{ وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ } أي : تابعناه وواصلناه ، وأنزلناه شيئا فشيئا ، رحمة بهم ولطفا { لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } حين تتكرر عليهم آياته ، وتنزل عليهم بيناته وقت الحاجة إليها . فصار نزوله متفرقا رحمة بهم ، فلم اعترضوا على ما هو من مصالحهم ؟
فصل في ذكر بعض الفوائد والعبر في هذه القصة العجيبة
فمنها أن آيات اللّه تعالى وعبره ، وأيامه في الأمم السابقة ، إنما يستفيد بها ويستنير المؤمنون ، فعلى حسب إيمان العبد تكون عبرته ، وإن اللّه تعالى إنما يسوق القصص ، لأجلهم ، وأما غيرهم ، فلا يعبأ اللّه بهم ، وليس لهم منها نور وهدى .
ومنها : أن اللّه تعالى إذا أراد أمرا هيأ أسبابه ، وأتى بها شيئا فشيئا بالتدريج ، لا دفعة واحدة .
ومنها : أن الأمة المستضعفة ، ولو بلغت في الضعف ما بلغت ، لا ينبغي لها أن يستولى عليها الكسل عن طلب حقها ، ولا الإياس من ارتقائها إلى أعلى الأمور ، خصوصا إذا كانوا مظلومين ، كما استنقذ اللّه أمة بني إسرائيل ، الأمة الضعيفة ، من أسر فرعون وملئه ، ومكنهم في الأرض ، وملكهم بلادهم .
ومنها : أن الأمة ما دامت ذليلة مقهورة لا تأخذ حقها ولا تتكلم به ، لا يقوم لها أمر دينها [ ولا دنياها ]{[2]} ولا يكون لها إمامة فيه .
ومنها : لطف اللّه بأم موسى ، وتهوينه عليها المصيبة بالبشارة ، بأن اللّه سيرد إليها ابنها ، ويجعله من المرسلين .
ومنها : أن اللّه يقدر على عبده بعض المشاق ، لينيله سرورا أعظم من ذلك ، أو يدفع عنه شرا أكثر منه ، كما قدر على أم موسى ذلك الحزن الشديد ، والهم البليغ ، الذي هو وسيلة إلى أن يصل إليها ابنها ، على وجه تطمئن به نفسها ، وتقر به عينها ، وتزداد به غبطة وسرورا .
ومنها : أن الخوف الطبيعي من الخلق ، لا ينافي الإيمان ولا يزيله ، كما جرى لأم موسى ولموسى من تلك المخاوف .
ومنها : أن الإيمان يزيد وينقص . وأن من أعظم ما يزيد به الإيمان ، ويتم به اليقين ، الصبر عند المزعجات ، والتثبيت من اللّه ، عند المقلقات ، كما قال تعالى . { لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } أي : ليزداد إيمانها بذلك ويطمئن قلبها .
ومنها : أن من أعظم نعم اللّه على عبده ، و [ أعظم ] معونة للعبد على أموره ، تثبيت اللّه إياه ، وربط جأشه وقلبه عند المخاوف ، وعند الأمور المذهلة ، فإنه بذلك يتمكن من القول الصواب ، والفعل الصواب ، بخلاف من استمر قلقه وروعه ، وانزعاجه ، فإنه يضيع فكره ، ويذهل عقله ، فلا ينتفع بنفسه في تلك الحال .
ومنها : أن العبد -ولو عرف أن القضاء والقدر ووعد اللّه نافذ لا بد منه- فإنه لا يهمل فعل الأسباب التي أمر بها ، ولا يكون ذلك منافيا لإيمانه بخبر اللّه ، فإن اللّه قد وعد أم موسى أن يرده عليها ، ومع ذلك ، اجتهدت على رده ، وأرسلت أخته لتقصه وتطلبه .
ومنها : جواز خروج المرأة في حوائجها ، وتكليمها للرجال ، من غير محذور ، كما جرى لأخت موسى وابنتي صاحب مدين .
ومنها : جواز أخذ الأجرة على الكفالة والرضاع ، والدلالة على من يفعل ذلك .
