ولكنه لا يدعهم حتى يبين لهم مصيرهم الذي ينتظرهم وينتظر أمثالهم وفق سنة الله الماضية أبدا في المكذبين والبغاة :
( إن الذين يكفرون بآيات الله ، ويقتلون النبيين بغير حق ، ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس ، فبشرهم بعذاب أليم ) .
فهذا هو المصير المحتوم : عذاب اليم . لا يحدده بالدنيا أو بالآخرة . فهو متوقع هنا وهناك .
{ إِنّ الّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَيَقْتُلُونَ النّبِيّينَ بِغَيْرِ حَقّ وَيَقْتُلُونَ الّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النّاسِ فَبَشّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * أُولََئِكَ الّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدّنْيَا وَالاَخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مّن نّاصِرِينَ }
يعني بذلك جلّ ثناؤه : { إنّ الّذِينَ يَكْفُرُونَ بآياتِ اللّهِ } أي يجحدون حجج الله وأعلامه فيكذّبون بها من أهل الكتابين التوراة والإنجيل . كما :
حدثني ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن محمد بن جعفر بن الزبير ، قال : ثم جمع أهل الكتابين جميعا ، وذكر ما أحدثوا وابتدعوا من اليهود والنصارى ، فقال : { إنّ الّذِينَ يَكْفُرُونَ بآياتِ اللّهِ وَيَقْتُلُونَ النّبِيّينَ بِغَيْرِ حَقّ } إلى قوله : { قُلِ اللّهُمّ مالِكَ المُلْكِ تُؤْتِي المُلْكَ مَنْ تَشاءُ } .
وأما قوله : { وَيَقْتُلُوُنَ النّبِيّينَ بِغَيْرِ حَقّ } فإنه يعني بذلك أنهم كانوا يقتلون رسل الله الذين كانوا يرسلون إليهم بالنهي عما يأتون من معاصي الله ، وركوب ما كانوا يركبونه من الأمور التي قد تقدم الله إليهم في كتبهم بالزجر عنها ، نحو زكريا وابنه يحيى وما أشبههما من أنبياء الله .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَيَقْتُلُونَ الّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النّاسِ } .
اختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأه عامة أهل المدينة والحجاز والبصرة والكوفة وسائر قرّاء الأمصار : { وَيَقْتُلُونَ الّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ } بمعنى القتل . وقرأه بعض المتأخرين من قرّاء الكوفة : «ويقاتلون » ، بمعنى القتال تأوّلاً منه قراءة عبد الله بن مسعود ، وادّعى أن ذلك في مصحف عبد الله : «وقاتلوا » ، فقرأ الذي وصفنا أمره من القراء بذلك التأويل «ويقاتلون » .
والصواب من القراءة في ذلك عندنا ، قراءة من قرأه : { وَيَقْتُلُونَ } لإجماع الحجة من القراء عليه به ، مع مجيء التأويل من أهل التأويل بأن ذلك تأويله . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن معقل بن أبي مسكين في قوله الله صلى الله عليه وسلم : { وَيَقْتُلُونَ الّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النّاسِ } قال : كان الوحي يأتي إلى بني إسرائيل فيذكّرون ، ولم يكن يأتيهم كتاب ، فيُقتَلون ، فيقوم رجال ممن اتبعهم وصدّقهم ، فيذكّرون قومهم فيقتلون ، فهم الذين يأمرون بالقسط من الناس .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن قتادة في قوله : { وَيَقْتُلُونَ النّبِيّينَ بِغَيْرِ حَقّ وَيَقْتُلُونَ الّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النّاسِ } قال : هؤلاء أهل الكتاب ، كان أتباع الأنبياء ينهونهم ويذكرونهم فيقتلونهم .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، قال : قال ابن جريج في قوله : { إنّ الّذِينَ يَكْفُرُونَ بآياتِ اللّهِ وَيَقْتُلُونَ النّبِيّينَ بِغَيْرِ حَقّ وَيَقْتُلُونَ الّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النّاسِ } قال : كان ناس من بني إسرائيل ممن لم يقرأ الكتاب كان الوحي يأتي إليهم ، فيذكّرون قومهم فيقتلون على ذلك ، فهم الذين يأمرون بالقسط من الناس .
