{ وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ } أي : نوضحها ونبينها ، ونميز بين طريق الهدى من الضلال ، والغي والرشاد ، ليهتدي بذلك المهتدون ، ويتبين الحق الذي ينبغي سلوكه . { وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ } الموصلة إلى سخط الله وعذابه ، فإن سبيل المجرمين إذا استبانت واتضحت ، أمكن اجتنابها ، والبعد منها ، بخلاف ما لو كانت مشتبهة ملتبسة ، فإنه لا يحصل هذا المقصود الجليل .
( وكذلك نفصل الآيات ، ولتستبين سبيل المجرمين ) . .
ختام هذه الفقرة التي قدمت طبيعة الرسالة وطبيعة الرسول في هذه النصاعة الواضحة . كما قدمت هذه العقيدة عارية من كل زخرف ؛ وفصلت الاعتبارات والقيم التي جاءت هذه العقيدة لتلغيها من حياة البشرية ؛ والاعتبارات والقيم التي جاءت لتقررها . .
بمثل هذا المنهج ، وبمثل هذه الطريقة ، وبمثل هذا البيان والتفصيل . . تفصل الآيات ، التي لا تدع في هذا الحق ريبة ؛ ولا تدع في هذا الأمر غموضا ؛ ولا تبقى معها حاجة لطلب الخوارق ؛ فالحق واضح ، والأمر بين ، بمثل ذلك المنهج الذي عرض السياق القرآني منه ذلك النموذج . .
على أن كل ما سبق في السورة من تفصيل لدلائل الهدى وموحيات الإيمان ؛ ومن بيان للحقائق وتقرير للوقائع ، يعتبر داخلا في مدلول قوله تعالى :
( ولتستبين سبيل المجرمين ) . .
فهو شأن عجيب ! . . إنه يكشف عن خطة المنهج القرآني في العقيدة والحركة بهذه العقيدة ! إن هذا المنهج لا يعني ببيان الحق وإظهاره حتى تستبين سبيل المؤمنين الصالحين فحسب . إنما يعني كذلك ببيان الباطل وكشفه حتى تستبين سبيل الضالين المجرمين أيضا . . إن استبانة سبيل المجرمين ضرورية لاستبانة سبيل المؤمنين . وذلك كالخط الفاصل يرسم عند مفرق الطريق !
إن هذا المنهج هو المنهج الذي قرره الله - سبحانه - ليتعامل مع النفوس البشرية . . ذلك أن الله سبحانه يعلم أن إنشاء اليقين الاعتقادي بالحق والخير يقتضي رؤية الجانب المضاد من الباطل والشر ؛ والتأكيد من أن هذا باطل محض وشر خالص ؛ وأن ذلك حق ممحض وخير خالص . . كما أن قوة الاندفاع بالحق لا تنشأ فقط من شعور صاحب الحق أنه على الحق ؛ ولكن كذلك من شعوره بأن الذي يحاده ويحاربه إنما هو على الباطل . . وأنه يسلك سبيل المجرمين ؛ الذين يذكر الله في آية أخرى أنه جعل لكل نبي عدوا منهم ( وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا من المجرمين ) . . ليستقر في نفس النبي ونفوس المؤمنين ، أن الذين يعادونهم إنها هم المجرمون ؛ عن ثقة ، وفي وضوح ، وعن يقين .
إن سفور الكفر والشر والإجرام ضروري لوضوح الإيمان والخير والصلاح . واستبانة سبيل المجرمين هدف من أهداف التفصيل الرباني للآيات . ذلك أن أي غبش أو شبهة في موقف المجرمين وفي سبيلهم ترتدغبشا وشبهة في موقف المؤمنين وفي سبيلهم . فهما صفحتان متقابلتان ، وطريقان مفترقتان . . ولا بد من وضوح الألوان والخطوط . .
