[ 34 ] { إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم ( 34 ) } .
{ إلا الذين تابوا } أي من المحاربين { من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم } .
الأولى- روى ابن جرير{[2970]} وأبو داود والنسائي عن ابن عباس ؛ " أنها نزلت في المشركين " . وروى ابن جرير عن أبي ، " أنها نزلت في قوم من أهل الكتاب نقضوا عهدهم مع النبي صلى الله عليه وسلم " . وظاهر أنها عامة في المشركين وغيرهم ممن ارتكب هذه الصفات . كما روى الشيخان{[2971]} وأهل ( السنن ) وابن مردويه وهذا لفظه : عن أنس بن مالك ؛ أن ناسا من عرينة قدموا المدينة فاجتووها . فبعثهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في إبل الصدقة وأمرهم أن يشربوا من أبوالها ففعلوا فصحوا ، فارتدوا عن الإسلام وقتلوا الراعي وساقوا الإبل . فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم في آثارهم ، فجيء بهم . فقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف ، وسمر أعينهم وألقاهم في الحرة . قال أنس : فلقد رأيت أحدهم يكدم الأرض بفيه عطشا ، حتى ماتوا . ونزلت : { إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله . . . } الآية . ولمسلم{[2972]} عن أنس قال : " إنما سمل النبي صلى الله عليه وسلم / أعين أولئك لأنهم سملوا أعين الرعاء " . وعند البخاري : قال أبو قلابة{[2973]} : " فهؤلاء سرقوا وقتلوا وكفروا بعد إيمانهم وحاربوا الله ورسوله " .
الثانية- زعم بعضهم أن الآية نزلت نسخا لعقوبة العرنيين المتقدمة .
قال ابن جرير{[2974]} : حدثنا علي بن سهل ، حدثنا الوليد بن مسلم قال : ذاكرت الليث بن سعد : ما كان من سمل النبي صلى الله عليه وسلم أعينهم وتركه حسمهم حتى ماتوا . فقال : سمعت محمد بن عجلان يقول : أنزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم معاتبة في ذلك ، وعلمه عقوبة مثلهم من القطع والقتل والنفي ، ولم يسمل بعدهم غيرهم . قال : وكان هذا القول ذكر لأبي عمرو- يعني الأوزاعي- فأنكر أن تكون نزلت معاتبة ، وقال : بلى . كانت عقوبة أولئك النفر بأعيانهم . ثم نزلت هذه الآية في عقوبة غيرهم ممن حارب بعدهم . فرفع عنهم السمل . وروى ابن جرير{[2975]} أيضا في القصة عن سعيد بن جبير قال : فما مثل رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل ولا بعد ، قال : / ونهى عن المثلة ، قال{[2976]} : " لا تمثلوا بشيء " . والنهي عن المثلة مروي في ( الصحيح ) و ( السنن ) .
الثالثة- احتج بعموم هذه الآية جمهور العلماء في ذهابهم إلى أن المحاربة في الأمصار وفي السبلات على السواء . لقوله : { ويسعون في الأرض فسادا } . وهذا مذهب مالك والأوزاعي والليث بن سعد والشافعي وأحمد .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : ولو شهروا السلاح في البنيان لا في الصحراء لأخذ المال ، فقد قيل : إنهم ليسوا محاربين بل هم بمنزلة المنتهب . لأن المطلوب يدركه الغوث إذا استغاث بالناس . وقال الأكثرون : إن حكم من في البنيان والصحراء واحد ، بل هم في البنيان أحق بالعقوبة منهم في الصحراء ، لأن البنيان محل الأمن والطمأنينة ، ولأنه محل تناصر الناس وتعاونهم ، فإقدامهم عليه يقتضي شدة المحاربة والمغالبة ، ولأنهم يسلبون الرجل في داره جميع ماله ، والمسافر لا يكون معه غالبا إلا بعض ماله ؛ وهذا هو الصواب .
حتى قال مالك في الذي يغتال الرجل فيخدعه حتى يدخله بيتا فيقتله ويأخذ ما معه : إن هذه محاربة . ودمه إلى السلطان لا إلى ولي المقتول . ولا اعتبار بعفوه عنه في إنفاذ القتل .
/ وإنما كان ذلك محاربة ، لأن القتل بالحيلة كالقتل مكابرة ، وكلاهما لا يمكن الاحتراز منه ، بل قد يكون ضرر هذا أشد ، لأنه لا يدري به .
