فإذا ارتدع هؤلاء الخارجون المفسدون عن غيهم وفسادهم ، نتيجة استشعارهم نكارة الجريمة ، وتوبة منهم إلى الله ورجوعا إلى طريقه المستقيم - وهم ما يزالون في قوتهم ، لم تنلهم يد السلطان - سقطت جريمتهم وعقوبتها معا ، ولم يعد للسلطان عليهم من سبيل ، وكان الله غفورا لهم رحيما بهم في الحساب الأخير :
( إلا الذين تابوا - من قبل أن تقدروا عليهم - فاعلموا أن الله غفور رحيم ) . .
والحكمة واضحة في إسقاط الجريمة والعقوبة في هذه الحالة عنهم من ناحيتين :
الأولى : تقدير توبتهم - وهم يملكون العدوان - واعتبارها دليل صلاح واهتداء . .
والثانية : تشجيعهم على التوبة ، وتوفير مؤنة الجهد في قتالهم من أيسر سبيل .
والمنهج الإسلامي يتعامل مع الطبيعة البشرية بكل مشاعرها ومساربها واحتمالاتها ؛ والله الذي رضي للمسلمين هذا المنهج هو بارى ء هذه الطبيعة ، الخبير بمسالكها ودروبها ، العليم بما يصلحها وما يصلح لها . . ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير ؟ . .
وقوله : { إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } أما على قول من قال : هي في أهل الشرك فظاهر ، وأما المحاربون المسلمون فإذا تابوا قبل القدرة عليهم ، فإنه يسقط عنهم انحتام القتل والصلب وقطع الرجل ، وهل يسقط قطع اليد أم لا ؟ فيه قولان للعلماء .
وظاهر الآية يقتضي سقوط الجميع ، وعليه عمل الصحابة ، كما قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشَجّ ، حدثنا أبو أسامة ، عن مجاهد{[9760]} عن الشعبي قال : كان حارثة{[9761]} بن بدر التميمي من أهل البصرة ، وكان قد أفسد في الأرض وحارب ، فكلم رجالا من قريش منهم : الحسن بن علي ، وابن عباس ، وعبد الله بن جعفر ، فكلموا عليًا ، فلم يؤمنه . فأتى سعيد بن قيس الهمداني فخلفه في داره ، ثم أتى عليًا فقال : يا أمير المؤمنين ، أرأيت من حارب الله ورسوله وسعى في الأرض فسادًا ، فقرأ حتى بلغ : { إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ } قال : فكتب له أمانًا . قال سعيد بن قيس : فإنه حارثة{[9762]} بن بدر .
وكذا رواه ابن جرير من غير وجه ، عن مجاهد{[9763]} عن الشعبي ، به . وزاد : فقال حارثة{[9764]} بن بدر :
ألا أبلغَن{[9765]} هَمْدان إمَّا لقيتَها *** عَلى النَّأي لا يَسْلمْ عَدو يعيبُها
لَعَمْرُ أبِيها إنَّ هَمْدان تَتَّقِي ال*** إلَه ويَقْضي بالكتاب خَطيبُها{[9766]}
وروى ابن جرير من طريق سفيان الثوري ، عن السُّدِّي - ومن طريق أشعث ، كلاهما عن عامر الشعبي قال : جاء رجل من مَراد إلى أبي موسى ، وهو على الكوفة في إمارة عثمان ، رضي الله عنه ، بعدما صلى المكتوبة فقال : يا أبا موسى ، هذا مقام العائذ بك ، أنا فلان بن فلان المرادي ، وإني كنت حاربت الله ورسوله وسعيت في الأرض فسادًا ، وإني تبت من قبل أن يُقْدر عليَّ . فقام أبو موسى فقال : إن هذا فلان بن فلان ، وإنه كان حارب الله ورسوله ، وسعى في الأرض فسادًا ، وإنه تاب من قبل أن يُقْدَرَ عليه ، فمن لقيه فلا يعرض له إلا بخير ، فإن يك صادقا فسبيل من صدق ، وإن يك كاذبًا تدركه ذنوبه ، فأقام الرجل ما شاء الله ، ثم إنه خرج فأدركه الله تعالى بذنوبه فقتله .
