اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَلَهُ ٱلۡجَوَارِ ٱلۡمُنشَـَٔاتُ فِي ٱلۡبَحۡرِ كَٱلۡأَعۡلَٰمِ} (24)

قوله : «المُنشآتُ » .

قرأ حمزة{[54431]} ، وأبو بكر بخلاف عنه بكسر الشِّين ، بمعنى أنها تنشىء الموج بجريها ، أو تنشىء السير إقْبَالاً وإدباراً ، أو التي رفعت شراعها ، والشِّراع : القلاع .

وعن مجاهد : كل ما رفعت قلعها فهي من المنشآت ، وإلا فليست منها ونسبة الرَّفع إليها مجاز{[54432]} ، كما يقال : أنشأت السَّحابة المطر .

والباقون : بالفتح ، وهو اسم مفعول ، أي أنشأها الله ، أو الناس ، أو رفعوا شراعها{[54433]} .

وقرأ ابن أبي عبلة{[54434]} : «المُنَشَّآت » بتشديد الشين مبالغة .

والحسن : «المُنشَّأة » بالإفراد وإبدال الهمزة ألفاً وتاء محذوفة خطاً ، فأفرد الصفة ثقة بإفهام الموصوف الجمعية ، كقوله : { وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ } [ آل عمران : 15 ] .

وأما إبداله الهمزة ألفاً وإن كان قياسها بين بين ، فمبالغة في التخفيف .

كقوله : [ البسيط ]

إنَّ السِّباعَ لَتَهْدَا فِي مَرَابِضِهَا *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . {[54435]}

أي : «لتهدأ » وأما كتابتها بإلقاء المحذوفة ، فاتباعاً للفظها في الوصل .

و«في البَحْر » متعلق ب «المنشآت » أو «المنشأة » ، ورسمه بالتاء بعد الشين في مصاحف «العراق » يقوي قرءاة الكسر ، ورسمه بدونها يقوي قراءة الفتح ، وحذفوا الألف كما تحذف في سائر جمع المؤنث السالم .

و«كالأعلام » حال ، إما من الضمير المستكنّ في «المنشآت » ، وإما من «الجواري » وكلاهما بمعنى واحد{[54436]} .

فصل في المراد بالجواري{[54437]}

«الجَوَارِي » جمع جارية . وهي اسم أو صفة للسفينة ، وخصها بالذكر ؛ لأن جريها في البحر لا صنع للبشر فيه ، وهم معترفون بذلك ، فيقولون : «لك الفُلْك ، ولك المُلْك » .

وإذا خافوا الغرقَ دعوا الله خاصة ، وسميت السفينة جارية ؛ لأن شأنها ذلك وإن كانت واقفةً في السَّاحل كما سماها في موضع آخر ب «الجارية » ، فقال تعالى : { إِنَّا لَمَّا طَغَا المآء حَمَلْنَاكُمْ فِي الجارية } [ الحاقة : 11 ] .

وسماها بالفلك قبل أن تكون كذلك ، فقال لنوح عليه الصلاة والسلام : { واصنع الفلك بِأَعْيُنِنَا } [ هود : 37 ] ثم بعد ما عملها سمَّاها سفينة ، فقال : { فأَنْجَيْناهُ وأَصْحَابَ السفينة } [ العنكبوت : 15 ] .

واعلم أن المرأة المملوكة تسمى أيضاً جارية ؛ لأن شأنها الجري والسعي في حوائج سيدها ، بخلاف الزَّوجة ، فهو من الصفات الغالبة .

و«السفينة » : «فعيلة » بمعنى «فاعلة » عند ابن دريد ، أي : تسفن الماء و«فَعِيلَة » بمعنى «مفعولة » عند غيره بمعنى منحوتة ، قال ابن الخطيب{[54438]} : فالفُلك أولاً ، ثم السفينة ، ثم الجارية .

والأعلام : الجبال ، والعلم : الطويل ، قال : [ الرجز ]

إذَا قطعْنَ علماً بَدَا عَلَمْ{[54439]} *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وقالت الخنساء في صخر : [ البسيط ]

وإنَّ صَخْراً لتَأتَمُّ الهُدَاةُ بِهِ *** كَأنَّهُ علمٌ فِي رَأسِهِ نَارُ{[54440]}

أي «جبل » ، فالسفن في البحر كالجبال في البر .

وجمع «الجواري » ووحد «البحر » ، وجمع «الأعلام » إشارة إلى عظمةِ البحر .


[54431]:ينظر: السبعة 620، والحجة 6/248، وإعراب القراءات 2/337، والعنوان 184، وحجة القراءات 691، وشرح الطيبة 6/30، وشرح شعلة 593، وإتحاف 2/510.
[54432]:أخرجه الطبري في "تفسيره" وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (6/196) وزاد نسبته إلى الفريابي وعبد بن حميد.
[54433]:ينظر: البحر المحيط 8/191، والدر المصون 6/241.
[54434]:ينظر: السابق.
[54435]:صدر بيت لإبراهيم بن هرمة وعجزه: ..................... *** والناس ليس بهاد شرهم أبدا ينظر الخصائص 3/152، والضرائر لابن عصفور 229، واللسان هدأ. وديوان ابن هرمة ص 96. والدر المصون 6/241.
[54436]:ينظر: الدر المصون 6/241.
[54437]:ينظر: تفسير الرازي 29/91.
[54438]:ينظر السابق.
[54439]:صدر بيت لجرير بن عطية وعجزه: ................... *** فهن بحثا كمضلات الخدم ينظر مجاز القرآن 2/244، ومعاني القرآن وإعرابه للزجاج 5/101، وشرح ديوان جرير ص 622، والطبراني 27/78، والقرطبي 17/107، واللسان (علم).
[54440]:تقدم.