وقيل : إن المحارب هو المجاهر بالقتال ، وإن هذا المختال يكون أمره إلى ولي أمر الدم . والأول أشبه بأصول الشريعة .
الرابعة- ظاهر الآية : أن عقوبة المحاربين المفسدين أحد هذه الأنواع . فيفعل الإمام منها ما رأى فيه صلاحا .
قال ابن أبي طلحة عن ابن عباس ، في الآية{[2977]} : " من شهر السلاح في قبة الإسلام ، وأخاف السبيل ثم ظفر به وقدر عليه ، فإمام المسلمين فيه بالخيار : إن شاء قتله ، وإن شاء صلبه ، وإن شاء قطع يده ورجله " . وكذا قال سعيد بن المسيب{[2978]} ومجاهد{[2979]} وعطاء{[2980]}/ والحسن البصري{[2981]} وإبراهيم النخعي{[2982]} والضحاك . كما رواه ابن جرير ، وحكي مثله عن أنس .
قال ابن كثير : ومستند هذا القول ظاهر . وللتخيير نظائر من القرآن . كقوله{[2983]} في جزاء الصيد : { فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ الكعبة أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياما } . وقوله{[2984]} في كفارة الترفه : { فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك } . وقوله{[2985]} في كفارة اليمين : { إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة } . هذه كلها على التخيير ، فكذلك فلتكن هذه الآية . وقال/ الجمهور : هذه الآية منزلة على أحوال . أخرج الشافعي عن إبراهيم بن أبي يحيى ، عن صالح مولى التوأمة ، عن ابن عباس ، في قطاع الطريق : " إذا قتلوا وأخذوا المال قتلوا وصلبوا . وإذا قتلوا ولم يأخذوا المال قتلوا ولم يصلبوا ، وإذا أخذوا المال ولم يقتلوا ، قطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف ، وإذا أخافوا السبيل ولم يأخذوا المال نفوا من الأرض " . وقد رواه ابن أبي شيبة عن عبد الرحيم بن سليمان ، عن حجاج ، عن عطية عن ابن عباس بنحوه . وعن أبي مجلز وسعيد بن جبير وإبراهيم النخعي والحسن وقتادة والسدي وعطاء الخرساني نحو ذلك . وهكذا قال غير واحد من السلف والأئمة انتهى .
وفي ( النهاية ) من فقه الزيدية : يرجع في المحارب إلى رأي الإمام ، فإن كان له رأي قتله أو صلبه- لأن القطع لا يدفع المضرة- وإن كان لا رأي له لكنه ذو قوة قطعه من خلاف ، وإن عدم القوة والرأي ضرب ونفي ؛ هذا معنى التخيير بين هذه الأمور ، أنه يرجع إلى اجتهاد الإمام ، على ما ذكر . انتهى .
ورأيت لشيخ الإسلام ابن تيمية فصلا مهما في المحاربين في كتابه ( السياسة الشرعية ) وقد مثلهم بقطاع الطريق الذين يعترضون الناس بالسلاح في الطرقات ونحوها ليغصبوهم المال مجاهرة ، من الأعراب أو التركمان أو الأكراد أو الفلاحين ، أو فسقة الجند أو مردة الحاضرة أو غيرهم . ثم ساق رواية الشافعي المتقدمة عن ابن عباس وقال :
هذا قول كثير من أهل العلم- كالشافعي وأحمد رضي الله عنهما- وهو قريب من قول أبي حنيفة- رحمه الله- . ومنهم من قال : للإمام أن يجتهد فيهم فيقتل من رأى قتلهصلحة فيهم وإن كان لم يقتل مثل أن يكون رئيسا مطاعا فيهم . ويقطع من رأى قطعه مصلحة وإن كان لم يأخذ المال . مثل أن يكون ذا جلد وقوة في أخذ المال . كما أن منهم من يرى أنه إذا أخذوا المال قتلوا وقطعوا وصلبوا . والأول قول الأكثر . فمن كان من المحاربين قد قتل فإنه يقتله الإمام حدا لا يجوز العفو عنه بحال ، بإجماع العلماء . ذكره ابن المنذر . ولا يكون أمره إلى ورثة المقتول . بخلاف ما لو قتل رجل رجلا لعداوة بينهما ، أو لخصومة ، أو نحو ذلك من الأسباب الخاصة . فإن هذا دمه لأولياء المقتول . إن أحبوا قتلوا . وإن أحبوا عفوا . وإن أحبوا أخذوا الدية لأنه قتله لغرض حد الله . وهذا متفق عليه بين الفقهاء . حتى لو كان المقتول غير مكافئ للقاتل . مثل أن يكون القاتل حرا والمقتول عبدا ، أو القاتل مسلما والمقتول ذميا أو مستأمنا . فقد اختلف الفقهاء : هل يقتل المحاربة ؟ والأقوى أنه يقتل للفساد العام حدا ، كما يقطع إذا أخذ أموالهم . وكما يحبس بحقوقهم . وإذا كان المحاربون الحرامية جماعة ، فالواحد منهم باشر القتل بنفسه والباقون له أعوان ورده له ، فقد قيل : إنه يقتل المباشر فقط . والجمهور على أن الجميع يقتلون ولو كانوا مائة . والردء والمباشر سواء . وهذا هو المأثور عن الخلفاء الراشدين . فإن عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- قتل ربيئة المحاربين . والربيئة هو الناظور الذي يجلس على مكان عال ينظر منه لهم من يجيء . ولأن المباشر إنما يمكن من قتله بقوة الردء ومعونته . والطائفة إذا انتصر بعضها ببعض ، حتى صاروا ممتنعين ، فهم مشتركون في الثواب والعقاب كالمجاهدين . فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال{[2986]} : " المسلمون تتكافأ دماؤهم ، ويسعى بذمتهم أدناهم ، وهم يد على من سواهم ، ويرد تسريهم على قاعدتهم " . يعني : أن جيش المسلمين إذا تسرت منه سرية فغنمت مالا ، فإن الجيش يشاركها فيما غنمت . لأنها بظهره وقوته تمكنت . لكن تنفل عنه نفلا . فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينفل السرية ، إذا كانوا في بدايتهم ، الربع بعد الخمس . فإذا رجعوا إلى أوطانهم وتسرت سرية ، نفلهم الثلث بعد الخمس . وكذلك لو غنم الجيش غنيمة شاكته السرية ، لأنها في مصلحة الجيش . كما قسم النبي صلى الله عليه وسلم لطلحة والزبير يوم بدر ، لأنه كان قد بعثهما في مصلحة الجيش . فأعوان الطائفة المتمنعة وأنصارها منها ، فيما لهم وعليهم . وهكذا المقتتلون على باطل لا تأويل فيه ، مثل المقتتلين على عصبية ودعوى جاهلية . كقيس ويمن ونحوهما ، هما ظالمتان . كما قال النبي صلى الله عليه وسلم{[2987]} : " إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار . قيل : يا رسول الله ! هذا القاتل فما بال المقتول ؟ قال : إنه أراد قتل صاحبه " . أخرجاه في ( الصحيحين ) وتضمن كل طائفة ما أتلفته الأخرى من نفس ومال وإن لم يعرف عين القاتل . كما قد يفعله الأعراب كثيرا- فإنه يقطع من كل واحد يده اليمنى ورجله اليسرى عند أكثر العلماء . كأبي حنيفة والشافعي وأحمد وغيرهم . وهذا معنى قوله تعالى : { أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف } . تقطع اليد التي يبطش بها ، والرجل التي يمشي عليها ، وتحسم يده ورجله/ بالزيت المغلي ونحوه ، لينحسم الدم فلا يخرج فيقضي إلى تلفه . وكذا تحسم يد السارق بالزيت ؟ وهذا الفعل قد يكون أزجر من القتل . فإن الأعراب وفسقة الجند وغيرهم ، إذا رأوا دائما من هو بينهم مقطوع اليد والرجل ، ذكروا بذلك جرمه ، فارتدعوا . بخلاف القتل ، فإنه قد ينسى . وقد يؤثر بعض النفوس الأبية قتله على قطع يده ورجله من خلاف ، فيكون هذا أشد تنكيلا له ولأمثاله . وأما إذا شهروا السلاح ولم يقتلوا نفسا ولم يأخذوا مالا ، ثم أغمدوه ، أو هربوا ، وتركوا الحراب ، فإنهم ينفون . فقيل : ( نفيهم ) تشريدهم . فلا يتركون يأوون في بلد . وقيل : هو حبسهم . وقيل : هو ما يراه الإمام أصح من نفي أو حبس أو نحو ذلك . والقتل المشروع هو ضرب الرقبة بالسيف ونحوه . لأن ذلك أوحى ( أي : أسرع ) أنواع القتل . وكذلك شرع الله قتل ما يباح قتله من الآدميين والبهائم إذا قدر عليه على هذا الوجه . قال النبي صلى الله عليه وسلم{[2988]} : " إن الله كتب الإحسان على كل شيء . فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة . وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبح . وليحد أحدكم شفرته ، وليرح ذبيحته " . رواه مسلم . وقال{[2989]} : " إن أعف الناس قتلة أهل الإيمان " . وأما الصلب المذكور فهو رفعهم على مكان عال ليراهم الناس ويشتهر أمرهم ، وهو بعد القتل ، عند جمهور العلماء . ومنهم من قال : يصلبون ثم يقتلون وهم مصلبون . وقد جوز بعض الفقهاء قتلهم بغير السيف حتى قال : يتركون على المكان العالي حتى يموتوا حتف أنوفهم بلا قتل .