ومن هنا يجب أن تبدأ كل حركة إسلامية بتحديد سبيل المؤمنين وسبيل المجرمين . يجب إن تبدأ من تعريف سبيل المؤمنين وتعريف سبيل المجرمين ؛ ووضع العنوان المميز للمؤمنين . والعنوان المميز للمجرمين ، في عالم الواقع لا في عالم النظريات . فيعرف أصحاب الدعوة الإسلامية والحركة الإسلامية من هم المؤمنون ممن حولهم ومن هم المجرمون . بعد تحديد سبيل المؤمنين ومنهجهم وعلامتهم ، وتحديد سبيل المجرمين ومنهجهم وعلامتهم . بحيث لا يختلط السبيلان ولا يتشابه العنوانان ، ولا تلتبس الملامح والسمات بين المؤمنين والمجرمين . .
وهذا التحديد كان قائما ، وهذا الوضوح كان كاملا ، يوم كان الإسلام يواجه المشركين في الجزيرة العربية . فكانت سبيل المسلمين الصالحين هي سبيل الرسول [ ص ] ومن معه . وكانت سبيل المشركين المجرمين هي سبيل من لم يدخل معهم في هذا الدين . . ومع هذا التحديد وهذا الوضوح كان القرآن يتنزل وكان الله - سبحانه - يفصل الآيات على ذلك النحو الذي سبقت منه نماذج في السورة - ومنها ذلك النموذج الأخير - لتستبين سبيل المجرمين !
وحيثما واجه الإسلام الشرك والوثنية والإلحاد والديانات المنحرفة المتخلفة من الديانات ذات الأصل السماوي بعد ما بدلتها وأفسدتها التحريفات البشرية . . حيثما واجه الإسلام هذه الطوائف والملل كانت سبيل المؤمنين الصالحين واضحة ، وسبيل المشركين الكافرين المجرمين واضحة كذلك . . لا يجدي معها التلبيس !
ولكن المشقة الكبرى التي تواجه حركات الإسلام الحقيقية اليوم ليست في شيء من هذا . . إنها تتمثل في وجود أقوام من الناس من سلالات المسلمين ، في أوطان كانت في يوم من الأيام دارا للاسلام ، يسيطر عليها دين الله ، وتحكم بشريعته . . ثم اذا هذه الارض ، واذا هذه الاقوام ، تهجر الاسلام حقيقة ، وتعلنه اسما . وإذا هي تتنكر لمقومات الإسلام اعتقادا وواقعا . وإن ظنت أنها تدين بالإسلام اعتقادا ! فالإسلام شهادة أن لا إله إلا الله . . وشهادة أن لا إله إلا الله تتمثل في الاعتقاد بأن الله - وحده - هو خالق هذا الكون المتصرف فيه . وأن الله - وحده - هو الذي يتقدم إليه العباد بالشعائر التعبدية ونشاط الحياة كله . وأن الله - وحده - هو الذي يتلقى منه العباد الشرائع ويخضعون لحكمه في شأن حياتهم كله . . وأيما فرد لم يشهد أن لا إله إلا الله - بهذا المدلول - فإنه لم يشهد ولم يدخل في الإسلام بعد . كائنا ما كان اسمه ولقبه ونسبه . وأيما أرض لم تتحقق فيها شهادة أن لا إله إلا الله - بهذا المدلول - - فهي أرض لم تدن بدين الله ، ولم تدخل في الإسلام بعد . .
وفي الأرض اليوم أقوام من الناس أسماؤهم أسماء المسلمين ؛ وهم من سلالات المسلمين . وفيها أوطان كانت في يوم من الأيام دارا للإسلام . . ولكن لا الأقوام اليوم تشهد أن لا إله إلا الله - بذلك المدلول - ولا الأوطان اليوم تدين لله بمقتضى هذا المدلول . .
وهذا أشق ما تواجهه حركات الإسلام الحقيقية في هذه الأوطان مع هؤلاء الأقوام !
أشق ما تعانيه هذه الحركات هو الغبش والغموض واللبس الذي أحاط بمدلول لا إله إلا الله ، ومدلول الإسلام في جانب ؛ وبمدلول الشرك وبمدلول الجاهلية في الجانب الآخر . .
أشق ما تعانيه هذه الحركات هو عدم استبانة طريق المسلمين الصالحين ، وطريق المشركين المجرمين ؛ واختلاط الشارات والعناوين ؛ والتباس الأسماء والصفات ؛ والتيه الذي لا تتحدد فيه مفارق الطريق !