ومنها : أن اللّه من رحمته بعبده الضعيف الذي يريد إكرامه ، أن يريه من آياته ، ويشهده من بيناته ، ما يزيد به إيمانه ، كما رد الله موسى على أمه ، لتعلم أن وعد اللّه حق .
ومنها : أن قتل الكافر الذي له عهد بعقد أو عرف ، لا يجوز ، فإن موسى عليه السلام عدَّ قتله القبطي الكافر ذنبا ، واستغفر اللّه منه .
ومنها : أن الذي يقتل النفوس بغير حق يعد من الجبارين الذين يفسدون في الأرض .
ومنها : أن من قتل النفوس بغير حق ، وزعم أنه يريد الإصلاح في الأرض ، وتهييب أهل المعاصي ، فإنه كاذب في ذلك ، وهو مفسد كما حكى اللّه قول القبطي { إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ } على وجه التقرير له ، لا الإنكار .
ومنها : أن إخبار الرجل غيره بما قيل فيه ، على وجه التحذير له من شر يقع فيه ، لا يكون ذلك نميمة -بل قد يكون واجبا- كما أخبر ذلك الرجل لموسى ، ناصحا له ومحذرا .
ومنها : أنه إذا خاف القتل والتلف في الإقامة ، فإنه لا يلقي بيده إلى التهلكة ، ولا يستسلم لذلك ، بل يذهب عنه ، كما فعل موسى .
ومنها : أنه عند تزاحم المفسدتين ، إذا كان لا بد من ارتكاب إحداهما أنه يرتكب الأخف منهما والأسلم ، كما أن موسى ، لما دار الأمر بين بقائه في مصر ولكنه يقتل ، أو يذهب{[3]} إلى بعض البلدان البعيدة ، التي لا يعرف الطريق إليها ، وليس معه دليل [ يد ] له غير ربه ، ولكن هذه الحالة أقرب للسلامة من الأولى ، فتبعها موسى .
ومنها : أن الناظر في العلم عند الحاجة إلى التكلم فيه ، إذا لم يترجح عنده أحد القولين ، فإنه يستهدي ربه ، ويسأله أن يهديه الصواب من القولين ، بعد أن يقصد بقلبه الحق ويبحث عنه ، فإن اللّه لا يخيب مَنْ هذه حاله . كما خرج موسى تلقاء مدين فقال : { عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ }
ومنها : أن الرحمة بالخلق ، والإحسان على من يعرف ومن لا يعرف ، من أخلاق : الأنبياء ، وأن من الإحسان سقي الماشية الماء ، وإعانة العاجز .
ومنها استحباب الدعاء بتبيين الحال وشرحها ، ولو كان اللّه عالما لها ، لأنه تعالى ، يحب تضرع عبده وإظهار ذله ومسكنته ، كما قال موسى : { رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ }
ومنها أن الحياء -خصوصا من الكرام- من الأخلاق الممدوحة .
ومنها : المكافأة على الإحسان لم يزل دأب الأمم السابقين .
ومنها : أن العبد إذا فعل العمل للّه تعالى ، ثم حصل له مكافأة عليه من غير قصد بالقصد الأول ، أنه لا يلام على ذلك ، كما قبل موسى مجازاة صاحب مدين عن معروفه الذي لم يبتغ له ، ولم يستشرف بقلبه على عوض .
ومنها : مشروعية الإجارة ، وأنها تجوز على رعاية الغنم ونحوها ، مما لا يقدر العمل ، وإنما مرده ، العرف .
ومنها أنه تجوز الإجارة بالمنفعة ، ولو كانت المنفعة بضعا .
ومنها أن خطبة الرجل لابنته الرجل الذي يتخيره ، لا يلام عليه .
ومنها : أن خير أجير وعامل [ يعمل ] للإنسان ، أن يكون قويا أمينا .
ومنها : أن من مكارم الأخلاق ، أن يُحَسِّن خلقه لأجيره ، وخادمه ، ولا يشق عليه بالعمل ، لقوله : { وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ }
ومنها : جواز عقد الإجارة وغيرها من العقود من دون إشهاد لقوله : { وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ }
ومنها : ما أجرى اللّه على يد موسى من الآيات البينات ، والمعجزات الظاهرة ، من الحية ، وانقلاب يده بيضاء من غير سوء ، ومن عصمة اللّه لموسى وهارون ، من فرعون ، ومن الغرق .
