ثم يفتح باب التوبة لمن أراد أن ينجو من هذا المصير المسيء بالتوبة والإيمان الصحيح والعمل الصالح : ( إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا )ويعد التائبين المؤمنين العاملين أن يبدل ما عملوه من سيئات قبل التوبة حسنات بعدها تضاف إلى حسناتهم الجديدة : ( فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات ) . وهو فيض من عطاء الله لا مقابل له من عمل العبد إلا أنه اهتدى ورجع عن الضلال ، وثاب إلى حمى الله ، ولاذ به بعد الشرود والمتاهة . ( وكان الله غفورا رحيما ) . .
وقوله : { إِلا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ [ عَمَلا ] صَالِحًا } {[21620]} أي : جزاؤه على ما فعل من هذه الصفات القبيحة ما ذكر { إِلا مَنْ تَابَ } في الدنيا إلى الله{[21621]} من جميع ذلك ، فإن الله يتوب عليه .
وفي ذلك دلالة على صحة توبة القاتل ، ولا تعارض{[21622]} بين هذه وبين آية النساء : { وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا } [ النساء : 93 ] فإن هذه
وإن كانت مدنية إلا أنها مطلقة ، فتحمل على من لم يتب ، لأن هذه مقيدة بالتوبة ، ثم قد قال [ الله ]{[21623]} تعالى : { إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } [ النساء : 48 ، 116 ] .
وقد ثبتت السنة الصحيحة ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بصحة توبة القاتل ، كما ذكر مقررا من قصة الذي قتل مائة رجل ثم تاب ، وقبل منه ، وغير ذلك من الأحاديث .
وقوله : { فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا } : في معنى قوله : { يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ } قولان :
أحدهما : أنهم بدلوا مكان عمل السيئات بعمل الحسنات . قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في قوله : { فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ } قال : هم المؤمنون ، كانوا من قبل إيمانهم على السيئات ، فرغب الله بهم عن ذلك فحوَّلهم إلى الحسنات ، فأبدلهم مكان السيئات الحسنات .
وروى مجاهد ، عن ابن عباس أنه كان ينشد عند هذه الآية :
بُدّلْنَ بَعْدَ حَرِّهِ خَريفا{[21624]} *** وَبَعْدَ طُول النَّفَس الوَجيفَا{[21625]}
يعني : تغيرت تلك الأحوال إلى غيرها .
وقال عطاء بن أبي رباح : هذا في الدنيا{[21626]} ، يكون الرجل على هيئة قبيحة ، ثم يبدله الله بها خيرا .
وقال سعيد بن جبير : أبدلهم بعبادة الأوثان عبادة الله ، وأبدلهم{[21627]} بقتال المسلمين قتالا مع المسلمين للمشركين ، وأبدلهم بنكاح المشركات نكاح المؤمنات .
وقال الحسن البصري : أبدلهم الله بالعمل السيئ العمل الصالح ، وأبدلهم بالشرك إخلاصا ، وأبدلهم بالفجور إحصانا وبالكفر إسلاما .
وهذا قول أبي العالية ، وقتادة ، وجماعة آخرين .
والقول الثاني : أن تلك السيئات الماضية تنقلب بنفس التوبة النصوح حسنات ، وما ذاك إلا أنه كلما تذكر ما مضى ندم واسترجع واستغفر ، فينقلب الذنب طاعة بهذا الاعتبار . فيوم القيامة وإن وجده مكتوبا عليه لكنه لا يضره وينقلب حسنة في صحيفته ، كما ثبتت السنة بذلك ، وصحت به الآثار المروية عن السلف ، رحمهم الله تعالى - وهذا سياق الحديث - قال الإمام أحمد :
حدثنا أبو معاوية ، حدثنا الأعمش ، عن المعرور بن سُوَيْد ، عن أبي ذر ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إني لأعرف آخر أهل النار خروجا من النار ، وآخر أهل الجنة دخولا إلى الجنة : يؤتى برجل فيقول : نَحّوا كبار ذنوبه وسلوه عن صغارها ، قال : فيقال له : عملت يوم كذا وكذا كذا ، وعملت يوم كذا وكذا كذا ؟ فيقول : نعم - لا يستطيع أن ينكر من ذلك شيئا -
فيقال : فإن لك بكل سيئة حسنة . فيقول : يا رب ، عملت أشياء لا أراها هاهنا " . قال : فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه . وانفرد به مسلم{[21628]} .
وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني : حدثنا هاشم بن يزيد ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثني أبي ، حدثني ضَمْضَم بن زرعة ، عن شُرَيْح بن عبيد{[21629]} عن أبي مالك الأشعري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا نام ابن آدم قال الملك للشيطان : أعطني صحيفتك . فيعطيه إياها ، فما وجد في صحيفته من حسنة محا بها عشر سيئات من صحيفة الشيطان ، وكتبهن حسنات ، فإذا أراد أن ينام أحدكم فليكبر ثلاثًا وثلاثين تكبيرة ، ويحمد أربعا وثلاثين تحميدة ، ويسبح ثلاثًا وثلاثين تسبيحة ، فتلك مائة " {[21630]} .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أبو سلمة وعارم قالا حدثنا ثابت - يعني : ابن يزيد أبو زيد - حدثنا عاصم ، عن أبي عثمان ، عن سلمان قال : يعطى رجل يوم القيامة صحيفته فيقرأ أعلاها ، فإذا سيئاته{[21631]} ، فإذا كاد{[21632]} يسوء ظنه نظر{[21633]} في أسفلها فإذا حسناته ، ثم ينظر في أعلاها فإذا هي قد بدلت حسنات .
وقال أيضا : حدثنا أبي ، حدثنا هشام بن عمار ، حدثنا سليمان بن موسى الزهري أبو داود ، حدثنا أبو العَنْبَس ، عن أبيه ، عن أبي هريرة قال : ليأتين الله عز وجل بأناس{[21634]} يوم القيامة رأوا أنهم قد استكثروا من السيئات ، قيل : مَنْ هم يا أبا هريرة ؟ قال : الذين يبدل الله سيئاتهم حسنات .
وقال أيضا : حدثنا أبي ، حدثنا عبد الله بن أبي زياد ، حدثنا سَيَّار ، حدثنا جعفر ، حدثنا أبو حمزة ، عن أبي الضيف - وكان من أصحاب معاذ بن جبل - قال : يدخل أهل الجنة الجنة على أربعة أصناف : المتقين ، ثم الشاكرين ، ثم الخائفين ، ثم أصحاب اليمين . قلت : لِمَ سموا أصحاب اليمين ؟ قال : لأنهم عملوا الحسنات{[21635]} والسيئات ، فأعطوا كتبهم بأيمانهم ، فقرؤوا سيئاتهم حرفا حرفا - قالوا : يا ربنا ، هذه سيئاتنا ، فأين حسناتنا ؟ . فعند ذلك محا الله السيئات وجعلها حسنات ، فعند ذلك قالوا : ( هاؤم اقرؤوا كتابيه ) ، فهم أكثر أهل الجنة .
وقال علي بن الحسين زين العابدين : { يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ } قال : في الآخرة .
وقال مكحول : يغفرها لهم فيجعلها حسنات : [ رواهما ابن أبي حاتم ، وروى ابن جرير ، عن سعيد بن المسيب مثله ]{[21636]} .
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا محمد بن الوزير الدمشقي ، حدثنا الوليد بن مسلم ،
حدثنا أبو{[21637]} جابر ، أنه سمع مكحولا يحدث قال : جاء شيخ كبير هرم قد سقط{[21638]} حاجباه على عينيه ، فقال : يا رسول الله ، رجل غدر وفجر ، ولم يدع حاجة ولا داجة إلا اقتطعها بيمينه ، لو قسمت خطيئته بين أهل الأرض لأوبقتهم ، فهل له من توبة ؟ فقال له رسول الله{[21639]} صلى الله عليه وسلم : " أسلمتَ ؟ " قال{[21640]} : أما أنا فأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأن{[21641]} محمدًا عبده ورسوله . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " فإن الله غافر لك ما كنت كذلك ، ومبدل{[21642]} سيئاتك حسنات " . فقال : يا رسول الله ، وغَدَراتي وفَجَراتي ؟ فقال : " وغَدرَاتك وفَجَراتك " . فَوَلّى الرجل يهلل ويكبر{[21643]}-{[21644]} .
