17- لقد كفر الذين زعموا - باطلا - أن الله هو المسيح ابن مريم ، فقل -أيها الرسول - لهؤلاء المجترئين على مقام الألوهية : لا يستطيع أحد أن يمنع مشيئة الله إن أراد أن يهلك عيسى وأمه ، ويهلك جميع مَن في الأرض فإن لله - وحده - ملك السماوات والأرض وما بينهما ، يخلق ما يشاء على أي مثال أراد ، والله عظيم القدرة لا يعجزه شيء .
ذلك هو الصراط المستقيم . فأما القول بأن الله هو المسيح بن مريم فهو الكفر ؛ وأما القول بأن اليهود والنصارى هم أبناء الله وأحباؤه ، فهو الافتراء الذي لا يستند إلى دليل . . وهذا وذلك من مقولات أهل الكتاب ، التي تخفي نصاعة التوحيد ؛ والتي جاءهم الرسول الأخير ليكشف عن الحقيقة فيها ، ويرد الشاردين المنحرفين عن هذه الحقيقة إليها :
( لقد كفر الذين قالوا : إن الله هو المسيح ابن مريم . قل : فمن يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعا ؟ ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما ، يخلق ما يشاء والله على كل شيء قدير ) . .
إن الذي جاء به عيسى - عليه السلام - من عند ربه هو التوحيد الذي جاء به كل رسول .
والإقرار بالعبودية الخالصة لله شأن كل رسول . . ولكن هذه العقيدة الناصعة أدخلت عليها التحريفات ؛ بسبب دخول الوثنيين في النصرانية ؛ وحرصهم على رواسب الوثنية التي جاءوا بها ومزجها بعقيدة التوحيد ، حتى لم يعد هناك إمكان لفصلها وفرزها وتنقية جوهر العقيدة منها .
ولم تجيء هذه الانحرافات كلها دفعة واحدة ؛ ولكنها دخلت على فترات ؛ وأضافتها المجامع واحدة بعد الأخرى ؛ حتى انتهت إلى هذا الخليط العجيب من التصورات والأساطير ، الذي تحار فيه العقول . حتى عقول الشارحين للعقيدة المحرفة من أهلها المؤمنين بها !
وقد عاشت عقيدة التوحيد بعد المسيح - عليه السلام - في تلامذته وفي أتباعهم . وأحد الأناجيل الكثيرة التي كتبت - وهو إنجيل برنابا - يتحدث عن عيسى - عليه السلام - بوصفه رسولا من عند الله . ثم وقعت بينهم الاختلافات . فمن قائل : إن المسيح رسول من عند الله كسائر الرسل . ومن قائل : إنه رسول نعم ولكن له بالله صلة خاصة . ومن قائل : إنه ابن الله لأنه خلق من غير أب ، ولكنه على هذا مخلوق لله . ومن قائل : إنه ابن الله وليس مخلوقا بل له صفة القدم كالأب . .
ولتصفية هذه الخلافات اجتمع في عام 325 ميلادية " مجمع نيقية " الذي اجتمع فيه ثمانية وأربعون ألفا من البطارقة والأساقفة . قال عنهم ابن البطريق أحد مؤرخي النصرانية :
" وكانوا مختلفين في الآراء والأديان . فمنهم من كان يقول : إن المسيح وأمه إلهان من دون الله . وهم " البربرانية " . . ويسمون : " الريمتيين " . ومنهم من كان يقول : إن المسيح من الأب بمنزلة شعلة نار انفصلت من شعلة نار ، فلم تنقص الأولى بانفصال الثانية منها . وهي مقالة " سابليوس " وشيعته . ومنهم من كان يقول : لم تحبل به مريم تسعة أشهر ، وإنما مر في بطنها كما يمر الماء في الميزاب ، لأن الكلمة دخلت في أذنها ، وخرجت من حيث يخرج الولد من ساعتها . وهي مقالة " إليان " وأشياعه . ومنهم من كان يقول : إن المسيح إنسان خلق من اللاهوت كواحد منا في جوهره ، وإن ابتداء الابن من مريم ، وإنه اصطفي ليكون مخلصا للجوهر الإنسي ، صحبته النعمة الإلهية ، وحلت فيه بالمحبة والمشيئة ، ولذلك سمي " ابن الله " ويقولون : إن الله جوهر قديم واحد ، وأقنوم واحد ، ويسمونه بثلاثة أسماء ، ولا يؤمنون بالكلمة ، ولا بروح القدس . وهي مقالة " بولس الشمشاطي " بطريرك أنطاكية وأشياعه وهم " البوليقانيون " . ومنهم من كان يقول : إنهم ثلاثة آلهة لم تزل : صالح ، وطالح ، وعدل بينهما . وهي مقالة " مرقيون " اللعين وأصحابه ! وزعموا أن " مرقيون " هو رئيس الحواريين وأنكروا " بطرس " . ومنهم من كانوا يقولون بألوهية المسيح . وهي مقالة " بولس الرسول " ومقالة الثلاثمائة وثمانية عشر أسقفا . .
وقد اختار الإمبراطور الروماني " قسطنطين " الذي كان قد دخل في النصرانية من الوثنية ولم يكن يدري شيئا من النصرانية ! هذا الرأي الأخير وسلط أصحابه على مخالفيهم ، وشرد أصحاب سائر المذاهب ؛ وبخاصة القائلين بألوهية الأب وحده ، وناسوتية المسيح .
وقد ذكر صاحب كتاب تاريخ الأمة القبطية عن هذا القرار ما نصه :
" إن الجامعة المقدسة والكنيسة الرسولية تحرم كل قائل بوجود زمن لم يكن ابن الله موجودا فيه . وأنه لم يوجد قبل أن يولد . وأنه وجد من لا شيء . أو من يقول : إن الابن وجد من مادة أو جوهر غير جوهر الله الآب . وكل من يؤمن أنه خلق ، أو من يقول : إنه قابل للتغيير ، ويعتريه ظل دوران " .
ولكن هذا المجمع بقرارته لم يقض على نحلة الموحدين أتباع " آريوس " وقد غلبت على القسطنطينية ، وأنطاكية ، وبابل ، والإسكندرية ، ومصر .
ثم سار خلاف جديد حول " روح القدس " فقال بعضهم : هو إله ، وقال آخرون : ليس بإله ! فاجتمع " مجمع القسطنطينية الأول " سنة 381 ليحسم الخلاف في هذا الأمر .
وقد نقل ابن البطريق ما تقرر في هذا المجمع ، بناء على مقالة أسقف الإسكندرية :
" قال ثيموثاوس بطريك الإسكندرية : ليس روح القدس عندنا بمعنى غير روح الله . وليس روح الله شيئا غير حياته . فإذا قلنا إن روح القدس مخلوق ، فقد قلنا : إن روح الله مخلوق . وإذا قلنا : إن روح الله مخلوق ، فقد قلنا : إن حياته مخلوقة . وإذا قلنا : إن حياته مخلوقة ، فقد زعمنا أنه غير حي . وإذا زعمنا أنه غير حي فقد كفرنا به . ومن كفر به وجب عليه اللعن " ! ! !
وكذلك تقررت ألوهية روح القدس في هذا المجمع ، كما تقررت ألوهية المسيح في مجمع نيقية . وتم " الثالوث " من الآب . والابن . وروح القدس . .
