54- إن ربكم الذي يدعوكم رسله إلى الحق وإلى الإيمان باليوم الآخر والجزاء فيه ، هو خالق الكون ومبدعه ، خلق السماوات والأرض في ست أحوال تشبه ستة أيام من أيام الدنيا ، ثم استولى على السلطان الكامل فيها ، وهو الذي يجعل الليل يستر النهار بظلامه ، ويعقب الليل النهار بانتظام وتعاقب مستمر كأنه يطلبه ، وخلق الله سبحانه الشمس والقمر والنجوم ، وهي خاضعة لله تعالى مُسَيَّرات بأمره ، وأنه له - وحده - الخلق والأمر المطاع فيها ، تعالت بركات منشئ الكون وما فيه ومن فيه .
( إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ، ثم استوى على العرش ، يغشي الليل النهار يطلبه حثيثاً ، والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره . ألا له الخلق والأمر . تبارك الله رب العالمين ) . .
إن عقيدة التوحيد الإسلامية ، لا تدع مجالاً لأي تصور بشري عن ذات الله سبحانه ؛ ولا عن كيفيات أفعاله . . فالله سبحانه ليس كمثله شيء . . ومن ثم لا مجال للتصور البشري لينشىء صورة عن ذات الله . فكل التصورات البشرية إنما تنشأ في حدود المحيط الذي يستخلصه العقل البشري مما حوله من أشياء . فإذا كان الله - سبحانه - ليس كمثله شيء ، توقف التصور البشري إطلاقاً عن إنشاء صورة معينة لذاته تعالى . ومتى توقف عن إنشاء صورة معينة لذاته العلية فإنه يتوقف تبعاً لذلك عن تصور كيفيات أفعاله جميعاً . ولم يبق أمامه إلا مجال تدبر آثار هذه الأفعال في الوجود من حوله . . وهذا هو مجاله . .
ومن ثم تصبح أسئلة كهذه : كيف خلق الله السماوات والأرض ؟ كيف استوى على العرش ؟ كيف هذا العرش الذي استوى عليه الله سبحانه ؟ ! . . . تصبح هذه الأسئلة وأمثالها لغوا يخالف توجيهها قاعدة الاعتقاد الإسلامي . أما الإجابة عليها فهي اللغو الأشد الذي لا يزاوله من يدرك تلك القاعدة ابتداء ! ولقد خاضت الطوائف - مع الأسف - في هذه المسائل خوضاً شديداً في تاريخ الفكر الإسلامي ، بالعدوى الوافدة على هذا الفكر من الفلسفة الإغريقية !
فأما الأيام الستة التي خلق الله فيها السماوات والأرض ، فهي كذلك غيب لم يشهده أحد من البشر ولا من خلق الله جميعاً : ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم . . وكل ما يقال عنها لا يستند إلى أصل مستيقن .
إنها قد تكون ست مراحل . وقد تكون ستة أطوار . وقد تكون ستة أيام من أيام الله التي لاتقاس بمقاييس زماننا الناشئ من قياس حركة الأجرام - إذ لم تكن قبل الخلق هذه الأجرام التي نقيس نحن بحركتها الزمان ! . . وقد تكون شيئاً آخر . . فلا يجزم أحد ماذا يعني هذا العدد على وجه التحديد . . وكل حمل لهذا النص ومثله على " تخمينات " البشرية التي لا تتجاوز مرتبة الفرض والظن - باسم " العلم ! " - هو محاولة تحكمية ، منشؤها الهزيمة الروحية أمام " العلم " الذي لا يتجاوز في هذا المجال درجة الظنون والفروض !
ونخلص نحن من هذه المباحث التي لا تضيف شيئاً إلى هدف النص ووجهته . لنرتاد مع النصوص الجميلة تلك الرحلة الموحية في أقطار الكون المنظور ، وفي أسراره المكنونة :
( إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ، ثم استوى على العرش ، يغشي الليل النهار يطلبه حثيثاً ، والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره . ألا له الخلق والأمر . تبارك الله رب العالمين ) . .
