اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{إِلَّا ٱلَّذِينَ تَابُواْ مِن قَبۡلِ أَن تَقۡدِرُواْ عَلَيۡهِمۡۖ فَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٞ} (34)

قوله تعالى : { إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ } فيه وجهان :

أحدهما : أنَّه مَنْصُوب على الاسْتِثْنَاء من المحاربين ، وللعُلَماء خلافٌ في التَّائِب من قُطَّاع الطَّريق ، هل تَسْقط عنه العُقُوبات كُلُّها ، أو عقوبة قَطْع الطَّريق فقط ؟ .

وأما ما يتعَلَّق بالأمْوَال وقتل الأنْفُس ، فلا تسقط ، بل حُكْمُه إلى صاحِبِ المال ، وَوَلِيِّ الدَّم ، والظَّاهر الأوّل .

الثاني : أنَّه مرفوع بالابْتِدَاء ، والخبر قوله : " فإنَّ الله غَفُورٌ رحيم " والعَائِد مَحْذُوف ، أي : غفور له ؛ ذكر هذا الثَّاني أبُو البقاء{[43]} . وحينئذٍ يكون استثناءً مُنْقَطِعاً بمعنى : لكن التَّائِب يُغْفَر لَهُ .

فصل

من ذَهَب إلى أنَّ الآية نَزَلَت في الكُفار قال : { إلاَّ الَّذِين تَابُوا } : من شركهم : وأسْلَموا قبل أن تَقْدِروا عليهم فَلاَ سَبِيل عليهم بِشَيْءٍ من الحدُود ولا تَبِعَة عليهم فيما أصَابُوا في حال الكُفْر من دَمٍ أوْ مَال .

أما المُسْلِمُون المحاربون : فمن{[44]} تاب منهم قبل القُدْرَة عَلَيْه ، وهو قبل أنْ يَظْفَر بِهِمُ الإمَام تَسْقُط عَنْهُ كل عُقُوبة وجبت حقاً لله تعالى ، ولا يَسْقُط ما كان من حُقُوق العِبَاد ، فإذا كان قد قَتَل في قَطْعِ الطَّريق يسقُطُ عنه بالتَّوْبة [ قبل القُدْرَة عليه ]{[45]} تحتُّم القَتْل ، ويبقى عليه القِصَاصُ لولي القَتِيل إن شَاءَ عفا عنه ، وإن شَاءَ اسْتَوْفَاه ، وإن كان قد أخَذَ المال يَسْقُط عنه القَطْع ، وإن كان جمع بَيْنَهُما يسقط عنه تحتُّم القَتْل والصَّلْب ، ويجب ضَمَان المال .

وقال بعضهُم : إذا جاء تَائباً قبل القُدْرَة [ عليه لا يكون لأحد عليه تبعة في دم ولا مال إلاّ أن يوجد معه مال بعينه فيردّه إلى صاحبه .

روي عن علي رضي الله عنه في حارثة بن زيد كان خرج محارباً فسفك الدماء ، وأخذ الأموال ثم جاء تائباً قبل أن يقدر عليه فلم يجعل له عليه تبعة . أما من تاب بعد القدرة ]{[46]} فلا يَسْقُط عنه شيء منها .

وقيل : كُلُّ عقُوبة تجب حقاً لِلَّه - تعالى - من عُقُوبَات قَطْع الطَّريق ، وقطع السَّرقة ، وحدِّ الزنا ، والشُّرب تَسْقُط بالتَّوْبة بكل حال كما تقدَّم والأكْثَرُون على أنَّها لا تَسْقُط .


[43]:سقط في ب.
[44]:سقط في أ.
[45]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (6/151- 152) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (2/4) وزاد نسبته لابن إسحاق وابن المنذر عن محمد بن جعفر بن الزبير وذكره أبو حيان في "البحر المحيط (2/389) وانظر "التفسير الكبير" للفخر الرازي (7/154).
[46]:- البيت لابن خلكان القناني: ينظر إصلاح المنطق: ص 134، والمقاصد النحوية: 1/154، ولسان العرب: (سما)، وشرح المفصل: 1/42، وأوضح المسالك:1/34، والإنصاف: ص15، وأسرار العربية: ص9، والمغني: 1/154.