ثم ثار خلاف آخر حول اجتماع طبيعة المسيح الإلهية وطبيعته الإنسانية . . أو اللاهوت والناسوت كما يقولون . . فقد رأى " نسطور " بطريرك القسطنطينية أن هناك أقنوما وطبيعة . فأقنوم الألوهية من الآب وتنسب إليه ؛ وطبيعة الإنسان وقد ولدت من مريم ، فمريم أم الإنسان - في المسيح - وليست أم الإله ! ويقول في المسيح الذي ظهر بين الناس وخاطبهم - كما نقله عنه ابن البطريق :
" إن هذا الإنسان الذي يقول : إنه المسيح . . بالمحبة متحد مع الابن . . ويقال : إنه الله وابن الله ، ليس بالحقيقة ولكن بالموهبة " . .
ثم يقول : " إن نسطور ذهب إلى أن ربنا يسوع المسيح لم يكن إلها في حد ذاته بل هو إنسان مملوء من البركة والنعمة ، أو هو ملهم من الله ، فلم يرتكب خطيئة ، وما أتى أمرا إدًا
وخالفه في هذا الرآي أسقف رومه ، وبطريرك الإسكندرية ، وأساقفة أنطاكية ، فاتفقوا على عقد مجمع رابع . وانعقد " مجمع أفسس " سنة 431 ميلادية . وقرر هذا المجمع - كما يقول ابن البطريق - :
" أن مريم العذراء والدة الله . وأن المسيح إله حق وإنسان ، معروف بطبيعتين ، متوحد في الأقنوم " . . ولعنوا نسطور !
ثم خرجت كنيسة الإسكندرية برأي جديد ، انعقد له " مجمع أفسس الثاني " وقرر :
" أن المسيح طبيعة واحدة ، اجتمع فيها اللاهوت بالناسوت " .
ولكن هذا الرأي لم يسلم ؛ واستمرت الخلافات الحادة ؛ فاجتمع مجمع " خلقيدونية " سنة 451 وقرر :
" أن المسيح له طبيعتان لا طبيعة واحدة . وأن اللاهوت طبيعة وحدها ، والناسوت طبيعه وحدها ، التقتا في المسيح " . . ولعنوا مجمع أفسس الثاني !
ولم يعترف المصريون بقرار هذا المجمع . ووقعت بين المذهب المصري " المنوفيسية " والمذهب " الملوكاني " الذي تبنته الدولة الإمبراطورية ما وقع من الخلافات الدامية ، التي سبق أن أثبتنا فيها مقالة : " سير . ت . و . أرنولد " في كتابه " الدعوة إلى الإسلام " في مطالع تفسير سورة آل عمران . .
ونكتفي بهذا القدر في تصوير مجمل التصورات المنحرفة حول ألوهية المسيح ؛ والخلافات الدامية والعداوة والبغضاء التي ثارت بسببها بين الطوائف ، وما تزال إلى اليوم ثائرة . .
وتجيء الرسالة الأخيرة لتقرر وجه الحق في هذا القضية ؛ ولتقول كلمة الفصل ؛ ويجيء الرسول الأخير ليبين لأهل الكتاب حقيقة العقيدة الصحيحة :
لقد كفر الذين قالوا : إن الله هو المسيح ابن مريم . . ( لقد كفر الذين قالوا : إن الله ثالث ثلاثة ) . .
ويثير فيهم منطق العقل والفطرة والواقع :
( قل : فمن يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم ، وأمه ، ومن في الأرض جميعا ) .
فيفرق تفرقة مطلقة بين ذات الله سبحانه وطبيعته ومشيئته وسلطانه ، وبين ذات عيسى - عليه السلام - وذات أمه ، وكل ذات أخرى ، في نصاعة قاطعة حاسمة . فذات الله - سبحانه - واحدة . ومشيئته طليقة ، وسلطانه متفرد ، ولا يملك أحد شيئا في رد مشيئته أو دفع سلطانه إن أراد أن يهلك المسيح أبن مريم وأمه ومن في الأرض جميعا . .
وهو - سبحانه - مالك كل شيء ، وخالق كل شيء ، والخالق غير المخلوق . وكل شيء مخلوق :
( ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما ، يخلق ما يشاء ، والله على كل شيء قدير ) . .
وكذلك تتجلى نصاعة العقيدة الإسلامية ، ووضوحها وبساطتها . . وتزيد جلاء أمام ذلك الركام من الانحرافات والتصورات والأساطير والوثنيات المتلبسة بعقائد فريق من أهل الكتاب وتبرز الخاصية الأولى للعقيدة الإسلامية . في تقرير حقيقة الألوهية ، وحقيقة العبودية ، والفصل التام الحاسم بين الحقيقتين . بلا غبش ولا شبهة ولا غموض . .
يقول تعالى مخبرًا وحاكمًا بكفر النصارى في ادعائهم في المسيح ابن مريم - وهو عبدٌ من عباد الله ، وخلق من خلقه - أنه هو الله ، تعالى الله عن قولهم علوًا كبيرًا .
ثم قال مخبرًا عن قدرته على الأشياء وكونها تحت قهره وسلطانه : { قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الأرْضِ جَمِيعًا } أي : لو أراد ذلك ، فمن ذا الذي كان يمنعه{[9441]} ؟ أو من{[9442]} ذا الذي يقدر على صرفه عن ذلك ؟
ثم قال : { وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يخْلُقُ مَا يَشَاءُ } أي : جميعُ الموجودات ملكهُ وخلقه ، وهو القادر على ما يشاء ، لا يُسأل عما يفعل ، لقدرته وسلطانه ، وعدله وعظمته ، وهذا رد على النصارى عليهم لعائن الله المتتابعة{[9443]} إلى يوم القيامة .
ثم أخبر تعالى بكفر النصارى القائلين بأن الله هو المسيح ، وهذه فرقة من النصارى وكل فرقهم على اختلاف أقوالهم يجعل للمسيح عليه السلام حظاً من الألوهية ، وقد تقدم القول في لفظ { المسيح } في سورة آل عمران ، ثم رد عليهم تعالى قوله لنبيه : { قل فمن يملك من الله شيئاً } أي لا مالك ولا رادَّ لإرادة الله تعالى في المسيح ولا في غيره فهذا مما تقضي العقول معه أن من تنفذ الإرادة فيه ليس بإله ، ثم قرر تعالى ملكه في السموات والأرض وما بينهما فحصل المسيح عليه السلام أقل أجزاء ملك الله تعالى ، وقوله تعالى : { يخلق ما يشاء } إشارة إلى خلقه المسيح في رحم مريم من غير والد . بل اختراعاً كآدم عليه السلام ، وقد تقدم في آل عمران الفرق بين قوله تعالى في قصة زكرياء { يفعل ما يشاء } [ آل عمران : 40 ] وفي قصة مريم { يخلق ما يشاء } وقوله تعالى : { والله على كل شيء قدير } عموم معناه الخصوص في ما عدا الذات والصفات والمحالات ، والشيء في اللغة هو الموجود .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم}، نزلت في نصارى نجران الماريعقوبيين، منهم السيد والعاقب وغيرهما، {قل} لهم يا محمد، {فمن يملك}: فمن يقدر أن يمتنع، {من الله شيئا}: من شيء من عذابه، {إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعا} بعذاب أو بموت، فمن الذي يحول بينه وبين ذلك؟ ثم عظم الرب جل جلاله نفسه عن قولهم حين قالوا: إن الله هو المسيح ابن مريم، فقال سبحانه: {ولله ملك السماوات والأرض}: إليه سلطان السموات والأرض، {وما بينهما} من الخلق، {يخلق ما يشاء}، يعني عيسى، شاء أن يخلقه من غير بشر، {والله على كل شيء قدير} من خلق عيسى من غير بشر وغيره من الخلق قدير، مثلها في آخر السورة.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
هذا ذمّ من الله عزّ ذكره للنصارى والنصرانية الذين ضلوا عن سبل السلام، واحتجاج منه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم في فريتهم عليه بادعائهم له ولدا، يقول جلّ ثناؤه: أقسم لقد كفر الذين قالوا: إن الله هو المسيح بن مريم، وكفرهم في ذلك تغطيتهم الحقّ في تركهم نفي الولد عن الله جلّ وعزّ، وادّعائهم أن المسيح هو الله فرية وكذبا عليه.
"قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللّهِ شَيئْا إنْ أرَادَ أنْ يُهْلِكَ المَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وأُمّهُ وَمَنْ فِي الأرْضِ جَمِيعا": يقول جلّ ثناؤه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل يا محمد للنصارى الذين افتروا عليّ، وضلوا عن سواء السبيل، بقيلهم: إن الله هو المسيح ابن مريم "مَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللّهِ شَيْئا": من الذي يطيق أن يدفع من أمر الله جلّ وعزّ شيئا، فيردّه إذا قضاه من قول القائل: ملكت على فلان أمره: إذا صار لا يقدر أن ينفذ أمرا إلا به.
وقوله: "إنْ أرادَ أنْ يُهْلِكَ المَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وأُمّهُ وَمَنْ في الأرْضِ جَمِيعا "يقول: من ذا الذي يقدر أن يردّ من أمر الله شيئا إن شاء أن يهلك المسيح ابْن مريم بإعدامه من الأرض وإعدام أمه مريم، وإعدام جميع من في الأرض من الخلق جميعا. يقول جلّ ثناؤه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل لهؤلاء الجهلة من النصارى لو كان المسيح كما يزعمون أنه هو الله، وليس كذلك لقدَر أن يردّ أمر الله إذا جاءه بإهلاكه وإهلاك أمه، وقد أهلك أمه فلم يقدر على دفع أمره فيها إذ نزل ذلك، ففي ذلك لكم معتبر إن اعتبرتم، وحجة عليكم إن عقلتم في أن المسيح بشر كسائر بني آدم، وأن الله عزّ وجلّ هو الذي لا يغلب ولا يقهر ولا يردّ له أمر، بل هو الحيّ الدائم القيوم الذي يُحيى ويميت، وينشئ ويفني، وهو حيّ لا يموت.
"ولِلّهِ مُلْكُ السّمَوَاتِ والأرْضِ وما بَيْنَهُما يَخْلُقُ ما يَشاءُ": والله له تصريف ما في السموات والأرض وما بينهما، يعني: وما بين السماء والأرض، يهلك من يشاء من ذلك، ويبقى ما يشاء منه، ويوجد ما أراد، ويعدم ما أحبّ، لا يمنعه من شيء أراد من ذلك مانع، ولا يدفعه عنه دافع ينفذ فيهم حكمه، ويمضي فيهم قضاءه، لا المسيح الذي إن أراد إهلاكه ربه وإهلاك أمه، لم يملك دفع ما أراد به ربه من ذلك. يقول جلّ وعزّ: كيف يكون إلها يُعبد من كان عاجزا عن دفع ما أراد به غيره من السوء، وغير قادر على صرف ما نزل به من الهلاك؟ بل الإله المعبود الذي له ملك كلّ شيء، وبيده تصريف كلّ من في السماء والأرض وما بينهما. فقال جلّ ثناؤه: "وَما بَيْنَهُما"، وقد ذكر السموات بلفظ الجمع، ولم يقل: وما بينهنّ، لأن المعنى: وما بين هذين النوعين من الأشياء...
"يَخْلُقُ ما يَشاءُ": ينشئ ما يشاء ويوجده، ويخرجه من حال العدم إلى حال الوجود، ولن يقدر على ذلك غير الله الواحد القهار، وإنما يعني بذلك أن له تدبير السموات والأرض وما بينهما، وتصريفه وإفناءه وإعدامه، وإيجاد ما يشاء مما هو غير موجود ولا منشأ، يقول: فليس ذلك لأحد سواي، فكيف زعمتم أيها الكذبة أن المسيح إليه، وهو لا يطيق شيئا من ذلك، بل لا يقدر على دفع الضرر عن نفسه، ولا عن أمه، ولا اجتلاب نفع إليها، إلا بإذني.
"وَاللّهُ على كُلّ شَيءٍ قَدِيرٌ": الله المعبود هو القادر على كلّ شيء، والمالك كل شيء، الذي لا يعجزه شيء أراده، ولا يغلبه شيء طلبه، المقتدر على هلاك المسيح وأمه ومن في الأرض جميعا، لا العاجز الذي لا يقدر على منع نفسه من ضرّ نزل به من الله ولا منع أمه من الهلاك.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم} كفروا كفر مكابرة ومعاندة لا كفر شبهة وجهل لأنهم أقروا أنه ابن مريم، ثم يقولون: إنه إله، فإذا كان هو ابن مريم، وأمه أكبر منه، فمن البعيد أن يكون من هو أصغر منه إلها لمن هو أكبر منه وربا، وإلا الكفر قد يكون بدون ذلك القول. لكن التأويل هو ما ذكرنا أنهم كفروا معاندة ومكابرة مع إقرارهم أنه ابن مريم حين جعلوا الأصغر إله الأكبر وربا.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
قولهم: {إِنَّ الله هُوَ المسيح} معناه بتّ القول، على أن حقيقة الله هو المسيح لا غير. قيل: كان في النصارى قوم يقولون ذلك. وقيل: ما صرّحوا به ولكن مذهبهم يؤدي إليه، حيث اعتقدوا أنه يخلق ويحيي ويميت ويدبر أمر العالم. {فَمَن يَمْلِكُ مِنَ الله شَيْئاً}: فمن يمنع من قدرته ومشيئته شيئاً {إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ} من دعوه إلها من المسيح وأمّه دلالة على أن المسيح عبد مخلوق كسائر العباد. وأراد بعطف {مَن فِي الأرض} على (المسيح وأمّه) أنهما من جنسهم لا تفاوت بينهما وبينهم في البشرية {يَخْلُقُ مَا يَشَاء} أي يخلق من ذكر وأنثى ويخلق من أنثى من غير ذكر كما خلق عيسى، ويخلق من غير ذكر وأنثى كما خلق آدم، أو يخلق ما يشاء كخلق الطير على يد عيسى معجزة له، وكإحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص، وغير ذلك، فيجب أن ينسب إليه ولا ينسب إلى البشر المجرى على يده.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
ثم أخبر تعالى بكفر النصارى القائلين بأن الله هو المسيح، وهذه فرقة من النصارى وكل فرقهم على اختلاف أقوالهم يجعل للمسيح عليه السلام حظاً من الألوهية...
