قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو «عاقبةُ » بالرفع على اسم { كان } والخبر يجوز أن يكون { السوأى } ويجوز أن يكون { أن كذبوا } وتكون { السوأى } على هذا مفعولاً ب { أساءوا } وإذا كان { السوأى } خبراً ف { أن كذبوا } مفعول من أجله ولا يصح تعلقه ب { أساءوا } لأن في ذلك فصلاً بين الصلة والموصول بخبر { كان } ، وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي «عاقبةَ » بالنصب على أنها خبر مقدم واسم { كان } أحد ما تقدم ، و { السوأى } مصدر كالرجعى والفتيا والشورى ، ويجوز أن تكون صفة لمحذوف تقديره الخلة السوأى أو الخلال السوأى قال أبو حاتم هذه قراءة العامة بالمد على الواو وفتح الهمزة وياء التأنيث فبعض القراء فخم وبعضهم أمال ، وقرأ الحسن «السوّى » بشد الواو دون همز ، وقرأ الأعمش وابن مسعود «السوء » بالتذكير ، وروي عن عثمان بن عفان رضي الله عنه أنه قال «السوء والسوأى » اقرأ بما شئت ، قال ابن عباس { أساءوا } هنا بمعنى كفروا و { السوأى } هي النار والتكذيب { بآيات الله } ، تعالى غير الاستهزاء بها فلذلك عدد عليهم الفعلين .
{ ثم } للتراخي الرتبي لأن هذه العاقبة أعظم رتبة في السوء من عذاب الدنيا ، فيجوز أن يكون هذا الكلام تذييلاً لحكاية ما حلّ بالأمم السالفة من قوله { كيف كان عاقبة الذين من قبلهم } [ الروم : 9 ] .
والمعنى : ثم عاقبةُ كل من أساءوا السوأى مثلَهم ، فيكون تعريضاً بالتهديد لمشركي العرب كقوله تعالى { دمّر الله عليهم وللكافرين أمثالها } [ محمد : 10 ] ، فالمراد ب { الذين أساءوا } كل مسيىء من جنس تلك الإساءة وهي الشرك . ويجوز أن يكون إنذاراً لمشركي العرب المتحدث عنهم من قوله { ولكن أكثر الناس لا يعلمون } [ الروم : 6 ] فيكونوا المراد ب { الذين أساءوا } ، ويكون إظهاراً في مقام الإضمار على خلاف مقتضى الظاهر لقصد الإيماء بالصِلة ، أي أن سبب عاقبتهم السوأى هو إساءتهم ، وأصل الكلام : ثم كان عاقبتهم السوأى . وهذا إنذار بعد الموعظة ونص بعد القياس ، فإن الله وعظ المكذبين للرسول صلى الله عليه وسلم بعواقب الأمم التي كذبت رسلها ليكونوا على حذر من مثل تلك العاقبة بحكم قياس التمثيل ، ثم أعقب تلك الموعظة بالنذارة بأنهم ستكون لهم مثل تلك العاقبة ، وأوقع فعل { كان } الماضي في موقع المضارع للتنبيه على تحقيق وقوعه مثل { أتى أمر الله } [ النحل : 1 ] إتماماً للنذارة .
والعاقبة : الحالة الأخيرة التي تعقب حالة قبلها . وتقدمت في قوله : { ثم انظروا كيف كان عاقبة المكذبين } في سورة الأنعام ( 11 ) ، وقوله : { والعاقبة للتقوى } في سورة طه ( 132 ) . { والذين أساءوا } هم كفار قريش ، والمراد { بآيات الله } القرآن ومعجزات الرسول .
والسوأى : تأنيث الأسَوإ ، أي الحالة الزائدة في الاتصاف بالسوء وهو أشد الشر ، كما أن الحسنى مؤنث الأحسن في قوله { للذين أحسنوا الحسنى } [ يونس : 26 ] . وتعريف { السوأى } تعريف الجنس إذ ليس ثمة عاقبة معهودة .
ويحتمل أن يراد ب { الذين أساءوا } الأمم الذين أثاروا الأرض وعمروها فتكون من وضع الظاهر موضع المضمر توسلاً إلى الحكم عليهم بأنهم أساءوا واستحقوا السوأى وهي جهنم . وفعل { كان } على ما هو عليه من التنبيه على تحقق الوقوع .
وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وأبو جعفر ويعقوب { عاقبةُ } بالرفع على أصل الترتيب بين اسم { كان وخبرها . وقرأه البقية بالنصب على أنه خبر كان مُقدم على اسمها وهو استعمال كثير . والفصل بين كان ومرفوعها بالخبر سوغ حذف تاء التأنيث من فعل كان .
و{ أن كذبوا } تعليل لكون عاقبتهم السوأى بحذف اللام مع { أنْ } و{ آيات الله } : القرآن والمعجزات .
