فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{إِلَّا ٱلَّذِينَ تَابُواْ مِن قَبۡلِ أَن تَقۡدِرُواْ عَلَيۡهِمۡۖ فَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٞ} (34)

{ إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم ( 34 ) يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة وجاهدوا في سبيله لعلكم تفلحون ( 35 ) }

{ إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم } استثنى الله سبحانه التائبين من عموم المعاقبين بالعقوبات السابقة ، والظاهر عدم الفرق بين الدماء والأموال وبين غيرها من الذنوب الموجبة للعقاب المعينة المحدودة ، فلا يطالب التائب قبل القدرة بشيء من ذلك ، وعليه عمل الصحابة .

وذهب بعض أهل العلم إلى أنه لا يسقط القصاص وسائر حقوق الآدميين بالتوبة قبل القدرة والحق الأول ، وأما التوبة بعد القدرة فلا يسقط بها العقوبة المذكورة في الآية كما يدل عليه ذكر قيد { قبل أن تقدروا عليهم } .

قال القرطبي : وأجمع أهل العلم على أن السلطان ولي من حارب ، فإن قتل محارب أخا امرئ أو أباه في حال المحاربة فليس إلى طالب الدم من أمر المحاربة شيء ولا يجوز عفو ولي الدم { فاعلموا أن الله غفور رحيم } بهم ، عبر بذلك دون : فلا تحدوهم ليفيد أنه لا يسقط عنه بتوبته إلا حدود الله دون حقوق الآدميين ، قال السيوطي : كذا ظهر لي ولم أر من تعرض له والله أعلم انتهى أي من حيث فهمه من الآية وإن كان في نفسه ظاهرا .

أخرج أبو داود والنسائي عن ابن عباس قال : نزلت في المشركين فمن تاب منهم قبل أن يقدر عليه لم يكن عليه السبيل ، وليست تحرز هذه الآية لرجل المسلم من الحد إن قتل أو أفسد أو حارب الله ورسوله .

وعنه عند ابن جرير والطبري في الكبير فإن جاء تائبا فدخل في الإسلام قبل منه ولم يؤخذ بما سلف .

وأخرج ابن مردوديه عن سعد بن أبي وقاص أن هذه الآية نزلت في الحرورية{[627]} .

وخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أنس أن نفرا من عكل قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلموا واجتووا المدينة فأمرهم صلى الله عليه وسلم أن يأتوا إبل الصدقة فيشربوا من أبوالها فقتلوا راعيها واستاقوها فبعث النبي صلى الله عليه وسلم في طلبهم كافة فأتى بهم ، فقطع أيديهم وأرجلهم وسمل أعينهم ولم يحسمهم وتركهم حتى ماتوا فأنزل الله { إنما جزاء الذين يحاربون الله } الآية .

وفي مسلم عن أنس إنما سمل النبي صلى الله عليه وسلم أولئك لأنهم سملوا أعين الرعاة .

وعن الشعبي قال : " كان حارثة بن بدر التيمي من أهل البصرة قد أفسد في الأرض وحارب رجالا من قريش أن يستأمنوا له عليا فأبوا ، فأتى سعيد بن قيس الهمداني فأتى عليا فقال : يا أمير المؤمنين ما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا ؟ قال : أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ، ثم قال : إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم ، فقال سعيد : وإن كان حارثة بن بدر ، قال : وإن كان حرثة بن بدر ، قال : هذا حارثة بن بدر قد جاء تائبا فهو آمن ، قال : نعم ، قال : فجاء به إليه وقبل ذلك منه وكتب له أمانا " .


[627]:طائفة من الخوارج.