إن الله الذي خلق هذا الكون المشهود في ضخامته وفخامته . والذي استعلى على هذا الكون يدبره بأمره ويصرفه بقدره . يُغشي الليل النهار يطلبه حثيثاً . . في هذه الدوره الدائبة : دورة الليل يطلب النهار في هذا الفلك الدوار . والذي جعل الشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره . . إن الله الخالق المهيمن المصرف المدبر ، هو( ربكم ) . . هو الذي يستحق أن يكون رباً لكم . يربيكم بمنهجه ، ويجمعكم بنظامه ، ويشرع لكم بإذنه ، ويقضي بينكم بحكمه . . إنه هو صاحب الخلق والأمر . . وكما أنه لا خالق معه . فكذلك لا آمر معه . . هذه هي القضية التي يستهدفها هذا الاستعراض . . قضية الألوهية والربوبية والحاكمية ، وإفراد الله سبحانه بها . . وهي قضية العبودية من البشر في شريعة حياتهم . فهذا هو الموضوع الذي يواجهه سياق السورة ممثلاً في مسائل اللباس والطعام . كما كان سياق سورة الأنعام يواجهه كذلك في مسائل الأنعام والزروع والشعائر والنذور .
ولا ينسينا الهدف العظيم الذي يستهدفه السياق القرآني بهذا الاستعراض ، أن نقف لحظات أمام روعة المشاهد وحيويتها وحركتها وإيحاءاتها العجيبة . فهي من هذه الوجهة كفء للهدف العظيم الذي تتوخاه . .
إن دورة التصور والشعور مع دورة الليل والنهار في هذا الفلك الدوار ، والليل يطلب النهار حثيثاً ، ويريده مجتهداً ! لهي دورة لا يملك الوجدان ألا يتابعها ؛ وألا يدور معها ! وألا يرقب هذا السباق الجبار بين الليل والنهار ، بقلب مرتعش ونفس لاهث ! وكله حركة وتوفز ، وكله تطلع وانتظار !
إن جمال الحركة وحيويتها و " تشخيص " الليل والنهار في سمت الشخص الواعي ذي الإرادة والقصد . . إن هذا كله مستوى من جمال التصوير والتعبير لا يرقى إليه فنّ بشري على الإطلاق !
إن الألفة التي تقتل الكون ومشاهده في الحس ؛ وتطبع النظرة إليه بطابع البلادة والغفلة . . إن هذه الألفة لتتوارى ، ليحل محلها وقع المشهد الجديد الرائع الذي يطالع الفطرة كأنما لأول وهلة ! . . إن الليل والنهار في هذا التعبير ليسا مجرد ظاهرتين طبيعيتين مكرورتين . وإنما هما حيان ذوا حس وروح وقصد واتجاه . يعاطفان البشر ويشاركانهم حركة الحياة ؛ وحركة الصراع والمنافسة والسباق التي تطبع الحياة !
كذلك هذه الشمس والقمر والنجوم . . إنها كائنات حية ذات روح ! إنها تتلقى أمر الله وتنفذه ، وتخضع له وتسير وفقه . إنها مسخرة ، تتلقى وتستجيب ، وتمضي حيث أمرت كما يمضي الأحياء في طاعة الله !
ومن هنا يهتز الضمير البشري ؛ وينساق للإستجابة ، في موكب الأحياء المستجيبة . ومن هنا هذا السلطان للقرآن الذي ليس لكلام البشر . . إنه يخاطب فطرة الإنسان بهذا السلطان المستمد من قائله - سبحانه - الخبير بمداخل القلوب وأسرار الفطر . .
يخبر تعالى بأنه خلق هذا العالم : سماواته وأرضه ، وما بين ذلك في ستة أيام ، كما أخبر بذلك في غير ما آية من القرآن ، والستة الأيام هي : الأحد ، والاثنين ، والثلاثاء ، والأربعاء ، والخميس ، والجمعة - وفيه اجتمع الخلق كله ، وفيه خلق آدم ، عليه السلام . واختلفوا في هذه الأيام : هل كل يوم منها كهذه الأيام كما هو المتبادر إلى الأذهان{[11812]} ؟ أو كل يوم كألف سنة ، كما نص على ذلك مجاهد ، والإمام أحمد بن حنبل ، ويروى ذلك من رواية الضحاك عن ابن عباس ؟ فأما يوم السبت فلم يقع فيه خلق ؛ لأنه اليوم السابع ، ومنه سمي السبت ، وهو القطع .