الخامسة : تتمة الآية . أعني قوله تعالى : { ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم } تدل على أن المحاربين يعاقبون في الدنيا والآخرة مطلقا . ولا يكون الحد المذكور طهرة لهم ، ولو كانوا مسلمين .
/ قال السيوطي في ( الإكليل ) : قال ابن الفرس : ظاهره أن عقوبة المحارب لا تكون كفارة له ، كما تكون في سائر الحدود .
وقال العارف الشعراني في ( ميزانه ) : سمعت شيخنا ، شيخ الإسلام زكريا رحمه الله يقول : لم يرد لنا أن أحدا يؤخذ بذنبه في الدنيا والآخرة معا ، إلا المحاربين ، لقوله تعالى فيهم : { ذلك لهم خزي . . . } الآية .
وقال ابن كثير : هذا يرجح رواية نزولها في المشركين . فأما أهل الإسلام ففي ( صحيح مسلم ) {[2990]} عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال : " أخذ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كما أخذ على النساء ، ألا نشرك بالله شيئا ولا نسرق ولا نزني ولا نقتل أولادنا ولا يعضه بعضنا بعض . فمن وفى منكم فأجره على الله تعالى ، ومن أتى منكم حدا فأقيم عليه فهو كفارته ، ومن ستره الله فأمره إلى الله . إن شاء عذبه وإن شاء غفر له " .
السادسة : دل قوله تعالى : { إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم } على أن توبة المحاربين ، قبل الظفر بهم ، تسقط عنهم حد المحاربين في الآية . سواء كانوا مشركين أو مسلمين . وهو مروي عن علي وأبي هريرة والسدي وغيره . وقد قال الهادي : إذا تاب المحارب قبل الظفر به ، سقط كل تبعة من قتل أو دين ، لعموم الآية .
قال ابن كثير : أما على قول من قال : إنها في أهل الشرك ، فظاهر . أي : فإنهم إذا آمنوا قبل القدرة عليهم ، سقط عنهم جميع الحدود المذكورة . فلا يطالبون بشيء مما أصابوا من مال أو دم . قال أبو إسحاق : جعل الله التوبة للكفار تدرأ عنهم الحدود التي وجبت عليهم في كفرهم ، ليكون داعيا لهم إلى الدخول في الإسلام . وأما المحاربون المسلمون ، فإذا تابوا قبل القدرة عليهم فإنه يسقط عنهم تحتم القتل والصلب وقطع الرجل . وهل يسقط قطع اليد ؟ فيه قولان للعلماء . وظاهر الآية يقتضي سقوط الجميع ، وعليه عمل الصحابة . / كما روى بان أبي حاتم عن الشعبي قال : " كان حارثة بن بدر التميمي من أهل البصرة – وكان قد أفسد في الأرض وحارب- فكلم رجالا من قريش منهم : الحسن بن علي وابن عباس وعبد الله بن جعفر . فكلموا عليا فيه فلم يؤمنه . فأتى سعيد بن قيس الهمداني ، فخلفه في داره ثم أتى عليا فقال : يا أمير المؤمنين ! أرأيت من حارب الله ورسوله وسعى في الأرض فسادا- فقرأ حتى بلغ { إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم } . فقال : اكتب له أمانا . قال سعيد بن قيس : فإنه جارية بن بدر " . وكذا رواه ابن جرير{[2991]} من غير وجه عن مجالد عن الشعبي ، فقال حارثة بن بدر :
ألا أبلغا همدان إما لقيتها *** على النأي لا يسلم عدو يعيبها
لعمر أبيها إن همدان تتقي ال*** إله ويقضي بالكتاب خطيبها