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
فمن يمنع من قدرة الله وإرادته شيئاً؟ أي: لا أحد يمنع مما أراد الله شيئاً إن أراد أن يهلك من ادعوه إلهاً من المسيح وأمه. وفي ذلك دليل على أنه وأمه عبدان من عباد الله لا يقدران على رفع الهلاك عنهما، بل تنفذ فيهما إرادة الله تعالى، ومن تنفذ فيه لا يكون إلهاً، وعطف عليهما: ومن في الأرض جميعاً، عطف العام على الخاص ليكونا قد ذكرا مرّتين: مرّة بالنص عليهما، ومرة بالاندراج في العام، وذلك على سبيل التوكيد والمبالغة في تعلق نفاذ الإرادة فيهما. وليعلم، أنهما من جنس من في الأرض لا تفاوت بينهما في البشرية، وفي ذلك إشارة إلى حلول الحوادث بهما، والله سبحانه وتعالى منزه أن تحلّ به الحوادث، وأن يكون محلاً لها.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما تم ذلك موضحاً لأن من لم يتبع الكتاب الموصوف كان كافراً وعن الطريق الأمم جائراً حائراً، وكان محصل حال اليهود كما رأيت فيما تقدم ويأتي من نصوص التوراة -أنهم لا يعتقدون على كثرة ما يرون من الآيات أن الله مع نبيهم دائماً، وكان أنسب الأشياء بعد الوعظ أن يذكر حال النصارى في نبيهم، فإنه مباين لحال اليهود من كل وجه، فأولئك على شك في أنه معه، وهؤلاء اعتقدوا أنه هو، فقال تعالى مبيناً أنهم في أظلم الظلام وأعمى العمى: {لقد} أو يقال: إن اليهود لما فرطوا فكفروا، أفهم ذلك أن النصارى لما أفرطوا كفروا، فصار حالهم كالنتيجة لما مضى فقال: لقد {كفر الذين قالوا} مؤكدين لبعد ما قالوه من العقل فهو في غاية الإنكار {إن الله} أي على ما له من جميع صفات الكمال التي لا يجهلها من له أدنى تأمل إذا ترجى الهدى وانخلع من أسر الهوى {هو المسيح} أي عينه، وهو أقطع الكفر وأبينه بطلاناً، ووصفه بما هو في غاية الوضوح في بطلان قولهم لبعده عن رتبة الألوهية في الحاجة إلى امرأة فقال: {ابن مريم} فهو محتاج إلى كفالتها بما لها من الأمومة.
ولما بطل مدعاهم على أتقن منهاج وأخصره، وكان بما دق على بعض الأفهام، أوضحه بقوله: {قل} دالاً على أن المسيح عليه السلام عبد مملوك لله، مسبباً عن كفرهم {فمن يملك من الله} أي الملك الذي له الأمر كله {شيئاً} أي من الأشياء التي يتوهم أنها قد تمنعه مما يريد، بحيث يصير ذلك المملوك أحق به منه ولا ينفذ له فيه تصرف {إن أراد} أي الله سبحانه {أن يهلك المسيح} وكرر وصفه بالبنوة إيضاحاً للمراد فقال: {ابن مريم} وأزال الشبهة جداً بقوله: {وأمه} ولما خصهما دليلاً على ضعفهما المستلزم للمراد، عم دلالة على عموم القدرة المستلزم لتمام القهر لكل من يماثلهما المستلزم لعجز الكل المبعد من رتبة الإلهية، فقال موضحاً للدليل بتسويتهما ببقية المخلوقات: {ومن في الأرض جميعاً} أي فمن يملك منعه من ذلك.
ولما كان التقدير: فإن ذلك كله لله، يهلكه كيف شاء متى شاء، عطف عليه ما هو أعم منه، فقال معلماً بأنه- مع كونه مالكاً مَلِكاً -له تمام التصرف: {ولله} أي الملك الأعلى الذي لا شريك له {ملك السماوات} أي التي بها قيام الأرض {والأرض وما بينهما} أي ما بين النوعين وبين أفرادهما، بما به تمام أمرهما؛ ثم استأنف قوله دليلاً على ما قبله ونتيجة له: {يخلق ما يشاء} على أي كيفية أراد- كما تقدم أن له أن يعدم ما يشاء كذلك، فلا عجب في خلقه بشراً من أنثى فقط، لا بواسطة ذكر، حتى يكون سبباً في ضلال من ضل به، ولما دل ذلك على تمام القدرة على المذكور عم فقال: {والله} أي ذو الجلال والإكرام {على كل شيء} أي من ذلك وغيره {قدير}.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
أقام الله الحجة على أهل الكتاب كافة، ثم بين ما كفر به النصارى خاصة، فقال: {لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} قال البيضاوي: (هم الذين قالوا بالاتحاد منهم، وقيل لم يصرح به أحد منهم، ولكن لما زعموا أن فيه لاهوتا وقالوا: لا إله إلا واحد – لزمهم أن يكون هو المسيح فنسب إليهم لازم قولهم، توضيحا لجهلهم، وتفضيحا لمعتقدهم) وذكر الفخر الرازي في تفسيره أن هذا القول مبني على عقيدة الحلول والاتحاد، وأنه لازم مذهب النصارى وإن كانوا لا يقولونه أو يقول أحد منهم. وصرح بعض المفسرين بأن هذا المذهب مذهب اليعقوبية منهم خاصة. وذلك أن السابقين من المفسرين والمؤرخين ذكروا أن النصارى ثلاثة فرق: اليعقوبية والملكانية والنسطورية. واعلم أن أمثال الزمخشري والبيضاوي والرازي لا يعتد بما يعرفون عن النصارى، فإنهم لم يقرؤوا كتبهم ولم يناظروهم فيها وفي عقائدهم إلا قليلا، وإنما يأخذون ما في كتب المسلمين عنهم قضايا مسلمة. ومنها ما هو مشهور فيها من تفسير الآب والابن وروح القدس بأنها الوجود والعلم والحياة، فالقول بها ينافي وحدانية الخالق. وكان يقول مثل هذا بعض علماء النصارى لعلماء المسلمين، والظاهر أن بعض المتقدمين كان يعتقد هذا، كما أنه يوجد الآن في نصارى أوروبا وغيرهم كثير من الموحدين الذين يعتقدون أن المسيح نبي رسول لا إله. ولعله لم يبق في النصارى من يقول بتلك الفلسفة، لأنهم في كل عصر يغيرون في دينهم ما شاءوا أن يغيروا في فلسفته وغير فلسفته.
وكان أكبر تغيير حدث بعد هؤلاء المفسرين مذهب (البروتستانت) أي إصلاح النصرانية، حدث منذ أربع قرون وصار هو السائد في أعظم الأمم وارتقاء كالولايات المتحدة وانكلترة وألمانية. نسف هذا المذهب أكثر التقاليد والخرافات النصرانية التي كانت قبله، ثم استبدل بها تقاليد أخرى فصار عدة مذاهب في الحقيقة، مع هذا ترى المصلحين الذين زعموا أنهم أعادوا النصرانية إلى أصلها لم يستطيعوا أن يرجعوها إلى التوحيد الصحيح الذي هو دين المسيح وسائر أنبياء بني إسرائيل ورسل الله أجمعين، فهم لا يزالون يقولون بألوهية المسيح وبالتثليث ويعدون الموحد غير مسيحي، كما يقول ذلك الفرقتان الكبيرتان الأخريان من فرق النصرانية في هذا العصر – وهم الكاثوليك والأرثوذكس – فجميع فرق نصارى هذا العصر تقول إن الله هو المسيح ابن مريم، وأن المسيح ابن مريم هو الله. تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا. والظاهر أن النصارى القدماء لم يكونوا متفقين على هذه العقيدة كما قال مفسرونا.