ويعرف أعداء الحركات الإسلامية هذه الثغرة . فيعكفون عليها توسيعا وتمييعا وتلبيسا وتخليطا . حتى يصبحالجهر بكلمة الفصل تهمة يؤخذ عليها بالنواصي والأقدام ! . . تهمة تكفير " المسلمين " ! ! ! ويصبح الحكم في أمر الإسلام والكفر مسألة المرجع فيها لعرف الناس واصطلاحهم ، لا إلى قول الله ولا إلى قول رسول الله !
هذه هي المشقة الكبرى . . وهذه كذلك هي العقبة الأولى التي لا بد أن يجتازها أصحاب الدعوة إلى الله في كل جيل !
يجب أن تبدأ الدعوة إلى الله باستبانة سبيل المؤمنين وسبيل المجرمين . . ويجب ألا تأخذ أصحاب الدعوة إلى الله في كلمة الحق والفصل هوادة ولا مداهنة . وألا تأخذهم فيها خشية ولا خوف ؛ وألا تقعدهم عنها لومة لائم ، ولا صيحة صائح : انظروا ! إنهم يكفرون المسلمين !
إن الإسلام ليس بهذا التميع الذي يظنه المخدوعون ! إن الإسلام بين والكفر بين . . الإسلام شهادة أن لا إله إلا الله - بذلك المدلول - فمن لم يشهدها على هذا النحو ؛ ومن لم يقمها في الحياة على هذا النحو ، فحكم الله ورسوله فيه أنه من الكافرين الظالمين الفاسقين . . المجرمين .
( وكذلك نفصل الآيات ، ولتستبين سبيل المجرمين ) . .
أجل يجب أن يجتاز أصحاب الدعوة إلى الله هذه العقبة ؛ وأن تتم في نفوسهم هذه الاستبانة ؛ كي تنطلق طاقاتهم كلها في سبيل الله لا تصدها شبهة ، ولا يعوقها غبش ، ولا يميعها لبس . فإن طاقاتهم لا تنطلق إلا إذا اعتقدوا في يقين أنهم هم " المسلمون " وأن الذين يقفون في طريقهم ويصدونهم ويصدون الناس عن سبيل الله هم " المجرمون " . . كذلك فإنهم لن يحتملوا متاعب الطريق إلا إذا استيقنوا أنها قضية كفر وإيمان . وأنهم وقومهم على مفرق الطريق ، وأنهم على ملة وقومهم على ملة . وأنهم في دين وقومهم في دين :
يقول تعالى : وكما بَيَّنَا ما تقدم بيانه من الحجج والدلائل على طريق الهداية والرشاد ، وذم المجادلة والعناد ، { وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ } أي : التي يحتاج المخاطبون إلى بيانها { وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ } أي : ولتظهر{[10724]} طريق المجرمين المخالفين للرسل ، وقرئ : " وليستبين{[10725]} سبيل المجرمين " أي : وليستبين يا محمد - أو يا مخاطب - سبيل المجرمين .