فأما الحديث الذي رواه الإمام أحمد في مسنده حيث قال : حدثنا حجاج ، حدثنا ابن جُرَيْج ، أخبرني إسماعيل بن أُمَيَّة ، عن أيوب بن خالد ، عن عبد الله بن رافع - مولى أم سلمة - عن أبي هريرة قال : أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي فقال : " خلق الله التربة يوم السبت ، وخلق الجبال فيها يوم الأحد ، وخلق الشجر فيها يوم الاثنين ، وخلق المكروه يوم الثلاثاء ، وخلق النور يوم الأربعاء ، وبث فيها الدواب يوم الخميس ، وخلق آدم بعد العصر يوم الجمعة آخر الخلق ، في آخر ساعة من ساعات الجمعة فيما بين العصر إلى الليل " .
فقد رواه مسلم بن الحجاج في صحيحه والنسائي من غير وجه ، عن حجاج - وهو ابن محمد الأعور - عن ابن جريج به{[11813]} وفيه استيعاب الأيام السبعة ، والله تعالى قد قال في ستة أيام ؛ ولهذا تكلم البخاري وغير واحد من الحفاظ في هذا الحديث ، وجعلوه من رواية أبي هريرة ، عن كعب الأحبار ، ليس مرفوعا ، والله أعلم .
وأما قوله تعالى : { ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } فللناس في هذا المقام مقالات كثيرة جدا ، ليس هذا موضع بسطها ، وإنما يُسلك في هذا المقام مذهب السلف الصالح : مالك ، والأوزاعي ، والثوري ، والليث بن سعد ، والشافعي ، وأحمد بن حنبل ، وإسحاق بن راهويه وغيرهم ، من أئمة المسلمين قديما وحديثا ، وهو إمرارها كما جاءت من غير تكييف ولا تشبيه ولا تعطيل . والظاهر المتبادر إلى أذهان المشبهين منفي عن الله ، فإن الله لا يشبهه شيء من خلقه ، و { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } [ الشورى : 11 ] بل الأمر كما قال الأئمة - منهم نُعَيْم بن حماد الخزاعي شيخ البخاري - : " من شبه الله بخلقه فقد كفر ، ومن جحد ما وصف الله به نفسه فقد كفر " . وليس فيما وصف الله به نفسه ولا رسوله تشبيه ، فمن أثبت لله تعالى ما وردت به الآيات الصريحة والأخبار الصحيحة ، على الوجه الذي يليق بجلال الله تعالى ، ونفى عن الله تعالى النقائص ، فقد سلك سبيل الهدى .
وقوله تعالى : { يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا } أي : يذهب ظلام هذا بضياء هذا ، وضياء هذا بظلام هذا ، وكل منهما يطلب الآخر طلبًا حثيثًا ، أي : سريعًا لا يتأخر عنه ، بل إذا ذهب هذا جاء هذا ، وإذا جاء هذا ذهب هذا ، كما قال تعالى : { وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ * لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } [ يس : 37 - 40 ] فقوله : { وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ } أي : لا يفوته بوقت يتأخر عنه ، بل هو في أثره لا واسطة بينهما ؛ ولهذا قال : { يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ } - منهم من نصب ، ومنهم من رفع ، وكلاهما قريب المعنى ، أي : الجميع تحت قهره وتسخيره ومشيئته ؛ ولهذا قال منَبِّها : { أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأمْرُ } ؟ أي : له الملك والتصرف ، { تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ } كما قال [ تعالى ]{[11814]} { تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا [ وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا ] }{[11815]} [ الفرقان : 61 ] .
وقال ابن جرير : حدثني المثنى ، حدثنا إسحاق ، حدثنا هشام أبو عبد الرحمن ، حدثنا بَقِيِّة بن الوليد ، حدثنا عبد الغفار بن عبد العزيز الأنصاري ، عن عبد العزيز الشامي ، عن أبيه - وكانت له صحبة - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من لم يحمد الله على ما عمل من عمل صالح ، وحمد نفسه ، فقد كفر وحبط عمله . ومن زعم أن الله جعل للعباد من الأمر شيئا ، فقد كفر بما أنزل الله على أنبيائه ؛ لقوله : { أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ }{[11816]}
وفي الدعاء المأثور ، عن أبي الدرداء - وروي مرفوعا - : " اللهم لك الملك كله ، ولك الحمد كله ، وإليك يرجع الأمر كله ، أسألك من الخير كله ، وأعوذ بك من الشر كله " {[11817]}
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنّ رَبّكُمُ اللّهُ الّذِي خَلَقَ السَمَاوَاتِ وَالأرْضَ فِي سِتّةِ أَيّامٍ ثُمّ اسْتَوَىَ عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي الْلّيْلَ النّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنّجُومَ مُسَخّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأمْرُ تَبَارَكَ اللّهُ رَبّ الْعَالَمِينَ } .
