171- رد اللَّه على اليهود في قولهم : إن بني إسرائيل لم تصدر منهم مخالفة في الحق ، فقال : واذكر لهم - أيها النبي - حين رفعنا الجبل فوق رؤوس بني إسرائيل كأنه غمامة ، وفزعوا لظنهم أنه واقع عليهم ، وقلنا لهم - في حالة الرفع ورهبتهم - خذوا ما أعطيناكم من هدى في التوراة بجد وعزم على الطاعة ، وتذكروا ما فيه لعلكم تعتبرون وتتهذب نفوسكم بالتقوى .
الثالث عشر : 171 اشارة الى رفع الجبل فوق بني إسرائيل
وفي ختام حلقات القصة في هذه السورة يذكر كيف كان الله قد أخذ على بني إسرائيل الميثاق :
( وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة ، وظنوا أنه واقع بهم . خذوا ما آتيناكم بقوة ، واذكروا ما فيه لعلكم تتقون ) .
إنه ميثاق لا ينسى . . فقد أخذ في ظرف لاينسى ! أخذ وقد نتق الله الجبل فوقهم كأنه ظلة ، وظنوا أنه واقع بهم ! ولقد كانوا متقاعسين يومها عن إعطاء الميثاق ؛ فأعطوه في ظل خارقة هائلة كانت جديرة بأن تعصمهم بعد ذلك من الانتكاس . ولقد أمروا في ظل تلك الخارقة القوية أن يأخذوا ميثاقهم بقوة وجدية ، وأن يستمسكوا به في شدة وصرامة ، وألا يتخاذلوا ولا يتهاونوا ولا يتراجعوا في ميثاقهم الوثيق . وأن يظلوا ذاكرين لما فيه ، لعل قلوبهم تخشع وتتقي . وتظل موصولة بالله لا تنساه !
ولكن إسرائيل هي إسرائيل ! نقضت الميثاق ، ونسيت الله ، ولجت في المعصية ، حتى استحقت غضب الله ولعنته . وحق عليها القول ، بعدما اختارها الله على العالمين في زمانها ، وأفاء عليها من عطاياه . فلم تشكر النعمة ، ولم ترع العهد ، ولم تذكر الميثاق . . وما ربك بظلام للعبيد . .
قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : { وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ } يقول : رفعناه ، وهو قوله : { وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ } [ النساء : 154 ]
وقال سفيان الثوري ، عن الأعمش ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، رفعته الملائكة فوق رءوسهم .
وقال القاسم بن أبي أيوب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : ثم سار بهم موسى ، عليه السلام ، متوجها نحو الأرض المقدسة ، وأخذ الألواح بعد ما سكت عنه الغضب ، فأمرهم بالذي أمره{[12291]} الله تعالى [ به ]{[12292]} - أن يبلغهم من الوظائف ، فثقلت عليهم ، وأبوا أن يقربوها حتى ينتق{[12293]} الله الجبل فوقهم كأنه ظلة ، قال : رفعته الملائكة فوق رءوسهم . رواه النسائي بطوله{[12294]}
وقال سنيد بن داود في تفسيره ، عن حجاج بن محمد ، عن أبي بكر بن عبد الله قال : هذا كتاب ، أتقبلونه بما فيه ، فإن فيه بيان ما أحل لكم وما حرم عليكم ، وما أمركم وما نهاكم ؟ قالوا : انشر علينا ما فيها ، فإن كانت فرائضها يسيرة ، وحدودها خفيفة قبلناها . قال : اقبلوها بما فيها . قالوا : لا حتى نعلم ما فيها ، كيف حدودها وفرائضها ؟ فراجعوا موسى مرارا ، فأوحى الله إلى الجبل فانقلع فارتفع في السماء ، حتى إذا كان بين رءوسهم وبين السماء قال لهم موسى : ألا ترون ما يقول ربي ،
عز وجل ؟ لئن لم تقبلوا التوراة بما فيها ، لأرمينكم بهذا الجبل . قال : فحدثني الحسن البصري قال : لما نظروا إلى الجبل خر كل رجلٍ ساجدًا على حاجبه الأيسر ، ونظر بعينه اليمنى إلى الجبل ، فرقًا من أن يسقط [ عليه ]{[12295]} فكذلك ليس اليوم في الأرض يهودي يسجد إلا على حاجبه الأيسر ، يقولون : هذه السجدة التي رفعت بها العقوبة . قال أبو بكر : فلما نشر الألواح فيها كتاب الله كتبه بيده ، لم يبق على وجه الأرض جبل ولا شجر ولا حجر إلا اهتز ، فليس اليوم يهودي على وجه الأرض صغير ، ولا كبير ، تقرأ عليه التوراة إلا اهتز ونفض لها رأسه . [ أي : حرك كما قال تعالى : { فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ } [ الإسراء : 51 ] أي يحركونها ]{[12296]}
القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِذ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنّهُ ظُلّةٌ وَظَنّوَاْ أَنّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُواْ مَآ آتَيْنَاكُم بِقُوّةٍ وَاذْكُرُواْ مَا فِيهِ لَعَلّكُمْ تَتّقُونَ } . .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : واذكر يا محمد إذ اقتلعنا الجبل ، فرفعناه فوق بني إسرائيل ، كأنه ظلة غمام من الظلام ، وقلنا لهم : خذوا ما آتيناكم بقوّة من فرائضنا ، وألزمناكم من أحكام كتابنا ، فاقبلوه ، واعملوا باجتهاد منكم في أدائه من غير تقصير ولا توان . واذْكُرُوا ما فِيهِ يقول ما في كتابنا من العهود والمواثيق التي أخذنا عليكم بالعمل بما فيه . لَعَلّكُمْ تَتّقُونَ يقول : كي تتقوا ربكم ، فتخافوا عقابه بترككم العمل به إذا ذكرتم ما أخذ عليكم فيه من المواثيق .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : وَإذْ نَتَقْنا الجَبَلَ فَوْقَهُمْ كأنّهُ ظُلّةٌ فقال لهم موسى : خذوا ما آتيناكم بقوّة يقول : من العمل بالكتاب وإلا خرّ عليكم الجبل ، فأهلككم فقالوا : بل نأخذ ما آتانا الله بقوّة ثم نكثوا بعد ذلك .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ عن ابن عباس ، قوله : وَإذْ نَتَقْنا الجَبَلَ فَوْقَهُمْ كأنّهُ ظُلّةٌ فهو قوله : وَرَفَعْنا فَوْقَهُمُ الطّورَ بِمِيثاقِهِمْ فقال : خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوّةٍ ، وإلا أرسلته عليكم .