قال (الدكتور بوست) في تاريخ الكتاب المقدس عند الكلام على لفظ الجلالة ما نصه:
(طبيعة الله عبارة عن ثلاثة أقانيم متساوية الجوهر: الله الآب، والله الابن، والله الروح القدس، فإلى الآب ينتمي الخلق بواسطة الابن، وإلى الابن الفدى، وإلى الروح القدس التطهير. غير أن الثلاثة أقانيم تتقاسم جميع الأعمال على السواء. أما مسألة التثليث فغير واضحة في العهد القديم كما هي في العهد الجديد. وقد أشير إلى هذا في (تلك ص 1) حيث ذكر (الله) و (روح الله) الخ (قابل مز 33: يو 16: 1 و3) والحكمة الإلهية المشخصة في (أم ص 8) تقابل الكلمة في (يو ص 1) وربما تشير إلى الأقنوم الثاني. وتطبق نعوت القديم على كل أقنوم من الأقانيم الثلاثة على حدته) اه، بحروفه.
والحق أن العهد القديم – أي كتب الأنبياء الذين كانوا قبل المسيح – ليس فيها شيء ظاهر ولا خفي في عقيدة التثليث لأنها عقيدة وثنية محضة. ومن أغرب التكلف تفسير الحكمة في أمثال سليمان بالكلمة بالمعنى الذي يريدونه وهو وهم لم يخطر في بال سليمان، ولا المسيح عليهما السلام، وسترى أنهم قالوا: إن استعمال الكلمة بهذه المعنى لم يرد إلا في كلام يوحنا!! وقد كان جميع أنبياء الله تعالى موحدين، أعداء للوثنية والوثنيين. وإنما يصح أن يقال إن التوحيد ظاهر جلي في العهد الجديد أيضا، والتثليث فيه هو الخفي. فإن العقيدة التي يدعو إليها دعاة النصرانية، والعبارة التي يذكرونها في ألوهية المسيح والتثليث لا تفهم كلها من العهد الجديد، بل هنالك عبارات يتحكمون في تفسيرها وشرحها كما يهوون، على خلاف شهير فيها بين متقدميهم ومتأخريهم.
والعمدة عندهم في العقيدة أول عبارة من إنجيل يوحنا وهي (في البدء كانت الكلمة، والكلمة كان عند الله، والله هو الكلمة) وقد أطلقوا لفظ الكلمة على المسيح، فصار معنى الفقرة الثالثة من عبارة إنجيل يوحنا: والله هو المسيح ابن مريم. وهذا عين ما أسنده القرآن إليهم، فكيف يقول البيضاوي والرازي أنه أسند إليهم لازم مذهبهم؟.
قال بوست في قاموسه: (يقصد بالكلمة السيد المسيح ولم ترد هذه اللفظة بهذا المعنى إلا في مؤلفات يوحنا (1: 1- 14 وأيو 1: 1 ورؤ 19: 13) وقد استعمل الفيلسوف (فيو) لفظ (الكلمة) غير أنه يقصد بها غير ما قصد يوحنا) اه.
أقول: قد بينا في تفسير (فنسوا حظا مما ذكروه به) أنهم قالوا إن يوحنا ما كتب إنجيله في آخر عمره إلا إجابة لاقتراح من ألحوا عليه بذلك للعلة التي ذكروها. فلولا هذا الاقتراح والإلحاح لما كتب، ولو لم يكتب لم تعرف هذه العقيدة – فثبت أن هذه العقيدة لم يذكرها المسيح نفسه في كلامه ولا دعا إليها أحد من تلاميذه الذين انتشروا في البلاد للدعوة إلى إنجيله، ولم يعرفها أحد في العشر العاشر من القرن الأول الذي كتب فيه يوحنا إنجيله هذا، إن صح أن يوحنا الحواري هو الذي كتبه – ولن يصح – ولا يعقل أن يسكت المسيح وجميع تلاميذه عن هذه العقيدة إذا كانت هي أصل الدين كما تزعم النصارى، بل الذي تتوفر عليه الدواعي أن يقررها المسيح نفسه في كلامه، ويجعلها تلاميذه أول ما يدعون إليه ويكررونه في أقوالهم ورسائلهم.
ولا يغرنك ما أشار إليه (بوست) من الشواهد عن رسالة يوحنا ورؤياه فتظن أن هنالك نصا أو نصوصا في إثبات هذه العقيدة، كلا! إن الشاهد الذي عزاه إلى أول رسالته الأولى هو: (الذي كان من البدء، الذي سمعناه، الذي رأيناه بعيوننا، الذي شاهدناه ولمسته أيدينا من جهة كلمة الحياة) فكلمة الحياة لا تفيد هذه العقيدة إلا بتحكمهم. وأما الشاهد الذي عزاه إلى الرؤيا فهو: (11 ثم رأيت السماء مفتوحة إذا فرس أبيض والجالس عليه يدعى أمينا وصادقا بالعدل يحكم ويحارب 12 وعيناه كلهيب من نار وعلى رأسه تيجان كثيرة وله اسم مكتوب ليس أحد يعرفه إلا هو 13 وهو متسربل بثوب مغموس بدم ويدعى اسمه كلمة الله 14 والأجناد الذين في السماء كانوا يتبعونه على خيل بيض لابسين بزا أبيض نقيا 15 ومن فمه يخرج سيف ماض لكي يضرب به الأمم وهو سيرعاهم بعصا من حديد) فأنت ترى أن هذه الأوصاف لا تنطبق على المسيح وإنما تنطبق على أخيه محمد عليهما الصلاة والسلام، فمن أسمائه الصادق والأمين، وبالعدل كان يحكم ويحارب الخ ولم يكن للمسيح شيء من هذه الصفات، لأنه لم يحكم ولم يحارب ولم يرع الأمم. ولفظ (كلمة الله) هنا لا يفيد معنى تلك العقيدة ولا يشير إليها لأن كل شيء وجد بكلمة الله وهي كلمة التكوين {إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون} [يس: 82].
وأما الدليل على كون هذه العقيدة وثنية فهو يظهر لك جليا فيما كتبناه في تفسير قوله تعالى من هذا الجزء: {يا أهل الكتاب لا تغلو في دينكم} – إلى قوله – {ولا تقولا ثلاثة} [النساء: 169] وذلك أن زعمهم (أن الله هو المسيح ابن مريم) جزء من عقيدة التثليث المأخوذة عن قدماء المصريين والبراهمة والبوذيين وغيرهم من وثني الشرق والغرب. وقد أوردنا هنالك من شواهد كتب التاريخ وآثار الأولين ما علم به قطعا أن النصارى أخذوا هذه العقيدة عنهم. وسنعود إلى ذكرها عند تفسير قوله تعالى في هذه السورة: {لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة} [المائدة:73] – قال تعالى في تبكيت هؤلاء الناس ورد زعمهم:
{قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ اللّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعًا} أي قل أيها الرسول لهؤلاء النصارى المتجرئين على مقام الألوهية بهذا الزعم الباطل: من يملك من أمر الله وإرادته شيئا يدفع به الهلاك والإعدام عن المسيح وأمه وعن سائر أهل الأرض إن أراد عز وجل أن يهلكهم ويبيدهم؟ والاستفهام للإنكار والتوبيخ والتجهيل، أي أن المسيح وأمه من المخلوقات التي هي قابلة لطروء الهلاك والفناء عليها كسائر أهل الأرض، فإذا أراد الله أن يهلكهما ويهلك أهل الأرض جميعا لا يوجد أحد يستطيع أن يرد إرادته، لأنه هو مالك لأمر الوجود كله، ولا يملك أحد من أمره شيئا يستطيع به أن يصرفه عن عمل يريده، أو يحمله على أمر لا يريده، أو يستقل بعمل دونه. تقول العرب: ملك فلان على فلان أمره: إذا استولى عليه فصار لا يستطيع أن ينفذ أمرا ولا أن يفعل شيئا إلا به أو بإذنه.
