه } [ الأعراف : 176 ] وقال : { ولو شئنا لرفعناه بها } [ الأعراف : 176 ] فعلمنا أن الله أرشده ، ولم يقدر له الاهتداء ، فالحالة التي كان عليها قبل أن يخلد إلى الأرض ليست حالة هدى ، ولكنها حالة تردد وتجربة ، كما تكون حالة المنافق عند حضوره مع المسلمين إذ يكون متلبساً بمحاسن الإسلام في الظاهر ، ولكنه غير مبطن لها كما قدمناه عند قوله تعالى : { مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم } في سورة البقرة ( 17 ) ، فتعين أن يكون المعنى هنا : من يقدر الله له أن يكون مهتدياً فهو المهتدي .
والقصر المستفاد من تعريف جزأى الجملة { فهو المهتدي } قصر حقيقي ادعائي باعتبار الكمال واستمرار الاهتداء إلى وفاة صاحبه ، وهي مسألة الموافاة عند الأشاعرة ، أي وأما غيره فهو وإن بان مهتدياً فليس بالمهتدي لينطبق هذا على حال الذي أوتي الآيات فانسلخ منها وكان الشأن أن يرفع بها .
وبهذا تعلم أن قوله { من يهد الله فهو المهتدي } ليس من باب قول أبي النجم :
وقول النبي صلى الله عليه وسلم « من كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله » لأن ذلك فيما ليس في مفاد الثاني منه شيء زائد على مفاد ما قبله بخلاف ما في الآية فإن فيها القصر .
وكذلك القول في { ومن يضلل فأولئك هم الخاسرون } وزيد في جانب الخاسرين الفصل باسم الإشارة لزيادة الاهتمام بتمييزهم بعنوان الخسران تحذيراً منه ، فالقصر فيه مؤكد .
وجُمع الوصف في الثاني مراعاة لمعنى ( مَن ) الشرطية ، وإنما روعي معنى ( من ) الثانية دون الأولى ؛ لرعاية الفاصلة ولتبين أن ليس المراد ب ( مَن ) الأولى مفرداً .
وقد عُلم من مقابلة الهداية بالإضلال ، ومقابلة المهتدي بالخاسر أن المهتدي فائز رابح فحذف ذكر ربحه إيجازاً .
والخسران استعير لتحصيل ضد المقصود من العمل كما يستعار الربح لحصول الخير من العمل كما تقدم عند قوله تعالى : { ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم } في هذه السورة ( 9 ) ، وفي قوله : { فما ربحت تجارتهم } في سورة البقرة ( 16 ) .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.