ثم أخبر تعالى أنه حرم على أهل الكتاب كثيرا من الطيبات التي كانت حلالا عليهم ، وهذا تحريم عقوبة بسبب ظلمهم واعتدائهم ، وصدهم الناس عن سبيل الله ، ومنعهم إياهم من الهدى ، وبأخذهم الربا وقد نهوا عنه ، فمنعوا المحتاجين ممن يبايعونه عن العدل ، فعاقبهم الله من جنس فعلهم فمنعهم من كثير من الطيبات التي كانوا بصدد حلها ، لكونها طيبة ، وأما التحريم الذي على هذه الأمة فإنه تحريم تنزيه لهم عن الخبائث التي تضرهم في دينهم ودنياهم .
يخبر تعالى أنه بسبب ظلم اليهود بما ارتكبوه من الذنوب العظيمة ، حَرّم عليهم طيبات كان أحلها لهم ، كما قال ابن أبي حاتم :
حدثنا محمد بن عبد الله بن يزيد المُقْرِي ، حدثنا سفيان بن عيينة ، عن عَمْرو ، وقال : قرأ ابن عباس : " طيبات كانت أحلت لهم " .
وهذا التحريم قد يكون قدريا ، بمعنى : أنه تعالى قيضهم لأن تأولوا في كتابهم ، وحرَّفوا وبدلوا أشياء كانت حلالا لهم ، فحرموها على أنفسهم ، تشديدًا منهم على أنفسهم وتضييقًا وتنطعا . ويحتمل أن يكون شرعيًا بمعنى : أنه تعالى حَرّم عليهم في التوراة أشياء كانت حلالا لهم قبل ذلك ، كما قال تعالى : { كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنزلَ التَّوْرَاةُ } [ آل عمران : 93 ] وقد قدمنا الكلام على هذه الآية وأن المراد : أن الجميع من الأطعمة كانت حلالا لهم ، من قبل أن تنزل التوراة ما عدا ما كان حرم إسرائيل على نفسه من لحوم الإبل وألبانها . ثم إنه تعالى حرم أشياء كثيرة في التوراة ، كما قال في سورة الأنعام : { وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ } [ الأنعام : 146 ] أي : إنما حرمنا عليهم ذلك ؛ لأنهم يستحقون ذلك بسبب بغيهم وطغيانهم ومخالفتهم رسولهم واختلافهم عليه . ولهذا قال : { فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا } أي : صدوا الناس وصدوا أنفسهم عن اتباع الحق . وهذه سَجِيَّة لهم متصفون بها من قديم الدهر وحديثه ؛ ولهذا كانوا أعداء الرسل ، وقتلوا خَلْقًا من الأنبياء ، وكذَبوا عيسى ومحمدًا ، صلوات الله وسلامه عليهما .
{ فَبِظُلْمٍ مّنَ الّذِينَ هَادُواْ حَرّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيّبَاتٍ أُحِلّتْ لَهُمْ وَبِصَدّهِمْ عَن سَبِيلِ اللّهِ كَثِيراً * وَأَخْذِهِمُ الرّبَا وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً } . .
يعني بذلك جلّ ثناؤه : فحرمنا على اليهود الذين نقضوا ميثاقهم الذي واثقوا ربهم ، وكفروا بآيات الله ، وقتلوا أنبياءهم ، وقالوا البهتان على مريم ، وفعلوا ما وصفهم الله في كتابه طيبات من المآكل وغيرها كانت لهم حلالاً ، عقوبة لهم بظلمهم الذي أخبر الله عنهم في كتابه . كما :
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : فَبِظُلْمٍ مِنَ الّذِينَ هادُوا حَرّمْنا عَلَيْهِمْ طَيّباتٍ أُحِلّتْ لَهُمْ . . . الاَية ، عوقب القوم بظلم ظَلَموه وبَغْيٍ بَغَوه حرّمت عليهم أشياء ببغيهم وبظلمهم .
وقوله : وَبِصَدّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللّهِ كَثِيرا يعني : وبصدّهم عباد الله عن دينه وسبله التي شرعها لعباده صدّا كثيراٍ ، وكان صدّهم عن سبيل الله بقولهم على الله الباطل ، وادّعائهم أن ذلك عن الله ، وتبديلهم كتاب الله وتحريف معانيه عن وجوهه ، وكان من عظيم ذلك جحودهم نبوّة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وتركهم بيان ما قد علموا من أمره لمن جهل أمره من الناس . وبنحو ذلك كان مجاهد يقول .
حدثنا محمد بن عمرو ، قال : ثني أبو عاصم ، قال : ثني عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : وَبِصَدّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللّهِ كَثِيرا قال : أنفسهم وغيرهم عن الحقّ .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله .
قوله تعالى : { فبظلم } عطف على قوله { فبما نقضهم } [ النساء : 155 ] كأنه قال فبنقضهم لعناهم وأوجبنا عذابهم ، فبظلم منهم حرمنا عليهم المطاعم ، وجعل الله تعالى هذه العقوبة الدنيوية إزاء ظلم بني إسرائيل في تعنتهم وسائر أخلاقهم الدميمة ، و «الطيبات » هنا : هي الشحوم وبعض الذبائح والطير والحوت وغير ذلك ، وقرأ ابن عباس «طيبات كانت أحلت لهم »
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.