وقوله تعالى: {فَمَن يَمْلِكُ مِنَ اللّهِ شَيْئًا} أبلغ من مثل هذا القول لأنه نفى أن يملك أحد بعض أمره تعالى فضلا عن ملك أمره كله. فصار المعنى أنه لا يوجد أحد يستطيع أن يرد أمره أو يحوله عن إرادته بوجه ما ولو الدعاء والشفاعة، إذ لا يستطيع أحد أن يشفع عنده إلا بإذنه لمن ارتضاه، فالأمر في ذلك كله له وحده عز وجل. ويدخل في عموم ذلك المسيح نفسه وغيره من الأنبياء، وكذا الملائكة عليهم السلام. فإذا كان المسيح لا يستطيع أن يدفع عن نفسه الهلاك أو عن والدته كما أنه لا يستطيع غيره أن يدفعه عنه إذا أراد الله تعالى إنزاله به، فكيف يكون هو الله الذي بيده ملكوت كل شيء؟
ومن غريب تهافت هؤلاء الناس أنهم قالوا إن شر نوع من أنواع الإهلاك وهو الصلب نزل بالمسيح – الذي هو الكلمة، والله هو الكلمة بزعمهم – ولم يستطع أن يدفعه من نفسه، وأنه استغاث بربه خائفا وجلا ضارعا خاضعا ليصرف عنه ذلك الكأس فلم يجبه إلى ما طلب!! وهم يكابرون أنفسهم في دفع هذا التهافت بمثل قولهم: أنه كان له طبيعتان ومشيئتان، ثنتان منهما إلهيتان وثنتان بشريتان، وليت شعري إذا كان هذا ممكنا فهل يمكن معه أن يجهل المسيح بطبيعته البشرية طبيعته الإلهية فيعترض عليها بمثل قولهم عنه في إنجيل متى 37: 46 (إلهي إلهي لماذا تركتني) ويستنجد غير عالم بما يمكن وما لا يمكن لها بمثل ما قالوه عنه في إنجيل متى 26: 39 (ثم تقدم قليلا وخر على وجهه وكان يصلي قائلا: يا أبتاه إن أمكن فلتعبر عني هذه الكأس – إلى أن قال – 42 فمضى أيضا ثانية وصلى قائلا: إن يمكن أن تعبر عني هذه الكأس إلا أن أشربها فلتكن مشيئتك) وهذا أعظم حجة عليهم مصدقة لحجة القرآن، فإن مشيئة الله لا يردها شيء.
ثم إن الطبيعة البشرية هي التي خاطبت البشر فإذا كان هذا شأنها لا يقبل قولها ولا يوثق بتعليمها، فكيف تجعل مع الطبيعة الأخرى شيئا واحدا، يسمى ربا وإلها يعبد؟ والناس ما رأوا إلا الطبيعة البشرية، ولا عرفوا غيرها ولا سمعوا إلا كلامها ولا رأوا إلا أفعالها؟ والنكتة في عطف "من في الأرض جميعا "على المسيح وأمه التذكير بأنهما من جنس البشر الذين في الأرض، وما جاز على أحد المثلين جاز على الآخر. وأناجيلهم تعترف بأن المسيح كان كغيره في الشؤون البشرية كما سيأتي في تفسير (ما المسيح ابن مريم إلا رسول) الآية.
{وَلِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا} الظاهر أن هذه الجملة حالية أي فمن يملك من الله شيئا إن أراد إهلاك المسيح وأمه وأهل الأرض قاطبة والحال أنه هو صاحب الملك المطلق والتصرف الاستقلالي الكامل في السماوات والأرض وما بينهما، إي ما بين هذين العالمين العلوي والسفلي بالنسبة إليكم.
وهذا الملك والتصرف مما تعترف به النصارى، ولكنهم زعموا أن صاحب هذا الملك العظيم والتصرف المطلق والكمال الأعلى قد عرض له بعد خلق آدم – الذي ندم وتأسف من قبله أنه خلقه –أمر عظيم، وهو أن آدم عصاه فاقتضى عدله أن يعذبه، واقتضت رحمته أن يعذبه، فوقع التناقض والتعارض بين مقتضى صفاته فلم يجد لذلك مخرجا يجمع به بين مقتضى العدل والرحمة، إلا أن يحل في بطن امرأة من ذرية آدم ويتكون جنينا فيه فتلده إنسانا كاملا وإلها كاملا! ثم يعرض نفسه لشر قتلة لعن صاحبها على لسان رسله وهي الصلب، فداء لآدم وذريته، وجمعا بين عدله بتعذيب واحد منهم هو وحده البريء من الذنب، ورحمة الآخرين إن آمنوا بهذه العقيدة ولو بغير عقل، ثم إنه لم يتم له هذا الجمع لأن أكثر البشر لم يؤمنوا بها!! فهو لا بد أن يعذبهم في الآخرة. على أنه عذب كثيرا من الناس بمثل ما عذبه به بغير ذلك ومنهم المؤمنون بتلك العقيدة فلماذا لم يكن تعذيبهم في الدنيا فداء لهم؟ وهل هذا هو الجمع بين العدل والرحمة؟!