وروى ابن جرير{[2992]}- من طريق سفيان الثوري عن السدي ، ومن طريق أشعث- كلاهما . عن عامر الشعبي قال : " جاء رجل من مراد إلى أبي موسى- وهو على الكوفة في إمرة عثمان رضي الله عنه- بعد ما صلى المكتوبة فقال : يا أبا موسى ! هذا مقام العائذ بك . أنا فلان بن فلان المرادي . كنت حاربت الله ورسوله ، وسعيت في الأرض فسادا ، وإني تبت من قبل أن تقدروا علي . فقام أبو موسى فقال : إن هذا فلان بن فلان . وإنه كان حارب الله ورسوله وسعى في الأرض فسادا ، وإنه تاب من قبل أن يقدر عليه ، فمن لقيه فلا يعرض له إلا بخير ، ( فإن يك صادقا فسبيل من صدق . وإن يك كاذبا تدركه ذنوبه ) . فأقام الرجل ما شاء الله ، ثم إنه خرج فأدركه الله بذنوبه فقتله " . ثم قال ابن جرير{[2993]} : حدثني علي ، حدثنا الوليد بن مسلم ، قال : قال الليث . وكذلك حدثني موسى بن إسحاق المدني ، " وهو الآمر عندنا ، / " أن عليا الأسدي حارب وأخاف السبيل ، وأصاب الدم والمال ، فطلبه الأئمة والعامة ، فامتنع ولم يقدر عليه حتى جاء تائبا . وذلك أنه سمع رجلا يقرأ الآية : { قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا ، إنه هو الغفور الرحيم }{[2994]} . فوقف عليه فقال : يا عبد الله ! أعد قراءتها . فأعادها عليه . فغمد سيفه ثم جاء تائبا حتى قدم المدينة من السحر . فاغتسل . ثم أتى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى الصبح ثم قعد إلى أبي هريرة في غمار أصحابه . فلما أسفر عرفه الناس فقاموا إليه . فقال : لا سبيل لكم علي . جئت تائبا من قبل أن تقدروا علي . فقال أبو هريرة : صدق . وأخذ بيده أبو هريرة حتى أتى مروان بن الحكم- في إمرته على المدينة في زمن معاوية- فقال : هذا علي جاء تائبا ولا سبيل لكم عليه ولا قتل . قال ، فترك من ذلك كله .
قال : وخرج علي تائبا مجاهدا في سبيل الله في البحر . فلقوا الروم . فقربوا سفينته إلى سفينة من سفنهم . فاقتحم على الروم في سفينتهم . فهزموا منه إلى سفينتهم الأخرى . فمالت بهم وبه . فغرقوا جميعا " .
هذا ، وفي تفسير بعض الزيدية- نقلا عن زيد والنفس الزكية والمؤيد بالله وأبي حنيفة ومالك والشافعي- أن توبة المحارب تسقط الحدود ، دون حقوق بني آدم من قتل أو مال ، لقوله تعالى : { كتب عليكم القصاص في القتلى }{[2995]} وفي قوله : { وكتبنا عليهم فيها/ أن النفس بالنفس }{[2996]} وقوله تعالى : { ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا }{[2997]} وقوله صلى الله عليه وسلم : " على اليد ما أخذت حتى ترد{[2998]} " وقوله عليه الصلاة والسلام {[2999]} " لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة من نفسه " . قال في ( شرح الإبانة ) : وروى زيد بن علي بإسناده إلى أمير المؤمنين علي عليه السلام ؛ أن قاطع الطريق ، إذا تاب قبل أن يؤخذ وظفر به الإمام ، ضمن المال واقتص منه . ثم قال : أما الكافر فلا خلاف أن توبته تسقط عنه جميع الحدود . انتهى .
وأخرج أبو داود{[3000]} والنسائي عن ابن عباس قال : " نزلت في المشركين ، فمن تاب منهم قبل أن يقدر عليه لم يكن عليه سبيل " .
وليست تحرز هذه الآية الرجل المسلم من الحد ، إن قتل أو أفسد في الأرض أو حارب الله ورسوله .