ثم قال ابن جرير : حدثني علي ، حدثنا الوليد بن مسلم قال : قال الليث ، وكذلك حدثني موسى بن إسحاق المدني ، وهو الأمير عندنا : أن عليًا الأسدي حارب وأخاف{[9767]} السبيل وأصاب الدم والمال ، فطلبه الأئمة والعامة ، فامتنع ولم يُقْدر عليه ، حتى جاء تائبًا ، وذلك أنه سمع رجلا يقرأ هذه الآية : { قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } [ الزمر : 53 ] ، فوقف عليه فقال : يا عبد الله ، أعد قراءتها . فأعادها عليه ، فغمد سيفه ، ثم جاء تائبًا . حتى قدم المدينة من السحر ، فاغتسل ، ثم أتى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى الصبح ، ثم قعد إلى أبي هريرة في غمار أصحابه ، فلما أسفروا عرفه الناس ، فقاموا{[9768]} إليه ، فقال :
لا سبيل لكم عليّ جئت تائبًا من قبل أن تقدروا علي . فقال أبو هريرة : صدق . وأخذ بيده أبو هريرة حتى أتى مروان بن الحكم - وهو أمير على المدينة{[9769]} في زمن معاوية - فقال : هذا عليّ{[9770]} جاء تائبا ، ولا سبيل لكم عليه ولا قتل . قال : فتُرك من ذلك كله ، قال : وخرج عليّ{[9771]} تائبًا مجاهدًا في سبيل الله في البحر ، فلقوا الروم ، فقربوا سفينته إلى سفينة من سفنهم{[9772]} فاقتحم على الروم في سفينتهم ، فهربوا منه إلى شقها الآخر ، فمالت به وبهم ، فغرقوا جميعًا . {[9773]}
{ إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم } استثناء مخصوص بما هو حق الله سبحانه وتعالى ويدل عليه قوله تعالى : { فاعلموا أن الله غفور رحيم } أما القتل قصاصا فإلى الأولياء يسقط بالتوبة وجوبه لا جوازه ، وتقييد التوبة بالتقدم على القدرة يدل على أنها بعد القدرة لا تسقط الحد وإن أسقطت العذاب ، وأن الآية في قطاع المسلمين لأن توبة المشرك تدرأ عنه العقوبة قبل القدرة وبعدها .
الاستثناء بقوله : { إلاّ الذين تابوا } راجع إلى الحُكمين خزي الدّنيا وعذاب الآخرة ، بقرينة قوله : { مِن قبل أن تقدروا عليهم } ، لأنّ تأثير التّوبة في النجاة من عذاب الآخرة لا يتقيّد بما قبل القدرة عليهم . وقد دلّت أداة الاستثناء على سقوط العقوبة عن المحارب في هذه الحالة ؛ فتمّ الكلام بها ، لأنّ الاستثناء كلام مستقلّ لا يحتاج إلى زيادة تصريح بانتفاء الحكم المستثنى منه عن المستثنى في استعمال العرب ، وعند جمهور العلماء . فليس المستثنى مسكوتاً عنه كما يقول الحنفية ، ولولا الاستثناء لما دلّت الآية على سقوط عقوبة المحارب المذكورة . فلو قيل : فإن تابوا ، لم تدلّ إلاّ على قبول التّوبة منهم في إسقاط عقاب الآخرة .
ومعنى { من قبلِ أن تقدروا عليهم } ما كان قبل أن يتحقّق المحارب أنّه مأخوذ أو يضيَّق عليه الحصار أو يطارد في جميع البلاد ويضيق عليه ، فإن أتى قبل ذلك كلّه طائعاً نادماً سقط عنه ما شرع الله له من العقوبة ، لأنّه قد دلّ على انتقال حاله من فساد إلى صلاح فلم تبق حكمة في عقابه . ولمّا لم تتعرّض الآية إلى غُرْم ما أتلفه بحرابته علم أنّ التّوبة لا تؤثّر في سقوط ما كان قد اعتلق به من حقوق النّاس من مال أو دم ، لأنّ ذلك معلوم بأدلّة أخرى .
وقوله : { فاعلموا أنّ الله غفور رحيم } تذكير بعد تمام الكلام ودفع لعجب من يتعجّب من سقوط العقاب عنهم . فالفاء فصيحة عمّا دلّ عليه الاستثناء من سقوط العقوبة مع عظم الجرْم ، والمعنى : إن عظم عندكم سقوط العقوبة عمّن تاب قبلَ أن يقدر عليه فاعلموا أنّ الله غفور رحيم .
وقد دلّ قوله { فاعلموا } على تنزيل المخاطبين منزلة من لا يعلم ذلك نظراً لاستعظامهم هذا العفو . وقد رأيتُ أنّ شأن فعل ( اعلم ) أن يدلّ على أهميّة الخبر ، كما سيأتي في قوله تعالى : { واعلموا أنّ الله يحول بين المرء وقلبه } في سورة الأنفال ( 24 ) وقوله فيها : { واعلموا أنّما غنمتم } [ الأنفال : 41 ] .