وروى الطبراني من حديث أبي المغيرة ، عن صفوان بن عَمْرو{[21645]} ، عن عبد الرحمن بن جبير ، عن أبي فَرْوَةَ - شَطْب - أنه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : أرأيت رجلا عمل الذنوب كلها ، ولم يترك حاجة ولا داجة ، فهل له من توبة ؟ فقال : " أسلمتَ ؟ " فقال : نعم ، قال : " فافعل الخيرات ، واترك السيئات ، فيجعلها{[21646]} الله لك خيرات كلها " . قال : وغَدرَاتي وفَجَراتي ؟ قال : " نعم " . قال فما زال يكبر حتى توارى{[21647]} .
ورواه الطبراني من طريق أبي فَروة الرهاوي ، عن ياسين الزيات ، عن أبي سلمة الحِمْصي ، عن يحيى بن جابر ، عن سلمة بن نفيل مرفوعًا{[21648]} .
وقال أيضًا : حدثنا أبو زُرْعة ، حدثنا إبراهيم بن المنذر ، حدثنا عيسى بن شعيب بن ثوبان ، عن فُلَيْح الشماس ، عن عبيد بن أبي عبيد{[21649]} عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، قال : جاءتني امرأة فقالت : هل لي من توبة ؟ إني زنيت وولدت وقتلته . فقلت{[21650]} لا ولا نَعمت العين ولا كرامة . فقامت وهي تدعو بالحسرة . ثم صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم الصبح ، فقصصت عليه ما قالت المرأة وما قلت لها ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " بئسما قلت ! أما كنت تقرأ هذه الآية : { وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ } إلى قوله : { إِلا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا } فقرأتها عليها . فخرَّت ساجدة وقالت : الحمد لله الذي جعل لي مخرجًا .
هذا حديث غريب من هذا الوجه ، وفي رجاله مَنْ لا يُعرف والله أعلم . وقد رواه ابن جرير من حديث إبراهيم بن المنذر الحزَامي بسنده بنحوه ، وعنده : فخرجت تدعو بالحسرة وتقول : يا حسرتا ! أخلق هذا الحسن للنار ؟ وعنده أنه لما رجع من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، تَطَلَّبها{[21651]} في جميع دور المدينة فلم يجدها ، فلما كان من الليلة المقبلة جاءته ، فأخبرها بما قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فخرت ساجدة ، وقالت : الحمد لله الذي جعل لي مخرجًا وتوبة مما عملت . وأعتقت جارية كانت معها وابنتها ، وتابت إلى الله عز وجل{[21652]}
قوله : فَأُولَئِكَ يُبَدّلُ اللّهُ سَيّئاتِهِمْ حَسَناتٍ . اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال بعضهم : معناه : فأولئك يبدّل الله بقبائح أعمالهم في الشرك ، محاسن الأعمال في الإسلام ، فيبدله بالشرك إيمانا ، وبقيل أهل الشرك بالله قيل أهل الإيمان به ، وبالزناعفة وإحصانا . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : فأُولَئِكَ يُبَدّلُ اللّهُ سَيّئاتِهِمْ حَسَناتٍ قال : هم المؤمنون كانوا قبل إيمانهم على السيئات ، فرغب الله بهم عن ذلك ، فحوّلهم إلى الحسنات ، وأبدلهم مكان السيئات حسنات .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله إلاّ مَنْ تابَ وآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحا . . . إلى آخر الاَية ، قال : هم الذي يتوبون فيعملون بالطاعة ، فيبدّل الله سيئاتهم حسنات حين يتوبون .