يقول تعالى ذكره : إن سيدكم ومصلح أموركم أيها الناس ، هو المعبود الذي له العبادة من كلّ شيء الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ، وذلك يوم الأحد والاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس والجمعة . كما :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا الحجاج بن المنهال ، قال : حدثنا أبو عوانة ، عن أبي بشر ، عن مجاهد ، قال : بدء الخلق : العرش والماء والهواء ، وخلقت الأرض من الماء ، وكان بدء الخلق يوم الأحد والاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس ، وجمع الخلق في يوم الجمعة ، وتهوّدت اليهود يوم السبت ، ويوم من الستة الأيام كألف سنة مما تعدّون .
ثُمّ اسْتَوَى على العَرْشِ وقد ذكرنا معنى الاستواء واختلاف الناس فيه فيما مضى قبل لما أغنى عن إعادته .
وأما قوله : يُغْشِي اللّيْلَ النّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثا فإنه يقول : يورد الليل على النهار فيلبسه إياه ، حتى يذهب نضرته ونوره . يَطْلُبُهُ يقول : يطلب الليل النهار حَثِيثا يعني سريعا .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّبن أبي طلحة ، عن ابن عباس : يَطْلُبُهُ حَثِيثا يقول : سريعا .
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : يُغْشِي اللّيْلَ النّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثا قال : يغشي الليل النهار بضوئه ، ويطلبه سريعا حتى يدركه .
القول في تأويل قوله تعالى : والشّمْسَ والقَمَر وَالنّجُومَ مُسَخّرَاتٍ بِأْمْرِهِ ألا لَهُ الخَلْقُ والأمْرُ تَبارَكَ اللّهُ رَبّ العالَمِين .
يقول تعالى ذكره : إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض والشمس والقمر والنجوم ، كلّ ذلك بأمره ، أمرهن الله فأطعن أمره ، ألا لله الخلق كله ، والأمر الذي لا يخالف ولا يردّ أمره دون ما سواه من الأشياء كلها ، ودون ما عبده المشركون من الاَلهة والأوثان التي لا تضرّ ولا تنفع ولا تخلق ولا تأمر ، تبارك الله معبودنا الذي له عبادة كلّ شيء ربّ العالمين .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا هشام أبو عبد الرحمن ، قال : حدثنا بقية بن الوليد ، قال : ثني عبد الغفار بن عبد العزيز الأنصاريّ ، عن عبد العزيز الشامي ، عن أبيه ، وكانت له صحبة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «مَنْ لَمْ يَحْمَدِ اللّهَ على ما عَمِلَ مِنْ عَمَلٍ صَالِحٍ ، وحَمِدَ نَفْسَهُ ، قَلّ شُكْرُهُ وَحَبِطَ عَمَلُهُ . وَمَنْ زَعَمَ أنّ اللّهَ جَعَلَ للعِبادِ مِنَ الأمْرِ شَيْئا فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أنْزَلَ اللّهُ على أنْبِيائِهِ لقوله : ألا لَهُ الخَلْقُ والأمْرُ تَبارَكَ اللّهُ رَبّ العالَمِينَ » .
{ إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام } أي في ستة أوقات كقوله : { ومن يولهم يومئذ دبره } أو في مقدار ستة أيام ، فإن المتعارف باليوم زمان طلوع الشمس إلى غروبها ولم يكن حينئذ ، وفي خلق الأشياء مدرجا مع القدرة على إيجادها دفعة دليل للاختيار واعتبار للنظار وحث على التأني في الأمور . { ثم استوى على العرش } استوى أمره أو استولى ، وعن أصحابنا أن الاستواء على العرش صفة لله بلا كيف ، والمعنى : أن له تعالى استواء على العرش على الوجه الذي عناه منزها عن الاستقرار والتمكن والعرش الجسم المحيط بسائر الأجسام سمي به لارتفاعه ، أو للتشبيه بسرير الملك فإن الأمور والتدابير تنزل منه وقيل الملك . { يغشي الليل النهار } يغطيه به ولم يذكر عكسه للعلم به ، أو لأن اللفظ يحتملهما ولذلك قرئ { يغشي الليل النهار } بنصب { الليل } ورفع { النهار } . وقرا حمزة والكسائي ويعقوب وأبو بكر عن عاصم بالتشديد فيه وفي " الرعد " للدلالة على التكرير . { يطلبه حثيثا } يعقبه سريعا كالطالب له لا يفصل بينهما شيء والحثيث فعيل من الحث وهو صفة مصدر محذوف أو حال من الفاعل بمعنى حاثا ، أو المفعول بمعنى محثوثا . { والشمس والقمر والنجوم مسخّرات بأمره } بقضائه وتصريفه ونصبها بالعطف على السماوات ونصب مسخرات على الحال . وقرأ ابن عامر كلها بالرفع على الابتداء والخبر . { ألا له الخلق والأمر } فإنه الموجد والمتصرف . { تبارك الله رب العالمين } تعالى بالوحدانية في الألوهية وتعظم بالتفرد في الربوبية . وتحقيق الآية والله سبحانه وتعالى أعلم ، أن الكفرة كانوا متخذين أربابا فبين لهم أن المستحق للربوبية واحد وهو الله سبحانه وتعالى ، لأنه الذي له الخلق والأمر فإنه سبحانه وتعالى خلق العالم على ترتيب قويم وتدبير حكيم فأبدع الأفلاك ثم زينها بالكواكب كما أشار إليه بقوله تعالى : { فقضاهن سبع سماوات في يومين } وعمد إلى إيجاد الأجرام السفلية فخلق جسما قابلا للصور المتبدلة والهيئات المختلفة ، ثم قسمها بصور نوعية متضادة الآثار والأفعال وأشار إليه بقوله وخلق الأرض أي ما في جهة السفل في يومين ، ثم أنشأ أنواع المواليد الثلاثة بتركيب موادها أولا وتصويرها ثانيا كما قال تعالى بعد قوله : { خلق الأرض في يومين } { وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام } أي مع اليومين الأولين لقوله تعالى في سورة السجدة { الله الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام } ثم لما تم له عالم الملك عمد إلى تدبيره كالملك الجالس على عرشه لتدبير المملكة ، فدبر الأمر من السماء إلى الأرض بتحريك الأفلاك وتسيير الكواكب وتكوير الليالي والأيام ، ثم صرح بما هو فذلكة التقرير ونتيجته فقال : { ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين } .
وقوله تعالى : { إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام } الآية ، خطاب عام يقتضي التوحيد والحجة وعليه بدلائله ، والرب أصله في اللغة المصلح من رب يرب وهو يجمع في جهة ذكر الله تعالى المالك والسيد وغير ذلك من استعمالات العرب ، ولا يقال الرب معرفاً إلا لله ، وإنما يقال في البشر بإضافة ، وروى بكار بن الشقير «إن ربكم اللهَ » بنصب الهاء ، وقوله { في ستة أيام } حكى الطبري عن مجاهد أن اليوم كألف سنة ، وهذا كله والساعة اليسيرة سواء في قدرة الله تعالى ، وأما وجه الحكمة في ذلك فمما انفرد الله عز وجل بعلمه كسائر أحوال الشرائع ، وما ذهب إليه من أراد أن يوجه هذا كالمهدوي وغيره تخرص ، وجاء في التفسير وفي الأحاديث أن الله ابتدأ الخلق يوم الأحد وكملت المخلوقات يوم الجمعة ، ثم بقي دون خلق يوم السبت ، ومن ذلك اختارته اليهود لراحتها ، وعلى هذا توالت تفاسير الطبري وغيره ، ولليهود لعنهم الله تعالى في هذا كلام سوء تعالى الله عما يصفون .
ووقع حديث في كتاب مسلم بن الحجاج في كتاب الدلائل لثابت السرقسطي ، أن الله تعالى خلق التربة يوم السبت وذكره مكي في الهداية ، وقوله تعالى : { استوى على العرش } معناه عند أبي المعالي وغيره من حذاق المتكلمين بالملك والسلطان ، وخص العرش بالذكر تشريفاً له إذ هو أعظم المخلوقات ، وقال سفيان الثوري : فعل فعلاً في العرش سماه استواء .