ولما كانت شبهتهم على كون المسيح بشرا إلها، وإنسانا ربا، هي أنه خلق على غير السنة العامة في خلق البشر، وأنه عمل أعمالا غريبة لا تصدر عن البشر، قال تعالى في رد هذه الشبهة {يَخْلُقُ مَا يَشَاء} أي لما كان له ملك السماوات والأرض وما بينهما، كان من المعقول أن يكون خلقه للأشياء تابعا لمشيئته، فقد يخلق بعض الأحياء من مادة لا توصف بذكورة ولا أنوثة كأصول أنواع الحيوان، ومنها أبو البشر عليه السلام، وقد يخلق بعضها من ذكر فقط أو أنثى فقط، وقد يخلق بعضها بين ذكر وأنثى. ولا يدل شكل الخلق ولا سببه ولا امتياز بعض المخلوقات – كالكهرباء- على بعض على ألوهيتها أو حلول الإله الخالق فيها، بل هذا لا يعقل ولا يمكن. فامتياز الأرض على عطارد أو زحل بوجود الأحياء فيها من البشر وغيرهم لا يعد دليلا على كون الأرض إلها لذلك الكوكب الذي فضلته بهذا المزية. كذلك سنة الله في خلق المسيح ومزاياه لا تدل على كونه إلها أو ربا لمن لم توجد فيهم هذه المزايا، لأن المزايا في الخلق كلها بمشيئة الخالق، فلا يخرج بها المخلوق عن كونه مخلوقا نسبته إلى خالقه كنسبة سائر المخلوقات إليه تعالى وأما الامتياز ببعض الأفعال الغريبة فهو معهود من البشر أيضا، ونقل ذلك عن جميع الأمم والملل، وقد ادعت الأمم الوثنية لأصحابها الألوهية والربوبية، وأجمع الأنبياء من بني إسرائيل وغيرهم على توحيد الله تعالى وسموا تلك الغرائب بالآيات الإلهية، وقالوا إن الله تعالى قد يؤيد بها أنبياءه ورسله فلماذا خرجتم أيها النصارى عن سنة النبيين والمرسلين، واتبعتم سنة الوثنين كقدماء الهنود والمصريين، الذين جعلوا غرابة خلق مقدسيهم وغرابة بعض أفعالهم، دليلا على ألوهيتهم؟ {وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} فكل ما تعلقت به مشيئته ينفذ بقدرته، وإنما يعد بعض خلقه غريبا بالنسبة إلى علم البشر الناقص لا بالنسبة إليه تعالى. وكذلك غرابة بعض أفعالهم، وهي قد تكون عن علم كسبي يجهله غيرهم، أو قوة نفسية لم يبلغها سواهم، أو تأييد رباني لا صنع لهم فيه ولا تأثير.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
..لما ذكر تعالى أخذ الميثاق على أهل الكتابين، وأنهم لم يقوموا به بل نقضوه، ذكر أقوالهم الشنيعة. فذكر قول النصارى، القول الذي ما قاله أحد غيرهم، بأن الله هو المسيح ابن مريم، ووجه شبهتهم أنه ولد من غير أب، فاعتقدوا فيه هذا الاعتقاد الباطل مع أن حواء نظيره، خُلِقَت بلا أم، وآدم أولى منه، خلق بلا أب ولا أم، فهلا ادعوا فيهما الإلهية كما ادعوها في المسيح؟
فدل على أن قولهم اتباع هوى من غير برهان ولا شبهة. فرد الله عليهم بأدلة عقلية واضحة فقال: {قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا}
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ذلك هو الصراط المستقيم. فأما القول بأن الله هو المسيح بن مريم فهو الكفر؛ وأما القول بأن اليهود والنصارى هم أبناء الله وأحباؤه، فهو الافتراء الذي لا يستند إلى دليل.. وهذا وذلك من مقولات أهل الكتاب، التي تخفي نصاعة التوحيد؛ والتي جاءهم الرسول الأخير ليكشف عن الحقيقة فيها، ويرد الشاردين المنحرفين عن هذه الحقيقة إليها:
(لقد كفر الذين قالوا: إن الله هو المسيح ابن مريم. قل: فمن يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعا؟ ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما، يخلق ما يشاء والله على كل شيء قدير)..
إن الذي جاء به عيسى -عليه السلام- من عند ربه هو التوحيد الذي جاء به كل رسول.
والإقرار بالعبودية الخالصة لله شأن كل رسول.. ولكن هذه العقيدة الناصعة أدخلت عليها التحريفات؛ بسبب دخول الوثنيين في النصرانية؛ وحرصهم على رواسب الوثنية التي جاءوا بها ومزجها بعقيدة التوحيد، حتى لم يعد هناك إمكان لفصلها وفرزها وتنقية جوهر العقيدة منها.
ولم تجيء هذه الانحرافات كلها دفعة واحدة؛ ولكنها دخلت على فترات؛ وأضافتها المجامع واحدة بعد الأخرى؛ حتى انتهت إلى هذا الخليط العجيب من التصورات والأساطير، الذي تحار فيه العقول. حتى عقول الشارحين للعقيدة المحرفة من أهلها المؤمنين بها!
وقد عاشت عقيدة التوحيد بعد المسيح -عليه السلام- في تلامذته وفي أتباعهم. وأحد الأناجيل الكثيرة التي كتبت -وهو إنجيل برنابا- يتحدث عن عيسى -عليه السلام- بوصفه رسولا من عند الله. ثم وقعت بينهم الاختلافات. فمن قائل: إن المسيح رسول من عند الله كسائر الرسل. ومن قائل: إنه رسول نعم ولكن له بالله صلة خاصة. ومن قائل: إنه ابن الله لأنه خلق من غير أب، ولكنه على هذا مخلوق لله. ومن قائل: إنه ابن الله وليس مخلوقا بل له صفة القدم كالأب..
ولتصفية هذه الخلافات اجتمع في عام 325 ميلادية "مجمع نيقية "الذي اجتمع فيه ثمانية وأربعون ألفا من البطارقة والأساقفة. قال عنهم ابن البطريق أحد مؤرخي النصرانية:
" وكانوا مختلفين في الآراء والأديان. فمنهم من كان يقول: إن المسيح وأمه إلهان من دون الله. وهم "البربرانية".. ويسمون:"الريمتيين". ومنهم من كان يقول: إن المسيح من الأب بمنزلة شعلة نار انفصلت من شعلة نار، فلم تنقص الأولى بانفصال الثانية منها. وهي مقالة "سابليوس" وشيعته. ومنهم من كان يقول: لم تحبل به مريم تسعة أشهر، وإنما مر في بطنها كما يمر الماء في الميزاب، لأن الكلمة دخلت في أذنها، وخرجت من حيث يخرج الولد من ساعتها. وهي مقالة "إليان" وأشياعه. ومنهم من كان يقول: إن المسيح إنسان خلق من اللاهوت كواحد منا في جوهره، وإن ابتداء الابن من مريم، وإنه اصطفي ليكون مخلصا للجوهر الإنسي، صحبته النعمة الإلهية، وحلت فيه بالمحبة والمشيئة، ولذلك سمي "ابن الله" ويقولون: إن الله جوهر قديم واحد، وأقنوم واحد، ويسمونه بثلاثة أسماء، ولا يؤمنون بالكلمة، ولا بروح القدس. وهي مقالة "بولس الشمشاطي" بطريرك أنطاكية وأشياعه وهم "البوليقانيون". ومنهم من كان يقول: إنهم ثلاثة آلهة لم تزل: صالح، وطالح، وعدل بينهما. وهي مقالة" مرقيون "اللعين وأصحابه! وزعموا أن" مرقيون "هو رئيس الحواريين وأنكروا" بطرس". ومنهم من كانوا يقولون بألوهية المسيح. وهي مقالة "بولس الرسول" ومقالة الثلاثمائة وثمانية عشر أسقفا..
وقد اختار الإمبراطور الروماني "قسطنطين" الذي كان قد دخل في النصرانية من الوثنية ولم يكن يدري شيئا من النصرانية! هذا الرأي الأخير وسلط أصحابه على مخالفيهم، وشرد أصحاب سائر المذاهب؛ وبخاصة القائلين بألوهية الأب وحده، وناسوتية المسيح.
وقد ذكر صاحب كتاب تاريخ الأمة القبطية عن هذا القرار ما نصه:
" إن الجامعة المقدسة والكنيسة الرسولية تحرم كل قائل بوجود زمن لم يكن ابن الله موجودا فيه. وأنه لم يوجد قبل أن يولد. وأنه وجد من لا شيء. أو من يقول: إن الابن وجد من مادة أو جوهر غير جوهر الله الآب. وكل من يؤمن أنه خلق، أو من يقول: إنه قابل للتغيير، ويعتريه ظل دوران".
ولكن هذا المجمع بقرارته لم يقض على نحلة الموحدين أتباع "آريوس" وقد غلبت على القسطنطينية، وأنطاكية، وبابل، والإسكندرية، ومصر.
