ثم يمضي السياق في قصة نوح ؛ يعرض مشهدا ثانيا . مشهد نوح يتلقى وحي ربه وأمره :
وأوحي إلى نوح انه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن . فلا تبتئس بما كانوا يفعلون ، واصنع الفلك بأعيننا ووحينا ، ولا تخاطبني في الذين ظلموا ، إنهم مغرقون . .
فقد انتهى الإنذار ، وانتهت الدعوة ، وانتهى الجدل !
( وأوحي إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن ) . .
فالقلوب المستعدة للإيمان قد آمنت ، أما البقية فليس فيها استعداد ولا اتجاه . هكذا أوحى الله إلى نوح ، وهو أعلم بعباده ، وأعلم بالممكن والممتنع ، فلم يبق مجال للمضي في دعوة لا تفيد . ولا عليك مما كانوا يفعلونه من كفر وتكذيب وتحد واستهزاء :
( فلا تبتئس بما كانوا يفعلون ) . .
أى لا تحس بالبؤس والقلق ، ولا تحفل ولا تهتم بهذا الذي كان منهم ، لا على نفسك فما هم بضاريك بشيء ، ولا عليهم فإنهم لا خير فيهم .
يخبر تعالى أنه أوحى إلى نُوح لما استعجل قومُه نقمة الله بهم وعذابه لهم ، فدعا عليهم نوحُ دعوته التي قال الله تعالى{[14583]} مخبرًا عنه أنه قال : { رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا } [ نوح : 26 ] ، { فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ } [ القمر : 10 ] ، فعند ذلك أوحى الله تعالى إليه : { أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلا مَنْ قَدْ آمَنَ } فلا تحزن عليهم ولا يَهُمَّنك أمرهم .
قرأ أبو البرهسم{[6321]} : «وأَوحى » بفتح الهمزة على إسناد الفعل إلى الله عز وجل ، «إنه » بكسر الهمزة ، وقيل لنوح هذا بعد أن طال عليه كفر القرن بعد القرن به ، وكان يأتيه الرجل بابنه فيقول : يا بني لا تصدق هذا الشيخ فهكذا عهده أبي وجدي كذاباً مجنوناً ؛ رواه عبيد بن عمير وغيره ، وهذه الآية هي التي أيأست نوحاً عليه السلام من قومه ، فروي أنه لما أوحي إليه ذلك دعا فقال : { رب لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً }{[6322]} .
و { تبتئس } من البؤس تفتعل ، ومعناه : لا تحزن نفسك ومنه قول الشاعر - وهو لبيد بن ربيعة - : [ مجزوء الكامل ]
في مأتم كنعاج حا*** رة تبتئس بما لقينا{[6323]}
قال القاضي أبو محمد : وفي أمر نوح عليه السلام تدافع في ظاهر الآيات والأحاديث ينبغي أن نخلص القول فيه ، وذلك أن ظاهر أمره أنه عليه السلام دعا على الكافرين عامة من جميع الأمم ولم يخص قومه دون غيرهم ، وتظاهرت الروايات وكتب التفاسير بأن الغرق نال جميع أهل الأرض وعم الماء جميعها ، قال ابن عباس وغيره ، ويوجب ذلك أمر نوح بحمل الأزواج من الحيوان ، ولولا خوف إفناء أجناسها من جميع الأرض ، ما كان ذلك ، فلا يتفق لنا أن نقول إنه لم يكن في الأرض غير قوم نوح في ذلك الوقت ، لأنه يجب أن يكون نوح بعث إلى جميع الناس ، وقد صح أن هذه الفضيلة خاصة لمحمد صلى الله عليه وسلم بقوله : «أوتيت خمساً لم يؤتهن أحد قبلي »{[6324]} فلا بد أن نقرر كثيراً من الأمم كان في ذلك الوقت ، وإذا كان ذلك ، فكيف استحقوا العقوبة في جمعهم ونوح لم يبعث إلى كلهم ؟ وكنا نقدر هنا أن الله تعالى بعث إليهم رسلاً قبل نوح فكفروا بهم واستمر كفرهم ، لولا أنا نجد الحديث ينطق بأن نوحاً هو أول الرسل إلى أهل الأرض ؛ ولا يمكن أيضاً أن نقول : عذبوا دون رسالة ونحن نجد القرآن : { وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً }{[6325]} .
والتأويل المخلص من هذا كله هو أن نقول : إن نوحاً عليه السلام أول رسول بعث إلى كفار من أهل الأرض ليصلح الخلق ويبالغ في التبليغ ويحتمل المشقة من الناس - بحسب ما ثبت في الحديث - ثم نقول : إنه بعث إلى قومه خاصة بالتبليغ والدعاء والتنبيه ، وبقي أمم في الأرض لم يكلف القول لهم ، فتصح الخاصة لمحمد صلى الله عليه وسلم ثم نقول : إن الأمم التي لم يبعث ليخاطبها إذا كانت بحال كفر وعبادة أوثان ، وكانت الأدلة على الله تعالى منصوبة معرضة للنظر ، وكانوا متمكنين من النظر من جهة إدراكهم ، وكان الشرع - ببعث نوح - موجوداً مستقراً .
فقد وجب عليهم النظر ، وصاروا بتركه بحال من يجب تعذيبه : فإن هذا رسول مبعوث وإن كان لم يبعث إليهم معينين ألا ترى أن لفظ الآية إنما هو { وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً } [ الإسراء : 15 ] ، أي حتى نوجده ، لأن بعثة الأنبياء إلى قوم مخصوصين إنما هو في معنى القتال والشدة ، وأما من جهة بذل النصيحة وقبول من آمن فالناس أجمع في ذلك سواء ؛ ونوح قد لبث ألف سنة إلا خمسين عاماً يدعو إلى الله ، فغير ممكن أن لم تبلغ نبوءته للقريب والبعيد ، ويجيء تعذيب الكل بالغرق بعد بعثة رسول وهو نوح صلى الله عليه وسلم .
ولا يعارضنا مع هذه التأويلات شيء من الحديث ولا الآيات ، والله الموفق للصواب .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.