قال القاضي أبو محمد : و { العرش } مخلوق معين جسم ما ، هذا الذي قررته الشريعة ، وبلغني عن أبي الفضيل بن النحوي أنه قال : العرش مصدر عرش يعرش عرشاً ، والمراد بقوله { استوى على العرش } هذا .
قال القاضي أبو محمد : وهذا خروج كثير عن ما فهم من العرش في غير ما حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر «يُغشي » من أغشى ، وقرأ عاصم في رواية أبي بكر وحمزة والكسائي «يعشّي » بالتشديد من غشّى ، وهما طريقان في تعدية «غشي » إلى مفعول ثان ، وقرأ حميد «يغَشَى » بفتح الياء والشين ونصب «الليلَ » ورفع «النهارُ » ، كذا قال أبو الفتح وقال أبو عمرو الداني برفع «الليلُ » .
قال القاضي أبو محمد : وأبو الفتح أثبت و { حثيثاً } معناه سريعاً ، و { يطلبه حثيثاً } حال من الليل بحسب اللفظ على قراءة الجماعة ، ومن النهار بحسب المعنى ، وأما على قراءة حميد فمن النهار في الوجهين ، ويحتمل أن يكون حالاً منهما ، ومثله قوله تعالى : { فأتت به قومها تحمله } فيصح أن يكون { تحمله } حالاً منها ، وأن يكون حالاً منه وأن يكون حالاًَ منهما و { مسخرات } في موضع الحال ، وقرأ ابن عامر وحده من السبعة و «الشمسُ والقمرُ والنجومُ مسخراتٌ » بالرفع في جميعها ، ونصب الباقون هذه الحروف كلها ، وقرأ أبان بن تغلب و «الشمسَ والقمرَ » بالنصب ، و «النجومُ مسخراتٌ » بالرفع .
و { ألا } استفتاح كلام فاستفتح بها في هذا الموضع هذا الخبر الصادق المرشد .
قال القاضي أبو محمد : وأخذ المفسرون { الخلق } بمعنى المخلوقات . أي هي له كلها وملكه واختراعه ، وأخذوا { الأمر } مصدراً من أمر يأمر ، وعلى هذا قال النقاش وغيره : إن الآية ترد على القائلين بخلق القرآن لأنه فرق فيها بين المخلوقات وبين الكلام إذ الأمر كلامه عز وجل .
قال القاضي أبو محمد : ويحتمل أن تؤخذ لفظة { الخلق } على المصدر من خلق يخلق خلقاً أي له هذه الصفة إذ هو الموجد للأشياء بعد العدم ، ويؤخذ { الأمر } على أنه واحد من الأمور إلا أنه يدل على الجنس فيكون بمنزلة قوله { وإليه يرجع الأمر كله } وبمنزلة قوله { وإلى الله ترجع الأمور } فإذا أخذت اللفظتان هكذا خرجتا عن مسألة الكلام .
قال القاضي أبو محمد : ولما تقدم في الآية خلق وبأمره تأكد في آخره أن { له الخلق والأمر } المصدرين حسب تقدمهما ، وكيف ما تأولت الآية فالجميع لله ، وأسند الطبري إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : «من زعم أن الله تعالى جعل لأحد من العباد شيئاً من الأمر فقد كفر بما أنزل الله لقوله تعالى : { ألا له الخلق والأمر } » ، قال النقاش : ذكر الله الإنسان في القرآن في ثمانية عشر موضعاً في جميعها أنه مخلوق ، وذكر القرآن في أربعة وخمسين موضعاً ليس في واحد منها إشارة إلى أنه مخلوق ، وقال الشعبي { الخلق } عبارة عن الدنيا و { الأمر } عبارة عن الآخرة ، و { تبارك } معناه عظم وتعالى وكثرت بركاته ، ولا يوصف بها إلا الله تعالى ، و { تبارك } لا يتصرف في كلام العرب ، لا يقال منه يتبارك ، وهذا منصوص عليه لأهل اللسان .
قال القاضي أبو محمد : وعلة ذلك أن { تبارك } لما لم يوصف بها غير الله تعالى لم تقتض مستقبلاً إذ الله قد تبارك في الأزل ، وقد غلط بها أبو علي القالي فقيل له كيف المستقبل من تبارك ؟ فقال يتبارك فوقف على أن العرب ، لم تقله ، و «الرب » السيد المصلح ، و { العالمين } جمع عالم .