حدثني أبو عبيد الرصافي محمد بن جعفر ، قال : حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا أبو الحسن مولى بني أسد ، عن مكحول ، عن قبيصة بن ذؤيب الخزاعي ، عن أبي عبيدة بن الجرّاح ، قال : قلت يا رسول الله ، أيّ الناس أشدّ عذابا يوم القيامة ؟ قال : «رَجُلٌ قَتَلَ نَبِيّا ، أوْ رَجُلٌ أمَرَ بالمُنْكَرِ وَنَهَى عَنِ المَعْرُوفِ » . ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم : «الّذِينَ يَقْتُلُونَ النّبِيّينَ بِغَيْرِ حَقّ وَيَقْتُلُونَ الّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النّاسِ » إلى أن انتهى إلى : { وَما لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ } . ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «يا أبا عُبَيْدَةَ قَتَلَتْ بَنُو إسْرَائِيلَ ثَلاَثَةً وَأرْبَعِينَ نَبِيّا مِنْ أَوّلِ النّهارِ فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةً ، فَقَامَ مِائَةُ رَجُلٍ وَاثْنَا عَشَرَ رَجُلاً مِنْ عُبّادِ بَنِي إسْرَائِيلَ ، فأمَرُوا مَنْ قَتَلَهُمْ بِالمَعْرُوفِ وَنَهَوْهُمْ عَنِ المُنْكَرِ فَقُتِلُوا جَمِيعا مِنْ آخِرِ النّهَارِ فِي ذَلِكَ اليَوْمِ ، وَهُمُ الّذِينَ ذَكَرَ اللّهُ عَزّ وَجَلّ » .
فتأويل الاَية إذا : إن الذين يكفرون بآيات الله ، ويقتلون النبيين بغير حقّ ، ويقتلون آمريهم بالعدل في أمر الله ونهيه ، الذين ينهونهم عن قتل أنبياء الله وركوب معاصيه .
القول في تأويل قوله تعالى : { فَبَشّرْهُمْ بِعَذَابٍ ألِيمٍ أُولَئِكَ الّذِينَ حَبِطَتْ أعْمَالُهُمْ فِي الدّنْيا وَالاَخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ } .
يعني بقوله جلّ ثناؤه : { فَبَشّرْهُمْ بِعَذَابٍ ألِيمٍ } فأخبرهم يا محمد ، وأعلمهم أن لهم عند الله عذابا مؤلما لهم ، وهو الموجع .
{ إن الذين يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير حق ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس فبشرهم بعذاب أليم } هم أهل الكتاب الذين في عصره عليه السلام . قتل أولهم الأنبياء ومتابعيهم وهم رضوا به وقصدوا قتل النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين ولكن الله عصمهم ، وقد سبق مثله في سورة البقرة . وقرأ حمزة " ويقاتلون الذين " . وقد منع سيبويه إدخال الفاء في خبر إن كليت ولعل ولذلك قيل الخبر .
قال محمد بن جعفر بن الزبير وغيره : إن هذه الآية في اليهود والنصارى .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : وتعم كل من كان بهذه الحال ، والآية توبيخ للمعاصرين لرسول الله صلى الله عليه وسلم بمساوىء أسلافهم وببقائهم أنفسهم على فعل ما أمكنهم من تلك المساوىء لأنهم كانوا حرصى{[3046]} على قتل محمد عليه السلام ، وروي أن بني إسرائيل قتلوا في يوم واحد سبعين نبياً وقامت سوق البقل بعد ذلك{[3047]} ، وروى أبو عبيدة بن الجراح عن النبي عليه السلام : أنهم قتلوا ثلاثة وأربعين نبياً فاجتمع من خيارهم وأحبارهم مائة وعشرون ليغيروا وينكروا فقتلوا أجمعين كل ذلك في يوم واحد{[3048]} وذلك معنى قوله تعالى : { ويقتلون الذين يأمرون بالقسط } وقوله تعالى : { بغير حق } مبالغة في التحرير للذنب إذ في الإمكان{[3049]} أن يقتضي ذلك أمر الله تعالى بوجه ما من تكرمة نبي أوغير ذلك ، وعلى هذا المعنى تجيء أفعل من كذا إذا كان فيها شياع{[3050]} مثل أحب وخير وأفضل ونحوه مقولة من شيئين ظاهرهما الاشتراك{[3051]} بينهما .
وقرأ جمهور الناس : «ويقتلون الذين » وقرأ حمزة وجماعة من غير السبعة «ويقاتلون الذين » وفي مصحف ابن مسعود «وقاتلوا الذين » ، وقرأها الأعمش ، وكلها متوجهة وأبينها قراءة الجمهور ، والقسط العدل ، وجاءت البشارة بالعذاب من حيث نص عليه وإذا جاءت البشارة مطلقة فمجملها فيما يستحسن ، ودخلت الفاء في قوله : { فبشرهم } لما في الذي من معنى الشرط في هذا الموضع فذلك بمنزلة قولك : الذي يفعل كذا فله إذا أردت أن ذلك إنما يكون له بسبب فعله الشيء الآخر فيكون الفعل في صلتها وتكون بحيث لم يدخل عليها عامل يغير معناها كليت ولعل ، وهذا المعنى نص في كتاب سيبويه في باب ترجمة هذا باب الحروف التي تتنزل منزلة الأمر والنهي لأن فيها معنى الأمر والنهي{[3052]} .