التفسير الحديث لدروزة - دروزة  
{مَن يَهۡدِ ٱللَّهُ فَهُوَ ٱلۡمُهۡتَدِيۖ وَمَن يُضۡلِلۡ فَأُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡخَٰسِرُونَ} (178)

178

تعليق على جملة

{ من يهد الله فهو المهتدي ومن يضلل فأولئك هم الخاسرون }

وقد توهم الآية الأولى أنها قصدت تقرير كون الله تعالى هو الذي يحتم الهدى والضلال على الناس بأعيانهم . غير أن في جملة { فأولئك هم الخاسرون } في الآية ثم في الآية التالية لها ما يزيل هذا الوهم ، حيث ينطوي فيها تقرير كون الله قد أودع في البشر من العقل وقوة التمييز والاختيار ما هو جدير بأن يهديهم إلى الحق ويبين لهم طريق الهدى وطريق الضلال . فالذين يختارون سبيل الله فهم المهتدون والذين يختارون الضلال فهم الخاسرون .

وبناء على هذا اقتضت حكمة الله أن يكون بعث أخروي وحساب وثواب وعقاب وخلق للجنة وخلق لجهنم . فأصحاب جهنم هم أولئك الذين فسدت أخلاقهم وخبثت سرائرهم فرضخوا للهوى والمآرب الدنيئة فتعطلت قلوبهم عن فهم الحق وعيونهم عن رؤية معالمه ، وآذانهم عن سماع نذره وحججه وغدوا كالأنعام بل أضل لأن الأنعام تسير بغرائزها فلا تضل عما ينفعها ولا تقبل على ما يضرها .

وهذا الشرح المستلهم من فحوى الآيات وروحها مؤيد بالتقريرات القرآنية المحكمة التي مرت أمثلة عديدة منها . ومؤيد كذلك بالآيات التي تفيد الإطلاق الذي جاءت عليه الجملة ذاتها مثل آيات سورة البقرة هذه : { يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا وما يضل به إلا الفاسقين26 الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك هم الخاسرون27 } .

وللسيد رشيد رضا في سياق تفسير هذه الآية كلام صائب ووجيه متسق بنتيجته مع شرحنا . ولقد أورد ابن كثير في سياق هذه الآيات حديثا قال إنه ورد في صحيح مسلم عن عائشة قالت : ( دعي النبي صلى الله عليه وسلم إلى جنازة صبي من الأنصار فقلت : يا رسول الله طوبى له ، عصفور من عصافير الجنة لم يعمل سوءا ولم يدركه . فقال رسول الله : أو غير ذلك يا عائشة ؟ إن الله خلق الجنة وخلق لها أهلا وهم في أصلاب آبائهم ، وخلق النار وخلق لها أهلا وهم في أصلاب آبائهم ) . وأورد حديثا قال : إنه ورد في الصحيحين عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم مفاده : أن الله يبعث ملكا حين ولادة المولود فيؤمر بأربع كلمات فيكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أم سعيد ) . وأشار إلى ما أورده وأوردناه من أحاديث في سياق جملة { وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم } فيها أن الله قدر على الناس وهم في أصلاب آدم أرزاقهم وآجالهم وأنهم سعداء أو أشقياء .

وهذا الموضوع متصل بموضوع القدر الذي شرحناه في سياق سورة القمر شرحا يغني عن التكرار . ونقول هنا بمناسبة الآيات وإيراد الأحاديث في سياقها : إن الآيات تلهم بقوة أن الذين ذرأهم الله لجهنم هم الذين استحقوها بانحرافهم وشذوذهم وغفلتهم عن آيات الله ونوره . وإن الأولى أن تحمل الأحاديث الصحيحة على قصد تقرير علم الله تعالى بذلك منذ الأزل . والله أعلم .