والإشارة بقوله { وكذلك } إلى ما تقدم من النهي عن طرد المؤمنين وبيان فساد منزع العارضين لذلك ، وتفصيل الآيات تبيينها وشرحها وإظهارها ، واللام في قوله { ولتستبين } متعلقة بفعل مضمر تقديره :«ولتستبين سبيل المجرمين فصلناها » ، وقرأ نافع : «ولتستبين » بالتاء أي النبي صلى الله عليه وسلم ، «سبيلَ » بالنصب حكاه مكي في«المشكل » له ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وحفص عن عاصم : «ولتستبين سبيلُ المجرمين » برفع السبيل وتأنيثها ، وقرأ عاصم في رواية أبي بكر وحمزة والكسائي «وليستبين سبيلُ » برفع السبيل وتذكيرها ، وعربُ الحجاز تؤنث السبيل ، وتميم وأهل نجد يذكرونها ، وخص سبيل المجرمين لأنهم الذين أثاروا ما تقدم من الأقوال وهم أهم في هذا الموضع لأنها آيات رد عليهم ، وأيضاً فتبيين سبيلهم يتضمن بيان سبيل المؤمنين ، وتأول ابن زيد أن قوله { المجرمين } يعني به الآمرون بطرد الضعفة .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وكذلك نفصل الآيات}: نبيّن الآيات، يعني هكذا نبين أمر الدين، {ولتستبين}: وليتبين لكم {سبيل المجرمين}، يعني طريق الكافرين من المؤمنين حتى يعرفهم، يعني هؤلاء النفر أبا جهل وأصحابه.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
"وكَذَلِكَ نُفَصّلُ الآيات": وكما فصلنا لك في هذه السورة من ابتدائها وفاتحها يا محمد إلى هذا الموضع حجتنا على المشركين من عبدة الأوثان وأدلتنا، وميزناها لك وبينّاها، كذلك نفصل لك أعلامنا وأدلتنا في كلّ حقّ ينكره أهل الباطل من سائر أهل الملل غيرهم، فنبينها لك حتى تبين حقه من باطله وصحيحه من سقيمه.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله: "ولِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ المُجْرِمِينَ "فقرأ ذلك عامة قرّاء أهل المدينة: ولِتَسْتَبِينَ بالتاء «سَبِيل المُجْرِمِينَ» بنصب السبيل، على أن «تستبين» خطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم كأن معناه عندهم: ولتستبين أنت يا محمد سبيلَ المجرمين. وكان ابن زيد يتأوّل ذلك: ولتستبين أنت يا محمد سبيل المجرمين الذين سألوك طرد النفر الذين سألوه طردهم عنه من أصحابه.
وقرأ ذلك بعض المكيين وبعض البصريين: "ولِتَسْتَبِينَ بالتاء سَبِيلُ المُجْرِمِينَ "برفع السبيل على أن القصد للسبيل، ولكنه يؤنثها. وكأن معنى الكلام عندهم: وكذلك نفصّل الآيات ولتتضح لك وللمؤمنين طريقُ المجرمين. وقرأ ذلك عامة قراء أهل الكوفة: «ولِيَسْتَبِينَ» بالياء "سَبِيلُ المُجْرِمِينَ" برفع السبيل على أن الفعل للسبيل ولكنهم يذكرونه، ومعنى هؤلاء في هذا الكلام، ومعنى من قرأ ذلك بالتاء في: "ولِتَسْتَبِينَ" ورفع السبيل واحدٌ، وإنما الاختلاف بينهم في تذكير السبيل وتأنيثها.
وأولى القراءتين بالصواب عندي في «السبيل» الرفع، لأن الله تعالى ذكره فصّل آياته في كتابه وتنزيله، ليتبَيّن الحقّ بها من الباطل جميع من خوطب بها، لا بعض دون بعض. ومن قرأ «السبيل» بالنصب، فإنما جعل تبيين ذلك محصورا على النبيّ صلى الله عليه وسلم. وأما القراءة في قوله: "وَلِتَسْتَبِينَ" فسواء قُرِئت بالتاء أو بالياء، لأن من العرب من يذكر السبيل وهم تميم وأهل نجد، ومنهم من يؤنث السبيل وهم أهل الحجاز، وهما قراءتان مستفيضتان في قرّاء الأمصار ولغتان مشهورتان من لغات العرب، وليس في قراءة ذلك بإحداهما خلاف لقراءته بالأخرى ولا وجه لاختيار إحداهما على الأخرى بعد أن يرفع السبيل للعلة التي ذكرنا.