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يعقوب ، عن سعيد ، قال : نزلت وَالّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللّهِ إلَها آخَرَ . . . إلى آخر الاَية ، في وَحْشِيّ وأصحابه ، قالوا : كيف لنا بالتوبة ، وقد عبدنا الأوثان ، وقتلنا المؤمنين ، ونكحنا المشركات ، فأنزل الله فيهم : إلاّ مَنْ تابَ وآمَنَ وعَمِلَ عَمَلاً صَالِحا ، فأُولَئِكَ يُبَدّلُ اللّهُ سَيّئاتِهِمْ حَسَناتٍ ، فأبدلهم الله بعبادة الأوثان عبادة الله ، وأبدلهم بقتالهم مع المشركين ، قتالاً مع المسلمين للمشركين ، وأبدلهم بنكاح المشركات نكاح المؤمنات .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، قال : قال ابن جُرَيج ، قال ابن عباس ، في قوله : فَأُولَئِكَ يُبَدّلُ اللّهُ سَيّئاتِهِمْ حَسَناتٍ قال : بالشرك إيمانا ، وبالقتل إمساكا ، وبالزنا إحصانا .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : وَالّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللّهِ إلهَا آخَرَ وهذه الاَية مكية نزلت بمكة وَمَنْ يَفْعَلْ ذلكَ يعني : الشرك ، والقتل ، والزنا جميعا . لمّا أنزل الله هذه الاَية قال المشركون من أهل مكة : يزعم محمد أن من أشرك وقتل وزنى فله النار ، وليس له عند الله خير ، فأنزل الله : إلاّ مَنْ تابَ من المشركين من أهل مكة ، فَأُولَئِكَ يُبَدّلُ اللّهُ سَيّئاتِهِمْ حَسَناتٍ يقول : يبدّل الله مكان الشرك والقتل والزنا : الإيمان بالله ، والدخول في الإسلام ، وهو التبديل في الدنيا . وأنزل الله في ذلك . يا عِبادِيَ الّذِينَ أسْرَفُوا على أنْفُسِهِمْ يعنيهم بذلك لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللّهِ ، إنّ اللّهَ يَغْفِرُ الذّنُوبَ جَمِيعا يعني ما كان في الشرك . يقول الله لهم : أنيبوا إلى ربكم وأسلموا له ، يدعوهم إلى الإسلام ، فهاتان الاَيتان مكيتان ، والتي في النساء وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنا مُتَعَمّدا . . . الاَية ، هذه مدنية ، نزلت بالمدينة ، وبينها وبين التي نزلت في الفرقان ثمان سنين ، وهي مبهمة ليس منها مخرج .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا أبو تُمَيْلة ، قال : حدثنا أبو حمزة ، عن جابر ، عن مجاهد ، قال : سُئل ابن عباس عن قول الله جلّ ثناؤه : يُبَدّلُ اللّهُ سَيِئاتِهمْ حَسَناتٍ فقال :
بُدّلْنَ بَعْدَ حَرّهِ خَريفا *** وَبَعْدَ طُولِ النّفَسِ الوَجِيفا
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله وَالّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللّهِ إلَهَا آخَرَ . . . إلى قوله يَخْلُدْ فِيهِ مُهانا : فقال المشركون : ولا والله ما كان هؤلاء الذين مع محمد إلا معنا ، قال : فأنزل الله : إلاّ مَنْ تابَ وآمَنَ . قال : تاب من الشرك ، قال : وآمن بعقاب الله ورسوله وعَمِلَ عَمَلاً صَالِحا ، قال : صدّق ، فأُولَئِكَ يُبَدّلُ اللّهُ سَيّئاتِهِمْ حَسَناتٍ قال : يبدّل الله أعمالهم السيئة التي كانت في الشرك بالأعمال الصالحة حين دخلوا في الإيمان .