والباء في { بها يستهزئون } للتعدية ، وتقديم المجرور للاهتمام بشأن الآيات ، وللرعاية على الفاصلة .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ثم كان عقبة الذين أساءوا} يعني أشركوا {السوأى} بعد العذاب في الدنيا {أن كذبوا بآيات الله} يعني بأن كذبوا بالعذاب أنه ليس بنازل بهم في الدنيا، {وكانوا بها} يعني العذاب {يستهزئون} تكذيبا به أنه لا يكون...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: ثم كان آخر أمر من كفر من هؤلاء الذين أثاروا الأرض وعمروها، وجاءتهم رسلهم بالبينات بالله، وكذّبوا رسلهم، فأساءوا بذلك في فعلهم. "السوأى": يعني الخلة التي هي أسوأ من فعلهم أما في الدنيا، فالبوار والهلاك، وأما في الآخرة فالنار لا يخرجون منها...
وقوله: "أنْ كَذّبُوا بآياتِ اللّهِ "يقول: كانت لهم السوأى، لأنهم كذّبوا في الدنيا بآيات الله، وكانوا بها يستهزءون: يقول: وكانوا بحجج الله وهم أنبياؤه ورسله يسخرون.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
جائز أن يكون على التقديم والتأخير: {ثم كان عاقبة الذين أساءوا السوأى} مقدما على قوله {فما كان الله ليظلمهم} يقول: ما حل بهم من العذاب، وعذبوا في هذه الدنيا بتكذيبهم، لم يظلمهم الله، ولكن ظلموا أنفسهم بما أساؤوا.
ويحتمل أن يكون قوله: {فما كان الله ليظلمهم} في تعذيبهم في الدنيا {ولكن كانوا أنفسهم يظلمون} ثم يكون قوله: {ثم كان عاقبة الذين أساءوا} في الدنيا {السوأى} في الآخرة، فيكون في الدنيا ما عذبوا تعذيب عناد ومكابرة، وما يعذبون في الآخرة تعذيب كفر وتكذيب.
{أساءوا السوأى} أي جهنم، السوأى: اسم من أسماء النار [كالعسرى والهاوية] ونحوهما.
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
وفي الفرق بين الإساءة والسوء وجهان:
أحدهما: أن الإساءة إنفاق العمر في الباطل، والسوء إنفاق رزقه في المعاصي.
الثاني: أن الإِساءَة فعل المسيء، والسوء الفعل مما يسوء.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
قيل: معنى الآية أنهم حفروا الأنهار وغرسوا الأشجار وشيدوا البنيان، وصاروا إلى الهلاك على أسوء حال بالعصيان ولم يفكروا في الموت، وأنهم يخرجون من الدنيا ويصيرون إلى الحساب والجزاء...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
و {السوأى} تأنيث الأسوأ وهو الأقبح، كما أنّ الحسنى تأنيث الأحسن. والمعنى: أنهم عوقبوا في الدنيا بالدمار، ثم كانت عاقبتهم سوأى... أي: العقوبة التي هي أسوأ العقوبات في الآخرة، وهي جهنم التي أعدّت للكافرين.
{أن كذبوا} قيل معناه كان عاقبتهم ذلك بسبب أنهم كذبوا، وقيل معناه أساءوا وكذبوا، فكذبوا يكون تفسيرا لأساءوا. وفي هذه الآية لطائف:
إحداها: قال في حق الذين أحسنوا: {للذين أحسنوا الحسنى} وقال في حق من أساء: {ثم كان عاقبة الذين أساؤوا السوأى} إشارة إلى أن الجنة لهم من ابتداء الأمر فإن الحسنى اسم الجنة والسوأى اسم النار، فإذا كانت الجنة لهم ومن الابتداء، ومن له شيء كلما يزداد وينمو فيه فهو له، لأن ملك الأصل يوجب ملك الثمرة، فالجنة من حيث خلقت تربو وتنمو للمحسنين، وأما الذين أساءوا، فالسوأى وهي جهنم في العاقبة مصيرهم إليها.
الثانية: ذكر الزيادة في حق المحسن ولم يذكر الزيادة في حق المسيء لأن جزاء سيئة سيئة مثلها.
الثالثة: لم يذكر في المحسن أن له الحسنى بأنه صدق، وذكر في المسيء أن له السوأى بأنه كذب، لأن الحسنى للمحسنين فضل والمتفضل لو لم يكن تفضله لسبب يكون أبلغ، وأما السوأى للمسيء عدل والعادل إذا لم يكن تعذيبه لسبب لا يكون عدلا فذكر السبب في التعذيب وهو الإصرار على التكذيب، ولم يذكر السبب في الثواب...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما كان انتكاسهم بعد هذه الأسباب المسعدة بعيداً، أشار إليه بأداة التراخي، أو هي إشارة إلى تطاول دعاء الرسل لهم واحتمالهم إياهم فقال: {ثم كان} أي كوناً تعذر الانفكاك عنه، وهو في غاية الهول كما اشار إليه تذكير الفعل.