الوجيز في تفسير الكتاب العزيز للواحدي 468 هـ :
{وكذلك} وكما بينا لك في هذه السورة دلائلنا على المشركين {نفصل} نبين لك حجتنا وأدلتنا ليظهر الحق ولتعرف يا محمد سبيل المجرمين في شركهم بالله في الدنيا وما يصيرون إليه من الخزي يوم القيامة بإخباري إياك.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
ومثل ذلك التفصيل البين، نفصل آيات القرآن ونلخصها في صفة أحوال المجرمين. من هو مطبوع على قلبه لا يرجى إسلامه، ومن يرى فيه أمارة القبول وهو الذي يخاف إذا سمع ذكر القيامة، ومن دخل في الإسلام إلا أنه لا يحفظ حدوده، ولتستوضح سبيلهم فتعامل كلاً منهم بما يجب أن يعامل به، فصلنا ذلك التفصيل.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
وخص سبيل المجرمين لأنهم الذين أثاروا ما تقدم من الأقوال وهم أهم في هذا الموضع لأنها آيات رد عليهم، وأيضاً فتبيين سبيلهم يتضمن بيان سبيل المؤمنين، وتأول ابن زيد أن قوله {المجرمين} يعني به الآمرون بطرد الضعفة.
زاد المسير في علم التفسير لابن الجوزي 597 هـ :
قال ابن قتيبة: ومعنى تفصيلها: إتيانها متفرقة شيئا بعد شيء.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{وكذلك نفصل الآيات} أي ومثل ذلك التفصيل الواضح وعلى نحوه نفصل الآيات المنزلة في بيان الحقائق التي يهتدي بها أهل النظر الصحيح والفقه الدقيق لما فيها من العلم والحكمة، والموعظة والعبرة.
{ولتستبين سبيل المجرمين (55)} أي ولأجل أن يظهر بها طريق المجرمين، فيمتازوا بها عن جماعة المسلمين، قرأ ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو ويعقوب وحفص عن عاصم ولتستبين بالتاء وسبيل بالرفع، أي ولتظهر سبيل المجرمين وتعرف – والسبيل يؤنثه أهل الحجاز ويذكره بنو تميم وجاء التنزيل باللغتين – وقرأ نافع بالتاء ونصب السبيل على أنه خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم أي ولتتبين أيها الرسول طريق المجرمين فلا يخفى عليك شيء منها، وقرأ الباقون وليستبين بالياء ورفع سبيل على لغة التذكير، ففائدة اختلاف القراءات هنا لفظية وهي تذكير السبيل وتأنيثها ومجيء فعل الاستبانة لازما ومتعديا، يقال بان الشيء واستبان بمعنى وضح وظهر ويقال استبنت الشيء بمعنى استوضحته وتبينته أي عرفته بينا.
وأما فائدة الجمع بين الغيبة والخطاب فيها فهي أن تفصيل الآيات هو في نفسه موضح لسبيل المجرمين وأنه ينبغي للمخاطب بذلك أولا بالذات ثم لغيره أن يستبينه منها بتأملها وفهمها والاعتبار بها، فكم من آية بينة في نفسها يغفل الناس عنها {وكأين من آية في السموات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون} [يوسف: 105] والعطف في قوله تعالى: « ولتستبين» قيل إنه عطف على علة محذوفة لقوله: « نفصل» لم يقصد تعليله بها بخصوصها وإنما قصد الإشعار بأن له فوائد جمة من جملتها ما ذكر، أي وكذلك نفصل الآيات لما في تفصيلها من الأحكام والحكم، وبيان الحجج والمواعظ والعبر، ولأجل أن تستبين سبيل المجرمين، فيكون من عطف الخاص على العام. وقيل إنه علة لفعل مقدر هو عين المذكور، أي ولأجل أن تستبين سبيل المجرمين نفصل الآيات، وذلك أنه بين سبيل المؤمنين فعلم منه أن ما خالفه هو سبيل المجرمين. لأن الشيء يعرف بضده. بل بين قبله سبيل المجرمين من الكفار أيضا.
