ثم ينتقل إلى الفلك التي تجري في البحار ، كأنها لضخامتها الجبال :
( وله الجواري المنشآت في البحر كالأعلام . . )
ويجعل هذه الجواري المنشآت( له )سبحانه وتعالى . فهي تجري بقدرته . ولا يحفظها في خضم البحر وثبج الموج إلا حفظه ولا يقرها على سطحه المتماوج إلا كلاءته . فهي له سبحانه . وقد كانت - وما تزال - من أضخم النعم التي من الله بها على العباد ، فيسرت لهم من أسباب الحياة والانتقال والرفاهية والكسب ما هو جدير بأن يذكر ولا ينكر .
الأعلام : الجبال ، واحدها علم ، وهو الجبل العالي .
24 ، 25- { وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآَتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ * فَبِأَيِّ آَلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } .
ولله تعالى الفضل والمنّة في تسخير الماء والهواء ، لتجري السفن الكبيرة التي تشبه الجبال في عظمتها فاردة قلاعها ، تسبح جارية فوق سطح الماء ، تنقل التجارة والأفراد من بلد إلى آخر ، للسياحة والتجارة ، والتأمل في خلق الله .
وأصول الأشياء أربعة : التراب والماء والهواء والنار ، فمن التراب خلق الإنسان ، ومن النار خُلق الجان ، ومن الماء نأكل السمك ونستخرج الحلي ، وبالهواء تسير السفن بفضل الله ، تجري على الماء وتيسِّر التجارة والسياحة والانتقال ، فبأي هذه النعم المتعددة ، يا معشر الجن والإنس ، تكذبان ؟
{ 24-25 } { وَلَهُ الْجَوَارِي الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ * فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ }
أي : وسخر تعالى لعباده السفن الجواري ، التي تمخر البحر وتشقه بإذن الله ، التي ينشئها الآدميون ، فتكون من كبرها وعظمها كالأعلام ، وهي الجبال العظيمة ، فيركبها الناس ، ويحملون عليها أمتعتهم وأنواع تجاراتهم ، وغير ذلك مما تدعو إليه حاجتهم وضرورتهم ، وقد حفظها حافظ السماوات والأرض .
قوله تعالى : { فبأي آلاء ربكما تكذبان وله الجوار } السفن الكبار ، { المنشآت } وقرأ حمزة وأبو بكر : المنشئات بكسر الشين ، أي : المنشئات للسير يعني اللاتي ابتدأن وأنشأن السير . وقرأ الآخرون بفتح الشين ، أي المرفوعات ، وهي التي رفع خشبها بعضها على بعض . وقيل : هي ما رفع قلعه من السفن وأما ما لم يرفع قلعه فليس من المنشئات . وقيل : المخلوقات المسخرات ، { في البحر كالأعلام } كالجبال جمع علم وهو الجبل الطويل ، شبه السفن في البحر ، بالجبال في البر .
قوله تعالى : " وله الجوار " يعني السفن . " المنشآت في البحر " قراءة العامة " المنشآت " بفتح الشين ، قال قتادة : أي المخلوقات للجري مأخوذ من الإنشاء . وقال مجاهد : هي السفن التي رفع قلعها ، قال : وإذا لم يرفع قلعها فليست بمنشآت . وقال الأخفش : إنها المجريات . وفي الحديث : أن عليا رضي الله عنه رأى سفنا مقلعة ، فقال : ورب هذه الجواري المنشآت ما قتلت عثمان ولا مالأت في قتله . وقرأ حمزة وأبو بكر عن عاصم باختلاف عنه " المنشئات " بكسر الشين أي المنشئات السير ، أضيف الفعل إليها على التجوز والاتساع . وقيل : الرافعات الشرع أي القلع . ومن فتح الشين قال : المرفوعات الشرع . " كالأعلام " أي كالجبال ، والعلم الجبل الطويل ، قال{[14538]} :
إذا قَطَعْنَ علَمًا بدا عَلَمْ
فالسفن في البحر كالجبال في البر ، وقد مضى في " الشورى " بيانه{[14539]} . وقرأ يعقوب " الجواري " بياء في الوقف ، وحذف الباقون .
ولما كان قد ذكر الخارج منه بماء السماء ، ذكر السائر عليه{[61888]} بالهواء ، وأشار بتقديم الجار إلى أن السائر في الفلك لا تصريف له ، وإن ظهر له تصريف فهو لضعفه كلا تصريف ، فقال : { وله } أي لا لغيره ، فلا تغتروا بالأسباب الظاهرة فتقفوا معها فتسندوا شيئاً من ذلك إليها كما وقف أهل الاغترار بالشاهد ، الذين هم أجمد أهل الأرض أذهاناً وأحقرهم شأناً فقالوا بالاتحاد والوحدة { الجوار } أي السفن الكبار والصغار الفارغة والمشحونة . ولما كانت حياة كل شيء كونه على صفة كماله ، وكانت السفن تبنى من خشب مجمع وتوصل حتى تصير على هيئة تقبل المنافع الجمة ، وكانت تربى بذلك الجمع كما تربى النبات والحيوان ، وكانت ترتفع على البحر ويرفع شراعها وتحدث في البحر بعد أن كانت مستترة بجبال الأمواج{[61889]} قال تعالى : { المنشآت } من نشأ - إذا حي وربا ، والسحابة : ارتفعت ، وأصل الناشئ كل ما حدث بالليل وبدأ ، ومعنى قراءة حمزة{[61890]} وأبي بكر بكسر الشين أنها رافعة شراعها بسبب استمساكها عن الرسوب ومنشئة للسير ، ومعنى قراءة الباقين أنه أنشأها الصانع وأرسلها ورفع شراعها .
ولما كانت مع كونها عالية على الماء منغمسة فيه مع أنه ليس لها من نفسها إلا الرسوب والغوص قال : { في البحر } ولما كانت ترى على البعد كالجبال على وجه الماء قال : { كالأعلام * } أي كالجبال الطوال .