ومنها : أن من أعظم العقوبات أن يكون الإنسان إماما في الشر ، وذلك بحسب معارضته لآيات اللّه وبيناته ، كما أن من أعظم نعمة أنعم اللّه بها على عبده ، أن يجعله إماما في الخير هاديا مهديا .
ومنها : ما فيها من الدلالة على رسالة محمد صلى اللّه عليه وسلم ، حيث أخبر بذلك تفصيلا مطابقا ، وتأصيلا موافقا ، قصه قصا ، صدق به المرسلين ، وأيد به الحق المبين ، من غير حضور شيء من تلك الوقائع ، ولا مشاهدة لموضع واحد من تلك المواضع ، ولا تلاوة درس فيها شيئا من هذه الأمور ، ولا مجالسة أحد من أهل العلم ، إن هو إلا رسالة الرحمن الرحيم ، ووحي أنزله عليه الكريم المنان ، لينذر به قوما جاهلين ، وعن النذر والرسل غافلين .
فصلوات اللّه وسلامه ، على من مجرد خبره ينبئ أنه رسول اللّه ، ومجرد أمره ونهيه ينبه العقول النيرة ، أنه من عند اللّه ، كيف وقد تطابق على صحة ما جاء به ، وصدقه خبر الأولين والآخرين ، والشرع الذي جاء به من رب العالمين ، وما جبل عليه من الأخلاق الفاضلة ، التي لا تناسب ، ولا تصلح إلا لأعلى الخلق درجة ، والنصر المبين لدينه وأمته ، حتى بلغ دينه مبلغ الليل والنهار ، وفتحت أمته معظم بلدان الأمصار ، بالسيف والسنان ، وقلوبهم بالعلم والإيمان .
ولم تزل الأمم المعاندة ، والملوك الكفرة المتعاضدة ، ترميه بقوس واحدة ، وتكيد له المكايد ، وتمكر لإطفائه وإخفائه ، وإخماده من الأرض ، وهو قد بهرها وعلاها ، لا يزداد إلا نموا ، ولا آياته وبراهينه إلا ظهورا ، وكل وقت من الأوقات ، يظهر من آياته ما هو عبرة لِلْعَالَمِينَ ، وهداية لِلْعَالمِينَ ، ونور وبصيرة للمتوسمين . والحمد للّه وحده .
وقوله : { وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ } قال مجاهد : فصلنا لهم القول . وقال السدي : بينا لهم القول .
وقال قتادة : يقول تعالى : أخبَرَهم كيف صُنع بِمَنْ مضى وكيف هو صانع ، { لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } .
قال مجاهد وغيره : { وَصَّلْنَا لَهُمُ } يعني : قريشا . وهذا هو الظاهر ، لكن قال حماد بن سلمة ، عن عمرو بن دينار ، عن يحيى بن جَعْدَة ، عن رفاعة - رفاعة هذا هو ابن قَرَظَة القُرَظيّ ، وجعله ابن منده : رفاعة بن سموال ، خال صفية بنت حيي ، وهو الذي طلق تميمة بنت وهب التي تزوجها بعده عبد الرحمن بن الزبير بن باطا ، كذا ذكره ابن الأثير{[22343]} - قال : نزلت { وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ } في عشرة أنا أحدهم . رواه ابن جرير وابن أبي حاتم من حديثه{[22344]} .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَقَدْ وَصّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلّهُمْ يَتَذَكّرُونَ * الّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ } .
يقول تعالى ذكره : ولقد وصلنا يا محمد لقومك من قريش ولليهود من بني إسرائيل القول بأخبار الماضين والنبأ عما أحللنا بهم من بأسنا ، إذ كذّبوا رسلنا ، وعما نحن فاعلون بمن اقتفى آثارهم ، واحتذى في الكفر بالله ، وتكذيب رسله مثالهم ، ليتذكروا فيعتبروا ويتعظوا . وأصله من : وصل الحبال بعضها ببعض ومنه قول الشاعر :
فَقُلْ لِبَنِي مَرْوَانَ ما بالُ ذِمّةٍ *** وَحَبْلٍ ضَعِيفٍ ما يَزَالُ يُوَصّلُ
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل وإن اختلفت ألفاظهم ببيانهم عن تأويله ، فقال بعضهم : معناه بيّنا . وقال بعضهم معناه : فصلنا . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن أبيه ، عن ليث ، عن مجاهد ، قوله وَلَقَدْ وَصّلْنا لَهُمُ القَوْلَ قال : فصلنا لهم القول .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قَتادة وَلَقَدْ وَصّلْنا لَهُمُ القَوْلَ قال : وصل الله لهم القول في هذا القرآن ، يخبرهم كيف صنع بمن مضى ، وكيف هو صانع لَعَلّهُمْ يَتَذَكّرُونَ .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا محمد بن عيسى أبو جعفر ، عن سفيان بن عيينة : وصلنا : بيّنا .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله وَلَقَدْ وَصّلْنا لَهُمُ الخبر ، خبر الدنيا بخبر الاَخرة ، حتى كأنهم عاينوا الاَخرة ، وشهدوها في الدنيا ، بما نريهم من الاَيات في الدنيا وأشباهها . وقرأ إنّ فِي ذلكَ لاَيَةً لِمَنْ خافَ عَذَابَ الاَخِرَةِ وقال : إنا سوف ننجزهم ما وعدناهم في الاَخرة ، كما أنجزنا للأنبياء ما وعدناهم ، نقضي بينهم وبين قومهم .
واختلف أهل التأويل ، فيمن عنى بالهاء والميم من قوله وَلَقَدْ وَصّلْنا لَهُمُ فقال بعضهم : عنى بهما قريشا . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : وَلَقَدْ وَصّلْنا لَهُمُ القَوْلَ قال : قريش .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد وَلَقَدْ وَصّلْنا لَهُمُ القَوْلَ قال : لقريش .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله ولَقَدْ وَصّلْنا لَهُمُ القَوْلَ لَعَلّهُمْ يَتَذَكّرُونَ قال : يعني محمدا صلى الله عليه وسلم .
وقال آخرون : عُنِي بهما اليهود . ذكر من قال ذلك :
حدثني بشر بن آدم ، قال : حدثنا عفان بن مسلم ، قال : حدثنا حماد بن سلمة ، قال : حدثنا عمرو بن دينار ، عن يحيى بن جعدة ، عن رفعة القرظي ، قال : نزلت هذه الاَية في عشرة أنا أحدهم وَلَقَدْ وَصّلْنا لَهُمُ القَوْلَ لَعَلّهُمْ يَتَذَكّرُونَ .
20953حدثنا ابن سنان ، قال : حدثنا حيان ، قال : حدثنا حماد ، عن عمرو ، عن يحيى بن جعدة ، عن عطية القُرَظِيّ قال : نزلت هذه الاَية وَلَقَدْ وَصّلْنا لَهُمُ القَوْلَ لَعلّهُمْ يَتَذَكّرُونَ حتى بلغ إنّا كُنّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ في عشرة أنا أحدهم ، فكأن ابن عباس أراد بقوله : يعني محمدا : لعلهم يتذكرون عهد الله في محمد إليهم ، فيقرّون بنبوّته ويصدّقونه .
الذين وصل { لهم القول } هم قريش قاله مجاهد وغيره ، وقال أبو رفاعة القرظي : نزلت في اليهود في عشرة أنا أحدهم ذكره الطبري ، وقال الجمهور : معناه واصلنا لهم في القرآن وتابعناه موصولاً بعضه ببعض في المواعظ والزجر والدعاء إلى الإسلام ، قال الحسن وفي ذكر الأمم المهلكة وصلت لهم قصة بقصة حسب مرور الأيام ، وذهب مجاهد أن معنى { وصلنا } فصلنا أي جعلناه أوصالاً من حيث كان أنواعاً من القول في معان مختلفة ، ومعنى اتصال بعضه ببعض حاصل من جهة أخرى لكن إنما عدد عليهم هاهنا تقسيمه في أنواع من القول ، وذهب الجمهور إلى أن هذا التوصيل الذي وصل لهم القول معناه وصل المعاني من الوعظ والزجر وذكر الآخرة وغير ذلك ، وذهبت فرقة إلى أن الإشارة بتوصيل القول إنما هي إلى الألفاظ أي إلى الإعجاز ، فالمعنى { ولقد وصلنا لهم } قولاً معجزاً على نبوتك .
