وتوكيدا للمعنى الذي سلف من حكمة الإنفاق والبذل . توكيدا لأن الغرض هو تهذيب النفوس ، وترضية القلوب ، وربط الواهب والآخذ برباط الحب في الله . . يقول في الآية التالية :
( قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى . والله غني حليم ) . .
فيقرر أن الصدقة التي يتبعها الأذى لا ضرورة لها ! وأولى منها كلمة طيبة وشعور سمح . كلمة طيبة تضمد جراح القلوب ، وتفعمها بالرضى والبشاشة . ومغفرة تغسل أحقاد النفوس وتحل محلها الإخاء والصداقة . فالقول المعروف والمغفرة في هذه الحالة يؤديان الوظيفة الأولى للصدقة : من تهذيب النفوس وتأليف القلوب .
ولأن الصدقة ليست تفضلا من المانح على الآخذ ، إنما هي قرض لله . . عقب على هذا بقوله :
غني عن الصدقة المؤذية . حليم يعطي عباده الرزق فلا يشكرون ، فلا يعجلهم بالعقاب ولا يبادرهم بالإيذاء ؛ وهو معطيهم كل شيء ، ومعطيهم وجودهم ذاته قبل أن يعطيهم أي شيء - فليتعلم عباده من حلمه - سبحانه - فلا يعجلوا بالأذى والغضب على من يعطونهم جزءا مما أعطاه الله لهم . حين لا يروقهم منهم أمر ، أولا ينالهم منهم شكر !
وما يزال هذا القرآن يذكر الناس بصفة الله سبحانه ليتأدبوا منها بما يطيقون ؛ وما يزال أدب المسلم تطلعا لصفة ربه ، وارتقاء في مصاعدها ، حتى ينال منها ما هو مقسوم له ، مما تطيقه طبيعته .
ثم قال تعالى : { قَوْلٌ مَعْرُوفٌ } أي : من كلمة طيبة ودعاء لمسلم { وَمَغْفِرَة } أي : غفر{[4422]} عن ظلم قولي أو فعلي { خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى }
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا ابن نفيل قال : قرأت على معقل بن عبيد الله ، عن عمرو بن دينار قال : بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ما من صدقة أحب إلى الله من قول معروف ، ألم تسمع قوله : { قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى } " { وَاللَّهُ غَنِيٌّ } [ أي ]{[4423]} : عن خلقه .
{ حَلِيمٌ } أي : يحلم ويغفر ويصفح ويتجاوز عنهم .
وقد وردت الأحاديث بالنهي عن المن في الصدقة ، ففي صحيح مسلم ، من حديث شعبة ، عن الأعمش عن سليمان بن مُسْهِر ، عن خرشة بن الحر ، عن أبي ذر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ، ولا ينظر إليهم ، ولا يزكيهم ، ولهم عذاب أليم : المنان بما أعطى ، والمسبل إزاره ، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب " {[4424]} .
وقال ابن مردويه : حدثنا أحمد بن عثمان بن يحيى ، أخبرنا عثمان بن محمد الدوري ، أخبرنا هشيم{[4425]} بن خارجة ، أخبرنا سليمان بن عقبة ، عن يونس بن ميسرة ، عن أبي إدريس ، عن أبي الدرداء ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لا يدخل الجنة عاق ، ولا منان ، ولا مدمن خمر ، ولا مكذب بقدر "
وروى أحمد وابن ماجه ، من حديث يونس بن ميسرة نحوه{[4426]} .
ثم روى{[4427]} ابن مردويه ، وابن حبان ، والحاكم في مستدركه ، والنسائي من حديث عبد الله بن يسار الأعرج ، عن سالم بن عبد الله بن عمر ، عن أبيه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة : العاق لوالديه ، ومدمن الخمر ، والمنان بما أعطى " {[4428]} .
وقد روى النسائي ، عن مالك بن سعد ، عن عمه روح بن عبادة ، عن عتاب بن بشير ، عن خصيف الجزري ، عن مجاهد ، عن ابن عباس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لا يدخل الجنة مدمن خمر ، ولا عاق لوالديه ، ولا منان " {[4429]} .
وقد رواه ابن أبي حاتم ، عن الحسن بن المنهال{[4430]} عن محمد بن عبد الله بن عمار الموصلي ، عن عتاب ، عن خُصَيف ، عن مجاهد ، عن ابن عباس{[4431]} .
ورواه النسائي من حديث ، عبد الكريم بن مالك الجزري ، عن مجاهد ، قوله . وقد روي عن مجاهد ، عن أبي سعيد{[4432]} وعن مجاهد ، عن أبي هريرة ، نحوه{[4433]} .
{ قَوْلٌ مّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَآ أَذًى وَاللّهُ غَنِيّ حَلِيمٌ }
يعنى تعالى ذكره بقوله : { قَوْلٌ مَعْرُوفٌ } قول جميل ، ودعاء الرجل لأخيه المسلم . { وَمَغْفِرَةٌ } يعني : وستر منه عليه لما علم من خلته وسوء حالته ، خير عند الله من صدقة يتصدقها عليه يتبعها أذى ، يعني يشتكيه عليها ويؤذيه بسببها . كما :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا أبو زهير ، عن جويبر ، عن الضحاك : { قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أذًى } يقول : أن يمسك ماله خير من أن ينفق ماله ثم يتبعه منّا وأذى .
وأما قوله : { غَنِيّ حَلِيمٌ } فإنه يعني : والله غنيّ عما يتصدقون به ، حليم حين لا يعجل بالعقوبة على من يمنّ بصدقته منكم ، ويؤذي فيها من يتصدّق بها عليه .
حدثنا به المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : الغنيّ : الذي كمل في غناه ، والحليم : الذي قد كمل في حلمه .
قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ ( 263 )
هذا إخبار جزم من الله تعالى أن القول المعروف وهو الدعاء والتأنيس والترجية بما عند الله ، خير من صدقة هي في ظاهرها صدقة ، وفي باطنها لا شيء . لأن ذلك القول المعروف فيه أجر ، وهذه لا أجر فيها( {[2581]} ) . وقال المهدوي وغيره التقدير في إعرابه { قول معروف } أولى { ومغفرة خير }( {[2582]} ) .
قال القاضي أبو محمد : وفي هذا ذهاب برونق المعنى ، وإنما يكون المقدر كالظاهر ، والمغفرة الستر للخلة وسوء حالة المحتاج . ومن هذا قول الأعرابي ، وقد سأل قوماً بكلام فصيح ، فقال له قائل : ممن الرجل ؟ فقال اللهم غفراً ، سوء الاكتساب يمنع من الانتساب ، وقال النقاش : يقال معناه ومغفرة للسائل إن أغلظ أو جفا إذا حرم( {[2583]} ) ، ثم أخبر تعالى بغناه عن صدقة من هذه حاله وعاقبة أمره ، وحمله عمن يمكن أن يواقع هذا من عبيده وإمهالهم .