وهذا التمني بناء على ذلك المزعج ، وليس في هذه الأمنية خير لها ولا مصلحة ، وإنما الخير والمصلحة بتقدير ما حصل .
فحينئذ سكن الملك روعها وثبت جأشها وناداها من تحتها ، لعله في مكان أنزل من مكانها ، وقال لها : لا تحزني ، أي : لا تجزعي ولا تهتمي ، ف { قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا ْ } أي : نهرا تشربين منه .
ضمير الرفع المستتر في ( ناداها ) عائد إلى ما عاد عليه الضمير الغائب في { فحملته } [ مريم : 22 ] ، أي : ناداها المولود .
قرأ نافع ، وحمزة ، والكسائي ، وحفص ، وأبو جعفر ، وخلف ، وروح عن يعقوب { مِنْ تَحتها } بكسر ميم ( من ) على أنها حرف ابتداء متعلّق ب ( ناداها ) وبجر { تَحتها } .
وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وأبو بكر عن عاصم ، ورويس عن يعقوب { مَنْ } بفتح الميم على أنها اسم موصول ، وفتح { تَحْتَهَا } على أنه ظرف جعل صلة ، والمعني بالموصول هو الغلام الذي تحتها . وهذا إرهاص لعيسى وكرامة لأمّه عليهما السلام .
وقَيْدُ { من تحتها } لتحقيق ذلك ، ولإفادة أنه ناداها عند وضعه قبل أن ترفعه مبادرة للتسلية والبشارة وتصويراً لتلك الحالة التي هي حالة تمام اتّصال الصبي بأمه .
و { أنَّ من قوله ألاَّ تَحْزَني } تفسيرية لفعل ( ناداها ) .
وجملة { قَدْ جَعلَ رَبُّكِ تحتك سَرِيّاً } خبر مراد به التعليل لجملة { ألاَّ تحزني } ، أي أن حالتك حالة جديرة بالمسرة دون الحزن لما فيها من الكرامة الإلهية .
السرّي : الجدول من الماء كالساقية ، كثير الماء الجاري .
وهبَها الله طعاماً طيّباً وشراباً طيّباً كرامة لها يشهدها كل من يراها ، وكان معها خطيبها يوسف النجار ، ومن عسى أن يشهدها فيكون شاهداً بعصمتها وبراءتها مما يظن بها . فأما الماء فلأنه لم يكن الشأن أن تأوي إلى مجرى ماء لتضع عنده . وأما الرُطب فقيل كان الوقت شتاء ، ولم يكن إبان رطب وكان جذع النخلة جذع نخلة ميتة فسقوط الرطب منها خارق للعادة . وإنما أعطيت رُطباً دون التمر لأنّ الرطب أشهى للنفس إذ هو كالفاكهة وأما التمر فغذاء .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{فناداها} جبريل، عليه السلام، {من تحتها}، يعنى من أسفل منها في الأرض، وهي فوقه على رابية، وجبريل عليه السلام، يناديها بهذا الكلام: {ألا تحزني}، ذلك حين تمنت الموت، {قد جعل ربك تحتك سريا}، يعني: الجدول الصغير من الأنهار.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
اختلفت القرّاء في قراءة ذلك؛ فقرأته عامة قرّاء الحجاز والعراق "فَنادَاها مِنْ تَحْتِها "بمعنى: فناداها جبرائيل من بين يديها على اختلاف منهم في تأويله؛ فمن متأوّل منهم إذا قرأه "مِنْ تحْتِها" كذلك ومن متأوّل منهم أنه عيسى، وأنه ناداها من تحتها بعد ما ولدته. وقرأ ذلك بعض قرّاء أهل الكوفة والبصرة: «فَنادَاها مَنْ تَحْتَها» بفتح التاءين من تحت، بمعنى: فناداها الذي تحتها، على أن الذي تحتها عيسى، وأنه الذي نادى أمه... وأولى القولين في ذلك عندنا قول من قال: الذي ناداها ابنها عيسى، وذلك أنه من كناية ذكره أقرب منه من ذكر جبرائيل، فردّه على الذي هو أقرب إليه أولى من ردّه على الذي هو أبعد منه، ألا ترى في سياق قوله "فحَمَلَتْهُ فانْتَبَذَتْ بِهِ مَكانا قَصِيّا" يعني به: فحملت عيسى فانتبذت به، ثم قيل: "فناداها" نسقا على ذلك من ذكر عيسى والخبر عنه. ولعلة أخرى، وهي قوله: "فأشارَتْ إلَيْهِ" ولم تشر إليه إن شاء الله إلا وقد علمت أنه ناطق في حاله تلك، وللذي كانت قد عرفت ووثقت به منه بمخاطبته إياها بقوله لها: "أنْ لا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبّكِ تَحْتَكِ سَرِيّا" وما أخبر الله عنه أنه قال لها أشيري للقوم إليه، ولو كان ذلك قولاً من جبرائيل لكان خليقا أن يكون في ظاهر الخبر، مبينا أن عيسى سينطق، ويحتجّ عنها للقوم، وأمر منه لها بأن تشير إليه للقوم إذا سألوها عن حالها وحاله.