وقال الزمخشري: ومثل ذلك التفصيل البين نفصل آيات القرآن ونلخصها في صفة أحوال المجرمين من هو مطبوع على قلبه لا يرجى إسلامه، ومن يرى فيه أمارة القبول وهو الذي يخاف إذا سمع ذكر القيامة، ومن دخل في الإسلام إلا أنه لا يحفظ حدوده، ولنستوضح سبيلهم فتعامل كلا منهم بما يجب أن يعامل به فصلنا ذلك التفصيل. اه ويسرني أن هذا القول يؤيد ما قدمته في بيان أصناف الناس في زمن نزول السورة وما أرشدت إليه الآيات في معاملة كل صنف منهم وأن ما قلته خير مما قاله ولله الحمد. وفي الآية من محاسن إيجاز القرآن ما لا يخفى. وسيأتي مثل هذا التعبير في قوله تعالى في هذه السورة: {وكذلك نصرف الآيات وليقولوا درست ولنبينه لقوم يعلمون} [الأنعام: 105] وقوله: {وكذلك نفصل الآيات ولعلهم يرجعون} [الأعراف: 174] ولا أذكر أن في القرآن غيرهما.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
(وكذلك نفصل الآيات، ولتستبين سبيل المجرمين)..
ختام هذه الفقرة التي قدمت طبيعة الرسالة وطبيعة الرسول في هذه النصاعة الواضحة. كما قدمت هذه العقيدة عارية من كل زخرف؛ وفصلت الاعتبارات والقيم التي جاءت هذه العقيدة لتلغيها من حياة البشرية؛ والاعتبارات والقيم التي جاءت لتقررها..
بمثل هذا المنهج، وبمثل هذه الطريقة، وبمثل هذا البيان والتفصيل.. تفصل الآيات، التي لا تدع في هذا الحق ريبة؛ ولا تدع في هذا الأمر غموضا؛ ولا تبقى معها حاجة لطلب الخوارق؛ فالحق واضح، والأمر بين، بمثل ذلك المنهج الذي عرض السياق القرآني منه ذلك النموذج..
على أن كل ما سبق في السورة من تفصيل لدلائل الهدى وموحيات الإيمان؛ ومن بيان للحقائق وتقرير للوقائع، يعتبر داخلا في مدلول قوله تعالى:
فهو شأن عجيب!.. إنه يكشف عن خطة المنهج القرآني في العقيدة والحركة بهذه العقيدة! إن هذا المنهج لا يعني ببيان الحق وإظهاره حتى تستبين سبيل المؤمنين الصالحين فحسب. إنما يعني كذلك ببيان الباطل وكشفه حتى تستبين سبيل الضالين المجرمين أيضا.. إن استبانة سبيل المجرمين ضرورية لاستبانة سبيل المؤمنين. وذلك كالخط الفاصل يرسم عند مفرق الطريق!
إن هذا المنهج هو المنهج الذي قرره الله -سبحانه- ليتعامل مع النفوس البشرية.. ذلك أن الله سبحانه يعلم أن إنشاء اليقين الاعتقادي بالحق والخير يقتضي رؤية الجانب المضاد من الباطل والشر؛ والتأكيد من أن هذا باطل محض وشر خالص؛ وأن ذلك حق محض وخير خالص.. كما أن قوة الاندفاع بالحق لا تنشأ فقط من شعور صاحب الحق أنه على الحق؛ ولكن كذلك من شعوره بأن الذي يحاده ويحاربه إنما هو على الباطل.. وأنه يسلك سبيل المجرمين؛ الذين يذكر الله في آية أخرى أنه جعل لكل نبي عدوا منهم (وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا من المجرمين).. ليستقر في نفس النبي ونفوس المؤمنين، أن الذين يعادونهم إنها هم المجرمون؛ عن ثقة، وفي وضوح، وعن يقين.
إن سفور الكفر والشر والإجرام ضروري لوضوح الإيمان والخير والصلاح. واستبانة سبيل المجرمين هدف من أهداف التفصيل الرباني للآيات. ذلك أن أي غبش أو شبهة في موقف المجرمين وفي سبيلهم ترتد غبشا وشبهة في موقف المؤمنين وفي سبيلهم. فهما صفحتان متقابلتان، وطريقان مفترقتان.. ولا بد من وضوح الألوان والخطوط..