ثم سار خلاف جديد حول "روح القدس" فقال بعضهم: هو إله، وقال آخرون: ليس بإله! فاجتمع "مجمع القسطنطينية الأول" سنة 381 ليحسم الخلاف في هذا الأمر.
وقد نقل ابن البطريق ما تقرر في هذا المجمع، بناء على مقالة أسقف الإسكندرية:
" قال ثيموثاوس بطريك الإسكندرية: ليس روح القدس عندنا بمعنى غير روح الله. وليس روح الله شيئا غير حياته. فإذا قلنا إن روح القدس مخلوق، فقد قلنا: إن روح الله مخلوق. وإذا قلنا: إن روح الله مخلوق، فقد قلنا: إن حياته مخلوقة. وإذا قلنا: إن حياته مخلوقة، فقد زعمنا أنه غير حي. وإذا زعمنا أنه غير حي فقد كفرنا به. ومن كفر به وجب عليه اللعن "!!!
وكذلك تقررت ألوهية روح القدس في هذا المجمع، كما تقررت ألوهية المسيح في مجمع نيقية. وتم "الثالوث" من الآب. والابن. وروح القدس..
ثم ثار خلاف آخر حول اجتماع طبيعة المسيح الإلهية وطبيعته الإنسانية.. أو اللاهوت والناسوت كما يقولون.. فقد رأى "نسطور" بطريرك القسطنطينية أن هناك أقنوما وطبيعة. فأقنوم الألوهية من الآب وتنسب إليه؛ وطبيعة الإنسان وقد ولدت من مريم، فمريم أم الإنسان -في المسيح- وليست أم الإله! ويقول في المسيح الذي ظهر بين الناس وخاطبهم -كما نقله عنه ابن البطريق:
" إن هذا الإنسان الذي يقول: إنه المسيح.. بالمحبة متحد مع الابن.. ويقال: إنه الله وابن الله، ليس بالحقيقة ولكن بالموهبة"..
ثم يقول: "إن نسطور ذهب إلى أن ربنا يسوع المسيح لم يكن إلها في حد ذاته بل هو إنسان مملوء من البركة والنعمة، أو هو ملهم من الله، فلم يرتكب خطيئة، وما أتى أمرا إدًا
وخالفه في هذا الرأي أسقف رومه، وبطريرك الإسكندرية، وأساقفة أنطاكية، فاتفقوا على عقد مجمع رابع. وانعقد" مجمع أفسس "سنة 431 ميلادية. وقرر هذا المجمع- كما يقول ابن البطريق -:
" أن مريم العذراء والدة الله. وأن المسيح إله حق وإنسان، معروف بطبيعتين، متوحد في الأقنوم".. ولعنوا نسطور!
ثم خرجت كنيسة الإسكندرية برأي جديد، انعقد له" مجمع أفسس الثاني "وقرر:
" أن المسيح طبيعة واحدة، اجتمع فيها اللاهوت بالناسوت".
ولكن هذا الرأي لم يسلم؛ واستمرت الخلافات الحادة؛ فاجتمع مجمع" خلقيدونية "سنة 451 وقرر:
" أن المسيح له طبيعتان لا طبيعة واحدة. وأن اللاهوت طبيعة وحدها، والناسوت طبيعة وحدها، التقتا في المسيح".. ولعنوا مجمع أفسس الثاني!
ولم يعترف المصريون بقرار هذا المجمع. ووقعت بين المذهب المصري" المنوفيسية "والمذهب" الملوكاني "الذي تبنته الدولة الإمبراطورية ما وقع من الخلافات الدامية، التي سبق أن أثبتنا فيها مقالة:"سير. ت. و. أرنولد "في كتابه" الدعوة إلى الإسلام "في مطالع تفسير سورة آل عمران..
ونكتفي بهذا القدر في تصوير مجمل التصورات المنحرفة حول ألوهية المسيح؛ والخلافات الدامية والعداوة والبغضاء التي ثارت بسببها بين الطوائف، وما تزال إلى اليوم ثائرة..
وتجيء الرسالة الأخيرة لتقرر وجه الحق في هذا القضية؛ ولتقول كلمة الفصل؛ ويجيء الرسول الأخير ليبين لأهل الكتاب حقيقة العقيدة الصحيحة:
لقد كفر الذين قالوا: إن الله هو المسيح ابن مريم.. (لقد كفر الذين قالوا: إن الله ثالث ثلاثة)..
ويثير فيهم منطق العقل والفطرة والواقع:
(قل: فمن يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم، وأمه، ومن في الأرض جميعا).
فيفرق تفرقة مطلقة بين ذات الله سبحانه وطبيعته ومشيئته وسلطانه، وبين ذات عيسى -عليه السلام- وذات أمه، وكل ذات أخرى، في نصاعة قاطعة حاسمة. فذات الله -سبحانه- واحدة. ومشيئته طليقة، وسلطانه متفرد، ولا يملك أحد شيئا في رد مشيئته أو دفع سلطانه إن أراد أن يهلك المسيح أبن مريم وأمه ومن في الأرض جميعا..
وهو -سبحانه- مالك كل شيء، وخالق كل شيء، والخالق غير المخلوق. وكل شيء مخلوق:
(ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما، يخلق ما يشاء، والله على كل شيء قدير)..
وكذلك تتجلى نصاعة العقيدة الإسلامية، ووضوحها وبساطتها.. وتزيد جلاء أمام ذلك الركام من الانحرافات والتصورات والأساطير والوثنيات المتلبسة بعقائد فريق من أهل الكتاب وتبرز الخاصية الأولى للعقيدة الإسلامية. في تقرير حقيقة الألوهية، وحقيقة العبودية، والفصل التام الحاسم بين الحقيقتين. بلا غبش ولا شبهة ولا غموض..
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
..هذا من ضروب عدم الوفاء بميثاق الله تعالى. كان أعظمَ ضلال النّصارى ادّعاؤُهم إلهيّة عيسى عليه السلام، فإبطال زعمهم ذلك هو أهمّ أحوال إخراجهم من الظلمات إلى النّور وهديهم إلى الصراط المستقيم، فاستأنف هذه الجملة {لقد كفر الّذين قالوا إنّ الله هو المسيح ابن مريم} استئنافَ البيان. وتعيَّن ذكر الموصول هنا لأنّ المقصود بيان ما في هذه المقالة من الكفر لا بيان ما عليه النصارى من الضلال، لأنّ ضلالهم حاصل لا محالة إذا كانت هذه المقالة كفراً...
ويفيد قولهم هذا أنّهم جعلوا حقيقة الإله الحقّ المعلوم متّحدة بحقيقة عيسى عليه السلام بمنزلة اتّحاد الاسمين للمسمّى الواحد، ومرادهم امتزاج الحقيقة الإلهيّة في ذات عيسى. ولمّا كانت الحقيقة الإلهيّة معنونة عند جميع المتديّنين باسم الجلالة جَعَل القائلون اسم الجلالة المسندَ إليه، واسمَ عيسى المسند ليدلّوا على أنّ الله اتّحدَ بذات المسيح. وحكاية القول عنهم ظاهرة في أنّ هذا قالوه صراحة عن اعتقاد، إذ سرى لهم القول باتّحاد اللاهوت بناسوتِ عيسى إلى حدّ أن اعتقدوا أنّ الله سبحانه قد اتّحد بعيسى وامتزج وجود الله بوجود عيسى. وهذا مبالغة في اعتقاد الحلول.