وقد كانت الإشارة السابقة إلى الحساب والتقدير في بناء الكون الكبير . فأما هذه فهي إشارة إلى اتجاه هذا الكون وارتباطه . وهي إشارة موحية إلى حقيقة هادية .
إن هذا الوجود مرتبط ارتباط العبودية والعبادة بمصدره الأول ، وخالقه المبدع . والنجم والشجر نموذجان منه ، يدلان على اتجاهه كله . وقد فسر بعضهم النجم بأنه النجم الذي في السماء . كما فسره بعضهم بأنه النبات الذي لا يستوي على سوقه كالشجر . وسواء كان هذا أم كان ذاك فإن مدى الإشارة في النص واحد . ينتهي إلى حقيقة اتجاه هذا الكون وارتباطه .
والكون خليقة حية ذات روح . روح يختلف مظهرها وشكلها ودرجتها من كائن إلى كائن . ولكنها في حقيقتها واحدة .
ولقد أدرك القلب البشري منذ عهود بعيدة حقيقة هذه الحياة السارية في الكون كله . وحقيقة اتجاه روحه إلى خالقه . أدركها بالإلهام اللدني فيه . ولكنها كانت تغيم عليه ، وتتوارى عنه كلما حاول اقتناصها بعقله المقيد بتجارب الحواس !
ولقد استطاع أخيرا أن يصل إلى أطراف قريبة من حقيقة الوحدة في بناء الكون . ولكنه لا يزال بعيدا عن الوصول إلى حقيقة روحه الحية عن هذا الطريق !
والعلم يميل اليوم إلى افتراض أن الذرة هي وحدة بناء الكون ؛ وأنها في حقيقتها مجرد إشعاع . وأن الحركة هي قاعدة الكون ، والخاصية المشتركة بين جميع أفراده .
فإلى أين يتجه الكون بحركته التي هي قاعدته وخاصيته ?
القرآن يقول : إنه يتجه إلى مبدعه بحركة روحه - وهي الحركة الأصلية فحركة ظاهره لا تكون إلا تعبيرا عن حركة روحه - وهي الحركة التي تمثلها في القرآن آيات كثيرة منها هذه : ( والنجم والشجر يسجدان ) . . ومنها ( تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن وإن من شيء إلا يسبح بحمده ، ولكن لا تفقهون تسبيحهم ) . . ومنها : ( ألم تر أن الله يسبح له من في السماوات والأرض والطير صافات . كل قد علم صلاته وتسبيحه ) . .
وتأمل هذه الحقيقة ، ومتابعة الكون في عبادته وتسبيحه ، مما يمنح القلب البشري متاعا عجيبا ، وهو يشعر بكل ما حوله حيا يعاطفه ويتجه معه إلى خالقه وهو في وقفته بين أرواح الأشياء كلها ، وهي تدب فيها جميعا ، وتحيلها إخوانا له ورفقاء !
" والنجم والشجر يسجدان " قال ابن عباس وغيره : النجم ما لا ساق له والشجر ما له ساق ، وأنشد ابن عباس قول صفوان بن أسد التميمي :
لقد أَنْجَمَ القاعُ الكبيرُ عِضَاهَهُ *** وتَمّ بِهِ حيَّا تميم ووائلِ
مُكَلَّلٌ بأصولِ النَّجْمِ تَنْسِجُهُ *** ريحُ الجَنُوبِ لضَاحِي مائه حُبُكُ
واشتقاق النجم من نجم الشيء ينجم بالضم نجوما ظهر وطلع ، وسجودهما بسجود ظلالهما{[14506]} ، قاله الضحاك . وقال الفراء : سجودهما أنهما يستقبلان الشمس إذا طلعت ثم يميلان معها حتى ينكسر الفيء . وقال الزجاج : سجودهما دوران الظل معهما ، كما قال تعالى : " يتفيأ ظلاله{[14507]} " [ النحل : 48 ] . وقال الحسن ومجاهد : النجم نجم السماء ، وسجوده في قول مجاهد دوران ظله ، وهو اختيار الطبري ، حكاه المهدوي . وقيل : سجود النجم أفوله ، وسجود الشجر إمكان الاجتناء لثمرها ، حكاه الماوردي . وقيل : إن جميع ذلك مسخر لله ، فلا تعبدوا النجم كما عبد قوم من الصابئين النجوم ، وعبد كثير من العجم الشجر . والسجود الخضوع ، والمعني به آثار الحدوث ، حكاه القشيري . النحاس : أصل السجود في اللغة الاستسلام والانقياد لله عز وجل ، فهو من الموات كلها استسلامها لأمر الله عز وجل وانقيادها له ، ومن الحيوان كذلك ويكون من سجود الصلاة ، وأنشد محمد بن يزيد في النجم بمعنى النجوم قال{[14508]} :
فباتت تَعُدُّ النجم في مُسْتَحِيرَةٍ *** سريعٍ بأيدي الآكلين جُمُودُهَا