وقال آخرون : بل معنى ذلك ، فأولئك يبدّل الله سيئاتهم في الدنيا حسنات لهم يوم القيامة . ذكر من قال ذلك :
حدثني أحمد بن عمرو البصريّ ، قال : حدثنا قريش بن أنس أبو أنس ، قال : ثني صالح بن رستم ، عن عطاء الخراساني ، عن سعيد بن المسيب فَأُولَئِكَ يُبَدّلُ اللّهُ سَيّئاتِهِمْ حَسَناتٍ قال : تصير سيئاتهم حسنات لهم يوم القيامة .
حدثنا الحسن بن عرفة ، قال : حدثنا محمد بن حازم أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن المعرور بن سويد ، عن أبي ذرّ ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إنّي لأَعْرِفُ آخِرَ أهْلِ النّارِ خُرُوجا مِنَ النّارِ ، وآخِرَ أهْلِ النّارِ دُخُولاً الجَنّةَ ، قال : يُؤْتَى بِرَجُلٍ يَوْمَ القِيامَةِ ، فَيُقالُ : نَحّوا كِبارَ ذُنُوبِهِ وَسَلُوهُ عَنْ صِغارِها ، قال : فَيُقالُ لَهُ : عَمِلْتَ كَذَا وكَذَا ، وَعملْتَ كَذَا وكَذَا ، قال : فَيَقُولُ : يا رَبّ لَقَدْ عَمِلْتُ أشْياءَ ما أرَاها هَا هُنا ، قال : فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه ، قال : فَيُقالُ لَهُ : لَكَ مَكانَ كُلّ سَيّئَةِ حَسَنَةٌ » .
قال أبو جعفر : وأولَى التأويلين بالصواب في ذلك تأويل من تأوّله : فأولئك يبدّل الله سيئاتهم : أعمالهم في الشرك ، حسنات في الإسلام ، بنقلهم عما يسخطه الله من الأعمال إلى ما يرضى .
وإنما قلنا ذلك أولى بتأويل الاَية ، لأن الأعمال السيئة قد كانت مضت على ما كانت عليه من القُبح ، وغير جائز تحويل عين قد مضت بصفة ، إلى خلاف ما كانت عليه ، إلا بتغييرها عما كانت عليه من صفتها في حال أخرى ، فيجب إن فعل ذلك كذلك ، أن يصير شرك الكافر الذي كان شركا في الكفر بعينه إيمانا يوم القيامة بالإسلام ومعاصيه كلها بأعيانها طاعة ، وذلك ما لا يقوله ذو حجا .
وقوله : وكانَ اللّه غَفُورا رَحِيما يقول تعالى ذكره : وكان الله ذا عفو عن ذنوب من تاب من عباده ، وراجع طاعته ، وذا رحمة به أن يعاقبه على ذنوبه بعد توبته منها . قوله : وَمَنْ تابَ يقول : ومن تاب من المشركين ، فآمن بالله ورسوله وعَمِلَ صَالِحا يقول : وعمل بما أمره الله فأطاعه ، فإن الله فاعل به من إبداله سَيِىء أعماله في الشرك ، بحسنها في الإسلام ، مثل الذي فعل من ذلك ، بمن تاب وآمن وعمل صالحا قبل نزول هذه الاَية من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَمَنْ تابَ وعَمِلَ صَالِحا فإنّه يَتُوبُ إلى اللّهِ مَتابا قال : هذا للمشركين الذين قالوا لما أنزلت وَالّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللّهِ إلهَا آخَرَ . . . إلى قوله وكانَ اللّهُ غَفُورا رَحِيما لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما كان هؤلاء إلا معنا ، قال : وَمَنْ تَابَ وعَمِلَ صَالِحا فإن لهم مثل ما لهؤلاء فإنّهُ يَتُوبُ إلى اللّهِ مَتابا لم تخطر التوبة عليكم .
{ إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات } بأن يمحو سوابق معاصيهم بالتوبة ويثبت مكانها لواحق طاعتهم ، أو يبدل ملكة المعصية في النفس بملكة الطاعة . وقيل بأن يوفقه لأضداد ما سلف منه ، أو بأن يثبت له بدل كل عقاب ثوابا . { وكان الله غفورا رحيما } فلذلك يعفو عن السيئات ويثبت على الحسنات .