اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{مَن يَهۡدِ ٱللَّهُ فَهُوَ ٱلۡمُهۡتَدِيۖ وَمَن يُضۡلِلۡ فَأُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡخَٰسِرُونَ} (178)

قوله : { مَن يَهْدِ الله فَهُوَ المهتدي } راعى لفظ " مَنْ " فأفرد ، وراعى معناها في قوله { فأولئك هُمُ الخاسرون } فجمع ، وياء " المُهْتَدِي " ثابتةٌ عند جميع القُرَّاءِ ، لثبوتها في الرسم ، وسيأتي الخلاف في التي في الإسراء .

وقال الواحديُّ : فهُو المُهْتَدِي يجوز إثبات الياء فيه على الأصلِ ، ويجوزُ حذفها استخفافاً ؛ كما قيل في بيت الكتاب : [ الوافر ]

فَطِرْتُ بِمْنْصُلِي فِي يَعْمَلاتٍ *** دَوَامِي الأيْدِ يَخْبِطْنَ السَّرِيحَا{[17019]}

وعنه : [ الكامل ]

كَنَوَاحِ ريشِ حَمَامَةٍ نَجْديَّةٍ *** ومَسَحْتِ باللِّثَتَيْنِ عَصْفَ الإثْمِدِ{[17020]}

قال ابن جني : شبَّه المضاف إليه بالتنوين فحذف له الياء .

فصل

لمَّا وصف الظَّالمين وعرَّف حالهم بالمثل المذكور بيَّن في هذه الآية أنَّ الهداية من اللَّهِ ، وأنَّ الضَّلال من اللَّهِ ، وذكر المعتزلةُ ههنا وجوهاً من التأويل : أحدها :

قال الجُبائيُّ والقاضي : المرادُ من يهده اللَّهُ إلى الجنَّةِ والثَّواب في الآخرة ، فهو المهتدي في الدُّنْيَا السالك طريقة الرشد فيما كلف ، فبيَّن تعالى أنَّهُ لا يهدي إلى الثَّوابِ في الآخرة إلا مَنْ هذه صِفَتُهُ ، ومن يضلله عن طريق الجنَّةِ : { فأولئك هُمُ الخاسرون } .

وثانيها : قال بعضهم : إنَّ في الآية حذفاً ، والتَّقديرُ : من يهده اللَّهُ فيقبل ، ويهتدي بهداه ؛ فهو المهتدي ، ومن يُضللْ فلم يقبل فهو الخَاسِرُ .

وثالثها : أنَّ المراد من يهده اللَّهُ أي : وصفه بكونه مُهتدياً فهو المهتدي ؛ لأنَّ ذلك كالمدح ومدح الله لا يجعل إلاَّ لمن اتَّصَفَ بذلك الوصف المَمْدُوحِ ، ومن يضلل أي : وصفه اللَّهُ بكونه ضالاً : { فأولئك هُمُ الخاسرون } .

ورابعها : من يهده اللَّهُ بالإلطاف وزيادة الهدى فهو المهتدي ، ومن يضلل عن تلك الألطاف بسوء اختياره ، ولم يُؤثِّر فيه فهو الخَاسِرُ .

والجواب من وجوه : الأولُ : أن الفعل يتوقَّفُ على حصول الدَّاعي وحصول الدَّاعي ليس إلاّ من اللَّهِ فالفعلُ ليس إلاَّ من اللَّهِ تعالى .

الثاني : أنَّ خلاف معلوم الله تعالى ممتنع الوقوع ، فمن علم الله منه الإيمان لم يقدر على الكفر وبالضّد .

الثالث : أنَّ كل أحد يقصد حصول الإيمان والمعرفة فإذا حصل الكفر عقيبه عَلِمْنَا أنَّهُ ليس منه بل من غيره .

وأما التأويل الأول : فضعيف لأنه حمل قوله { من يهد الله } على الهداية في الآخرة إلى الجنة وقوله " فَهُوَ المُهْتَدِي " على الاهتداء إلى الحق في الدنيا ، وذلك يوجب ركاكة النظم ، بل يجب أن تكون الهداية والاهتداء راجعين إلى شيء واحد حتى يحسن النظم .

وأما الثاني : فإنه التزام لإضمار زائد ، وهو خلاف اللَّفظ ، ولو جاز فتح باب أمثال هذه الإضمارات لانقلب النفي إثباتاً والإثبات نفياً ، ويخرج كلام الله عن أن يكون حجة ، فإنَّ لكل أحد أن يضمر في الآية ما شاء ، وحينئذ يخرج الكلام عن الإفادة .

وأما الثالث : فضعيف ؛ لأن قول القائل : فلان هدى فلاناً لا يفيدُ في اللغة ألبتَّة أنَّهُ وصفه بكونه مهتدياً ، وقياس هذا على قوله : فلان ضلل فلان وكفره ، قياس في اللغةِ ، وهو في نهاية الفسادِ .

والرابع : باطل ؛ لأن كل ما في مقدور الله تعالى من الألطاف ، فقد فعله عند المعتزلةِ في حق جميع الكُفَّارِ ؛ فحمل الآية على هذا التَّأويل بعيد .


[17019]:البيت لمضرس بن ربعي. ينظر: الكتاب 1/27، والخصائص 2/269، والإنصاف 2/545، والمنصف 2/73، والمغني 1/225، وشرح أبيات سيبويه 1/62، وشرح شواهد الشافية ص 481، ولسان العرب (ثمن)، (يدي) وله أو ليزيد بن الطثرية في شرح شواهد المغني ص 598 والمقاصد النحوية 4/591، والأشباه والنظائر 2/60، والإنصاف 2/545 وجمهرة اللغة ص 512 وخزانة الأدب 1/242، الخصائص 2/269، سر صناعة الإعراب ص 519، 7772، الدر المصون 3/374.
[17020]:البيت لخفاف بن ندبة ينظر الكتاب 1/27، العمدة 2/271، الإنصاف 2/546 ابن يعيش 3/140، المغني 1/105، سر صناعة الإعراب 2/772، شرح أبيات سيبويه 1/416، شرح المفصل 3/140، مغني اللبيب 1/105، المنصف 2/229، اللسان (تيز)، الدر المصون 3/374.