{عاقبة} أي آخر أمر {الذين أساءوا} أظهر موضع الإضمار تعميماً ودلالة على السبب. {وكانوا} أي كوناً كأنه جبلة لهم {بها} مع كونها أبعد شيء عن الهزء {يستهزءون} أي يستمرون على ذلك بتجديده في كل حين مع تعظيمه حتى كان استهزاؤهم بغيرها كأن عدم. أي كما أنكم أنتم تكذبون بما وقع من الوعد في أمر الروم وتستهزئون به فاحذروا أن يحل بكم ما حل بالأولين، ثم تردون إليه سبحانه فيعذبكم العذاب الأكبر.
ويجوز أن يكون هذا بدلاً من "السُّوأَى "أو بياناً لها بمعنى أنهم لما أساؤوا زادتهم إساءتهم عمارة حتى ارتكسوا في العمى فوصلوا إلى التكذيب والاستهزاء الذي هو أقبح الحالات، عكس ما يجازى به المؤمن من أنه يزداد بإيمانه هدى...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
القرآن الكريم يدعو المكذبين المستهزئين بآيات الله أن يسيروا في الأرض فلا ينعزلوا في مكانهم كالقوقعة؛ وأن يتدبروا عاقبة أولئك المكذبين المستهزئين ويتوقعوا مثلها؛ وأن يدركوا أن سنة الله واحدة وأنها لا تحابي أحدا؛ وأن يوسعوا آفاق تفكيرهم فيدركوا وحدة البشرية، ووحدة الدعوة، ووحدة العاقبة في أجيال البشرية جميعا. وهذا هو التصور الذي يحرص الإسلام على أن يطبع به قلب المؤمن وعقله، ويكرر القرآن الإيقاع حوله كثيرا...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
المراد ب {الذين أساءوا} كل مسيئ من جنس تلك الإساءة وهي الشرك. ويجوز أن يكون إنذاراً لمشركي العرب المتحدث عنهم من قوله {ولكن أكثر الناس لا يعلمون} [الروم: 6] فيكونوا المراد ب {الذين أساءوا}، ويكون إظهاراً في مقام الإضمار على خلاف مقتضى الظاهر لقصد الإيماء بالصِلة، أي أن سبب عاقبتهم السوأى هو إساءتهم.
وأصل الكلام: ثم كان عاقبتهم السوأى. وهذا إنذار بعد الموعظة ونص بعد القياس، فإن الله وعظ المكذبين للرسول صلى الله عليه وسلم بعواقب الأمم التي كذبت رسلها ليكونوا على حذر من مثل تلك العاقبة بحكم قياس التمثيل، ثم أعقب تلك الموعظة بالنذارة بأنهم ستكون لهم مثل تلك العاقبة، وأوقع فعل {كان} الماضي في موقع المضارع للتنبيه على تحقيق وقوعه مثل {أتى أمر الله} [النحل: 1] إتماماً للنذارة.
والعاقبة: الحالة الأخيرة التي تعقب حالة قبلها.
السوأى: تأنيث الأسَوأ، أي الحالة الزائدة في الاتصاف بالسوء وهو أشد الشر، كما أن الحسنى مؤنث الأحسن في قوله {للذين أحسنوا الحسنى} [يونس: 26]، وتعريف {السوأى} تعريف الجنس إذ ليس ثمة عاقبة معهودة.
{كان} على ما هو عليه من التنبيه على تحقق الوقوع...
والباء في {بها يستهزئون} للتعدية، وتقديم المجرور للاهتمام بشأن الآيات، وللرعاية على الفاصلة...
الإساءة ضدها الإحسان، وسبق أن قلنا: إن الإحسان: أن تترك الصالح على صلاحه، أو أن تزيده صلاحا، فإذا لم تكن محسنا فلا أقل من أن تكف إساءتك، وتدع الحال على ما هو عليه، فمعنى الذين أساءوا: أي الذي جاء إلى الصالح فأفسده أو أنشأ إفسادا جديدا، وطبيعي أن تكون عاقبته من جنس فعله {ثم كان عاقبة الذين أساؤوا السوأى}.
{أن كذبوا بآيات الله وكانوا بها يستهزؤون} فالأمر لم يقف عند حد التكذيب بالآيات، إنما تعدى التكذيب إلى الاستهزاء، فما فلسفة أهل الاستهزاء حينما يستهزؤون بالآخرين؟
فلسفة الاستهزاء أن الإنسان لم يقدر على نفسه ليحملها على الفضائل، فيغيظه كل صاحب فضيلة، ويؤلمه أن يرى مستقيما ينعم بعز الطاعة، وهو في حمئة المعصية؛ لذلك يسخر منه لعله ينصرف عما هو فيه من الطاعة والاستقامة...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
تبيّن آخر مرحلة من كفرهم، لأنّ الذنب أو الإثم يقع على روح الإنسان كالمرض الخبيث، فيأكل إيمانه ويعدمه، ويبلغ الأمر حدّاً يكذب الإنسان فيه آيات الله، وأبعد من ذلك أيضاً إذ يحمل الذنب صاحبه على الاستهزاء بالأنبياء، والسخرية بآيات الله، ويبلغ مرحلة لا ينفع معها وعظ ونصيحة أبداً، ولا تؤثر فيه أية حكمة وأيّة آية، ولا يبقى طريق سوى أسواط عذاب الله المؤلمة له...