ومن هنا يجب أن تبدأ كل حركة إسلامية بتحديد سبيل المؤمنين وسبيل المجرمين. يجب إن تبدأ من تعريف سبيل المؤمنين وتعريف سبيل المجرمين؛ ووضع العنوان المميز للمؤمنين. والعنوان المميز للمجرمين، في عالم الواقع لا في عالم النظريات. فيعرف أصحاب الدعوة الإسلامية والحركة الإسلامية من هم المؤمنون ممن حولهم ومن هم المجرمون. بعد تحديد سبيل المؤمنين ومنهجهم وعلامتهم، وتحديد سبيل المجرمين ومنهجهم وعلامتهم. بحيث لا يختلط السبيلان ولا يتشابه العنوانان، ولا تلتبس الملامح والسمات بين المؤمنين والمجرمين..
وهذا التحديد كان قائما، وهذا الوضوح كان كاملا، يوم كان الإسلام يواجه المشركين في الجزيرة العربية. فكانت سبيل المسلمين الصالحين هي سبيل الرسول صلى الله عليه وسلم ومن معه. وكانت سبيل المشركين المجرمين هي سبيل من لم يدخل معهم في هذا الدين.. ومع هذا التحديد وهذا الوضوح كان القرآن يتنزل وكان الله -سبحانه- يفصل الآيات على ذلك النحو الذي سبقت منه نماذج في السورة -ومنها ذلك النموذج الأخير- لتستبين سبيل المجرمين!
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
الواو استئنافية كما تقدّم في قوله: {وكذلك فتنَّا بعضهم ببعض} [الأنعام: 53]. والجملة تذييل للكلام الذي مضى مبتدئاً بقوله تعالى: {وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربّهم} [الأنعام: 51].
والتفصيل: التبيين والتوضيح، مشتقّ من الفصل، وهو تفرّق الشيء عن الشيء. ولمّا كانت الأشياء المختلطة إذا فُصلت يتبيّن بعضها من بعض أطلق التفصيل على التبيين بعلاقة اللزوم، وشاع ذلك حتَّى صار حقيقة، ومن هذا القبيل أيضاً تسمية الإيضاح تبييناً وإبانة، فإنّ أصل الإبانة القطع. والمراد بالتفصيل الإيضاح، أي الإتيان بالآيات الواضحة الدلالة على المقصود منها.
والآيات: آيات القرآن. والمعنى نفصّل الآيات ونبيِّنها تفصيلاً مثل هذا التفصيل الذي لا فوقه تفصيل، وهو تفصيل يحصل به علم المراد منها بَيّنا.
وقوله: {ولتستبين} عطف على علَّة مقدّرة دلّ عليها قوله: {وكذلك نفصّل الآيات} لأنّ المشار إليه التفصيل البالغ غاية البيان، فيُعلم من الإشارة إليه أنّ الغرض منه اتِّضاح العلم للرسول. فلمَّا كان ذلك التفصيل بهذه المثابة علم منه أنَّه علَّة لشيء يناسبه وهو تبيّن الرسول ذلك التفصيل، فصحّ أن تعطف عليه علّة أخرى من علم الرسول صلى الله عليه وسلم وهي استبانته سبيل المجرمين. فالتقدير مثلاً: وكذلك التفصيل نفصّل الآيات لتعلم بتفصيلها كنهها، ولتستبين سبيل المجرمين، ففي الكلام إيجاز الحذف.
وهكذا كلّما كان استعمال (كذلك) نفعل بعد ذكر أفعال عظيمة صالحاً الفعل المذكور بعد الإشارة لأن يكون علَّة لأمر من شأنه أن يعلّل بمثله صحّ أن تعطف عليه علَّة أخرى كما هنا، وكما في قوله: {وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين} [الأنعام: 75] بخلاف ما لا يصلح، ولذلك فإنَّه إذا أريد ذكر علَّة بعده ذكرت بدون عطف، نحو قوله: {وكذلك جعلناكم أمَّة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس} [البقرة: 143].
و {سبيل المجرمين} طريقهم وسيرتهم في الظلم والحسد والكبر واحتقار الناس والتصلّب في الكفر.
والمجرمون هم المشركون. وضع الظاهر موضع المضمر للتنصيص على أنَّهم المراد ولإجراء وصف الإجرام عليهم. وخصّ المجرمين لأنَّهم المقصود من هذه الآيات كلِّها لإيضاح خفيّ أحوالهم للنبيء صلى الله عليه وسلم والمسلمين.