حدثني إسحاق بن شاهين ، قال : حدثنا خالد بن عبد الله ، عن داود ، عن عامر ، عن ابن عباس ، قال : إني لأعلمُ خلق الله لأيّ شيء سجدت اليهود على حرف وجوههم ، لما رفع الجبل فوقهم سجدوا وجعلوا ينظرون إلى الجبل مخافة أن يقع عليهم ، قال : فكانت سجدة رضيها الله ، فاتخذوها سنة .
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا عبد الأعلى ، قال : حدثنا داود ، عن عامر ، عن ابن عباس ، مثله .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وَإذْ نَتَقْنا الجَبَلَ فَوْقَهُمْ كأنّهُ ظُلّةٌ وَظَنّوا أنّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوّةٍ : أي بجدّ . واذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلّكُمْ تَتّقُونَ جبل نزعه الله من أصله ثم جعله فوق رءوسهم ، فقال : لتأخذنّ أمري ، أو لأرمينّكم به
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، قال : قال ابن جريج ، قال مجاهد : وَإذْ نَتَقْنا الجَبَلَ قال : كما تنتق الزّبدة . قال ابن جريج : كانوا أبوا التوراة أن يقبلوها أو يؤمنوا بها . خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوّةٍ قال : يقول : لتؤمننّ بالتوراة ولتقبلنها ، أو ليقعن عليكم
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن أبي بكر بن عبد الله ، قال : هذا كتاب الله أتقبلونه بما فيه ، فإن فيه بيان ما أحلّ لكم وما حرّم عليكم وما أمركم وما نهاكم . قالوا : انشر علينا ما فيها ، فإن كانت فرائضها يسيرة وحدودها خفيفة قبلناها قال : اقبلوها بما فيها قالوا : لا ، حتى نعلم ما فيها كيف حدودها وفرائضها . فراجعوا موسى مرارا ، فأوحى الله إلى الجبل ، فانقلع فارتفع في السماء حتى إذا كان بين رءوسهم وبين السماء قال لهم موسى : ألا ترون ما يقول ربي ؟ لئن لم تقبلوا التوراة بما فيها لأرمينكم بهذا الجبل قال : فحدثني الحسن البصري ، قال : لما نظروا إلى الجبل خرّ كلّ رجل ساجدا على حاجبه الأيسر ، ونظر بعينه اليمنى إلى الجبل ، فرَقا من أن يسقط عليه فلذلك ليس في الأرض يهوديّ يسجد إلا على حاجبه الأيسر ، يقولون : هذه السجدة التي رفُعت عنا بها العقوبة . قال أبو بكر : فلما نشَرَ الألواح فيها كتاب الله كتبه بيده ، لم يبق على وجه الأرض جبل ولا شجر ولا حجر إلا اهتزّ ، فليس اليوم يهوديّ على وجه الأرض صغير ولا كبير تقرأ عليه التوراة إلا اهتزّ ونغض لها رأسه .
واختلف أهل العلم بكلام العرب في معنى قوله : نَتَقْنا فقال بعض البصريين : معنى نتقنا : رفعنا واستشهد بقول العجّاج :
***يَنْتُقُ أقْتادَ الشّلِيلِ نَتْقا ***
وقال : يعني بقوله : «ينتق » يرفعها عن ظهره . وبقول الاَخر :
***وَنَتَقُوا أحْلامَنا الأثاقِلا ***
وقد حُكي عن قائل هذه المقالة قول آخر ، وهو أن أصل النتق والنتوق كلّ شيء قلعته من موضعه فرميت به ، يقال منه : نتقت نتقا . قال : ولهذا قيل للمرأة الكبيرة ناتق لأنها ترمي بأولادها رميا ، واستشهد ببيت النابغة :
لَمْ يُحْرَمُوا حُسْنَ الغِذَاءِ وأُمّهُمْ ***دَحَقَتْ عَلَيْكَ بِناتقٍ مِذْكارِ
وقال آخر : معناه في هذا الموضع : رفعناه . وقال : قالوا : نتقني السير : حرّكني . وقال : قالوا : ما نتق برجله لا يركض ، والنتق : نتق الدابة صاحبها حين تعدو به وتتعبه حتى يربو ، فذلك النتق والنتوق ، ونتقتني الدابة ، ونتقت المرأة تنتق نتوقا : كثر ولدها . وقال بعض الكوفيين : نتقنا الجبل : علقنا الجبل فوقهم فرفعناه ننتقه نتقا ، وامرأة منتاق : كثيرة الولد ، قال : وسمعت أخذ الجراب ونَتَقَ ما فيه : إذا نثر ما فيه .