فإذا كان ذلك هو الصواب من التأويل الذي بيّنا، فبين أن كلتا القراءتين، أعني مِنْ تَحْتِها بالكسر، و« مَنْ تَحْتَها» بالفتح صواب. وذلك أنه إذا قرئ بالكسر كان في قوله فَنادَاها ذكر من عيسى: وإذا قرئ "مَنْ تَحْتَها" بالفتح كان الفعل لمن وهو عيسى. فتأويل الكلام إذن: فناداها المولد من تحتها أن لا تحزني يا أمه "قَدْ جَعَلَ رَبّكِ تَحْتَكِ سَرِيّا"...
واختلف أهل التأويل في المعنيّ بالسريّ في هذا الموضع؛
فقال بعضهم: عني به: النهر الصغير... عن البراء بن عازب "قَدْ جَعَلَ رَبّكِ تَحْتَكِ سَرِيّا" قال: الجدول...
وقال آخرون: عنى به عيسى... وأولى القولين في ذلك عندي بالصواب قيل من قال: عنى به الجدول، وذلك أنه أعلمها ما قد أعطاها الله من الماء الذي جعله عندها، وقال لها "وَهُزّي إلَيْكِ بِجِذْعِ النّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَبا جَنِيّا فَكُلِي" من هذا الرطب "وَاشْرَبِي" من هذا الماء "وَقَرّي عَيْنا" بولدك...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
فإن قلت: ما كان حزنها لفقد الطعام والشراب حتى تسلى بالسري والرطب؟ قلت: لم تقع التسلية بهما من حيث أنهما طعام وشراب، ولكن من حيث أنهما معجزتان تريان الناس أنها من أهل العصمة والبعد من الريبة، وأن مثلها مما قرفوها به بمعزل، وأن لها أموراً إلهية خارجة عن العادات خارقة لما ألفوا واعتادوا، حتى يتبين لهم أنّ ولادها من غير فحل ليس ببدع من شأنها...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{فناداها من تحتها} وهو عيسى عليه السلام {ألا تحزني}... فكأنها قالت: لم لا أحزن؟ وتوقعت ما يعلل به؟ قال: {قد جعل ربك} أي المحسن إليك {تحتك} في هذه الأرض التي لا ماء جارياً بها {سرياً} جدولاً من الماء جليلاً آية لك تطيب نفسك.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وفي حدة الألم وغمرة الهول تقع المفاجأة الكبرى: (فناداها من تحتها ألا تحزني قد جعل ربك تحتك سريا. وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا. فكلي واشربي وقري عينا، فإما ترين من البشر أحدا فقولي: إني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا). يالله! طفل ولد اللحظة يناديها من تحتها. يطمئن قلبها ويصلها بربها، ويرشدها إلى طعامها وشرابها. ويدلها على حجتها وبرهانها! لا تحزني.. (قد جعل ربك تحتك سريا) فلم ينسك ولم يتركك، بل أجرى لك تحت قدميك جدولا ساريا -الأرجح أنه جرى للحظته من ينبوع أو تدفق من مسيل ماء في الجبل –...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
ضمير الرفع المستتر في (ناداها) عائد إلى ما عاد عليه الضمير الغائب في {فحملته} [مريم: 22]، أي: ناداها المولود... وهذا إرهاص لعيسى وكرامة لأمّه عليهما السلام.
وقَيْدُ {من تحتها} لتحقيق ذلك، ولإفادة أنه ناداها عند وضعه قبل أن ترفعه مبادرة للتسلية والبشارة وتصويراً لتلك الحالة التي هي حالة تمام اتّصال الصبي بأمه.
و {أنَّ من قوله ألاَّ تَحْزَني} تفسيرية لفعل (ناداها).
وجملة {قَدْ جَعلَ رَبُّكِ تحتك سَرِيّاً} خبر مراد به التعليل لجملة {ألاَّ تحزني}، أي أن حالتك حالة جديرة بالمسرة دون الحزن لما فيها من الكرامة الإلهية.
السرّي: الجدول من الماء كالساقية، كثير الماء الجاري.
وهبَها الله طعاماً طيّباً وشراباً طيّباً كرامة لها يشهدها كل من يراها، وكان معها خطيبها يوسف النجار، ومن عسى أن يشهدها فيكون شاهداً بعصمتها وبراءتها مما يظن بها. فأما الماء فلأنه لم يكن الشأن أن تأوي إلى مجرى ماء لتضع عنده. وأما الرُطب فقيل كان الوقت شتاء، ولم يكن إبان رطب وكان جذع النخلة جذع نخلة ميتة فسقوط الرطب منها خارق للعادة. وإنما أعطيت رُطباً دون التمر لأنّ الرطب أشهى للنفس إذ هو كالفاكهة وأما التمر فغذاء.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
وخلاصة الأمر، إنّكِ لا تحتاجين إلى الدفاع عن نفسك، فإِنّ الذي وهبك هذا الوليد قد تعهد بمهمّة الدفاع عنك أيضاً، وعلى هذا فليهدأ روعك من كل الجهات، ولا تدعي للهم طريقاً إلى نفسك. إِن هذه الحوادث المتلاحقة التي سطعت كالشرر المضيء الوهاج في الظلام الدامس، قد أضاءت كل أرجاء قلبها، وألقت عليها الهدوء والاطمئنان...