قال القاضي أبو محمد : والمعنى الأول تقديره { ولقد وصلنا لهم } قولاً تضمن معاني من تدبرها اهتدى ، وقرأ الحسن بن أبي الحسن «ولقد وصَلنا » بتخفيف الصاد ، وقوله { لعلهم يتذكرون } أي في طمع البشر ، وظاهر الأمر عندهم وبحسبهم .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ولقد وصلنا لهم القول} يقول: ولقد بينا لكفار مكة ما في القرآن من الأمم الخالية، كيف عذبوا بتكذيبهم رسلهم، {لعلهم} يعني: لكي {يتذكرون} فيخافوا فيؤمنوا.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: ولقد وصلنا يا محمد لقومك من قريش ولليهود من بني إسرائيل القول بأخبار الماضين والنبأ عما أحللنا بهم من بأسنا، إذ كذّبوا رسلنا، وعما نحن فاعلون بمن اقتفى آثارهم، واحتذى في الكفر بالله، وتكذيب رسله مثالهم، ليتذكروا فيعتبروا ويتعظوا. وأصله من: وصل الحبال بعضها ببعض... وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل وإن اختلفت ألفاظهم ببيانهم عن تأويله، فقال بعضهم: معناه بيّنا. وقال بعضهم معناه: فصلنا...
واختلف أهل التأويل، فيمن عنى بالهاء والميم من قوله "وَلَقَدْ وَصّلْنا لَهُمُ "فقال بعضهم: عنى بهما قريشا... وقال آخرون: عُنِي بهما اليهود...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
قال قائلون: هو القرآن. ثم يخرج على وجهين:
أحدهما: وصل القرآن بعضه ببعض حتى خرج كله موافقا بعضه بعضا مصدقا غير مختلف، وإن فرق في الإنزال على تباعد الأوقات وطول المدد {لعلهم يتذكرون} أن مثل هذا لا يكون إلا ممن يعلم الغيب، ولا يعزب عنه شيء، ولا يغيب؛ إذ لو كان هو ممن لا يعلم ذلك من كلام المخلوق لخرج مختلفا متناقضا... في تباعد الوقت وطول المدة...
والثاني: وصل مواعظ القرآن بعضها ببعض ومواعيده بعضها ببعض وعداته بعضها ببعض. وكذلك أوامره ونواهيه، وإن تفرق نزولها، واختلفت مواضعها؛ يدعوهم لما يدعوهم به مرة بعد مرة {لعلهم يتذكرون} به. وجائز أن يكون قوله: {وصلنا لهم القول} أي قول التوحيد. ووجه هذا أنّا وصلنا التوحيد حتى جعلنا في كل أمة وكل قوم أهل توحيد لم نخل قوما ولا أمة عنه كقوله تعالى: {ولكل قوم هاد} [الرعد: 7]، ونحو ذلك من الآيات على أن في كل أمة وقرن أهل توحيد {لعلهم يتذكرون} أن في آبائهم من قد آمن بالرسل، وصدق بهم، ولا يقولون: إن آباءنا على ما نحن عليه. يشبه أن يكون هذا وصل القول الذي ذكر {ولقد وصلنا لهم القول}. قال أبو عوسجة والقتبي: {ولقد وصلنا لهم القول} أي أتبعنا بعضه بعضا واتصل عندهم.
الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :
قال أهل المعاني:"وصلنا" أي والينا وتابعنا.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
والمعنى: أن القرآن أتاهم متتابعاً متواصلاً، وعداً ووعيداً، وقصصاً وعبراً، ومواعظ ونصائح: إرادة أن يتذكروا فيفلحوا. أو نزل عليهم نزولاً متصلاً بعضه في أثر بعض. كقوله: {وَمَا يَأْتِيهِم مّن ذِكْرٍ مّنَ الرحمن مُحْدَثٍ إِلاَّ كَانُواْ عَنْهُ مُعْرِضِينَ} [الشعراء: 5]
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
معناه واصلنا لهم في القرآن وتابعناه موصولاً بعضه ببعض في المواعظ والزجر والدعاء إلى الإسلام... تقديره {ولقد وصلنا لهم} قولاً تضمن معاني من تدبرها اهتدى... وذهب مجاهد أن معنى {وصلنا} فصلنا أي جعلناه أوصالاً من حيث كان أنواعاً من القول في معان مختلفة.
وهذا القول الموصَّل يحتمل أن يكون المراد منه: إنا أنزلنا القرآن منجما مفرقا يتصل بعضه ببعض ليكون ذلك أقرب إلى التذكير والتنبيه، فإنهم كل يوم يطلعون على حكمة أخرى وفائدة زائدة فيكونون عند ذلك أقرب إلى التذكر، وعلى هذا التقدير يكون هذا جوابا عن قولهم هلا أوتي محمد كتابه دفعة واحدة كما أوتي موسى كتابه كذلك، ويحتمل أن يكون المراد وصلنا أخبار الأنبياء بعضها ببعض وأخبار الكفار في كيفية هلاكهم تكثيرا لمواضع الاتعاظ والانزجار، ويحتمل أن يكون المراد: بينا الدلالة على كون هذا القرآن معجزا مرة بعد أخرى لعلهم يتذكرون.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{لعلهم يتذكرون} أي ليكون حالهم حال الذين يرجى لهم أن يرجعوا إلى عقولهم فيجدوا فيما طبع فيها ما يذكرهم بالحق تذكيراً، بما أشار إليه الإظهار.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
إن هذا النص ليقطع الطريق على المعتذرين بأنهم لم يفهموا عن هذا القرآن، ولم يحيطوا علما بهذا الدين. فما هو إلا أن يصل إليهم، ويعرض عليهم، حتى تقوم الحجة، وينقطع الجدل، وتسقط المعذرة. فهو بذاته واضح واضح، لا يحيد عنه إلا ذو هوى يتبع هواه، ولا يكذب به إلا متجن يظلم نفسه، ويظلم الحق البين ولا يستحق هدى الله. (إن الله لا يهدي القوم الظالمين). ولقد انقطع عذرهم بوصول الحق إليهم، وعرضه عليهم، فلم يعد لهم من حجة ولا دليل.. (ولقد وصلنا لهم القول لعلهم يتذكرون).
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
والتوصيل: مبالغة في الوصل، وهو ضم بعض الشيء إلى بعض يقال: وصل الحبل إذا ضم قطعه بعضها إلى بعض فصار حبلاً. والقول مراد به القرآن قال تعالى {إنه لقول فصل} فالتعريف للعهد، أي القول المعهود. وللتوصيل أحوال كثيرة فهو باعتبار ألفاظه وصل بعضه ببعض ولم ينزل جملة واحدة، وباعتبار معانيه وصل أصنافاً من الكلام: وعداً، ووعيداً، وترغيباً، وترهيباً، وقصصاً ومواعظ وعبراً، ونصائح يعقب بعضها بعضاً وينتقل من فن إلى فن، وفي كل ذلك عون على نشاط الذهن للتذكر والتدبر. واللام و (قد) كلاهما للتأكيد رداً عليهم إذ جهلوا حكمة تنجيم نزول القرآن وذُكرت لهم حكمة تنجيمه هنا بما يرجع إلى فائدتهم بقوله {لعلهم يتذكرون}.
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
أكد كتاب الله أن رعاية الحق، وعنايته بهداية الخلق، رعاية لا تنقطع على الدوام، وعناية لا تتضاءل مع مرور الأيام، وإن اعتصم كثير من الناس بحبل الضلال، ولجوا في العناد والجدال، ولذلك توالت الرسالات والرسل عبر الأجيال، وبقيت أبواب الهداية مفتوحة في وجوههم دون أقفال، وها هو خاتم الكتب المنزلة تتوالى سوره وآياته، وتتلاحق نصائحه وعظاته، لخير البشرية جمعاء، وإنقاذها من الضلال [و] العماء.