الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{وَكَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ ٱلۡأٓيَٰتِ وَلِتَسۡتَبِينَ سَبِيلُ ٱلۡمُجۡرِمِينَ} (55)

قوله تعالى : { وَكَذَلِكَ نفَصِّلُ } : الكاف أمرُها واضحٌ من كونها نعتاً لمصدر محذوف أو حالاً من ضمير ذلك المصدر كما هو رأي سيبويه ، والإِشارة ب " ذلك " إلى التفصيل السابق ، تقديره : مثل ذلك التفصيل البيِّنِ ، وهو ما سَبَقَ من أحوال الأمم نفصِّل آيات القرآن . وقال ابن عطية : " والإِشارة بقوله " وكذلك " إلى ما تقدَّم ، من النَّهْي عن طَرْد المؤمنين وبيان فساد منزع المعارضين لذلك ، وتفصيل الآ يات تبيينُها وشَرْحُها " . وهذا شبيهٌ بما تقدم له في قوله : { وَكَذلِكَ فَتَنَّا } [ الأنعام : 53 ] وتقدَّم أنه غير ظاهر .

قوله : { وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ } قرأ الأخوان وأبو بكر : " وليستبين " بالياء من تحت ، " سبيلُ " بالرفع ونافع : " ولتستبين " بالتاء من فوق ، " سبيلَ " بالنصب ، والباقون : بالتاء من فوق ، " سبيل " بالرفع . وهذه القراءات دائرة على تذكير " السبيل " وتأنيثه وتَعَدَّي " استبان " ولُزِومه . وإيضاح هذا أن لغة نجد وتميم تذكير " السبيل " وعليه قوله تعالى :

{ وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الرُّشْدِ لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً }

[ الأعراف : 146 ] ، لغةُ الحجاز التأنيث ، وعليه : { قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي }

[ يوسف : 108 ] وقوله :

خَلِّ السبيل لمَنْ يبني المنار بها *** . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وأمَّا " استبانَ " فيكونُ متعدِّياً نحو : استَبَنْتُ الشيءَ " ويكون لازماً نحو : " استبان الصبح " بمعنى بأن ، فَمَنْ قرأ بالياء من تحت ورَفَع فإنه أسند الفعل إلى " السبيل " فرفْعُه على أنه مذكَّرٌ وعلى أن الفعل لازم ، ومن قرأ بالتاء من فوق فكذلك ولكن على لغة التأنيث . ومن قرأ بالتاء من فوق ونصب " السبيلَ " فإنه أسند الفعلَ إلى المخاطب ونصب " السبيل " على المفعولية وذلك على تعدية الفعل أي : ولتستبين أنت سبيل المجرمين ، فالتاء في " لتستبينَ " مختلفةُ المعنى ، فإنها في إحدى القراءتين للخطاب وفي الأخرى للتأنيث ، وهي في كلا الحالين للمضارعة ، و " تستبين " منصوب بإضمار " أن " بعد لام كي ، وفيما تتعلَّق به هذه اللام وجهان ، أحدهما : أنها معطوفة على علة محذوفة ، وتلك العلة معمولةٌ لقوله : { نفَصِّلُ } والمعنى : وكذلك نفصل الآيات لتستبين لكم ولتستبين .

والثاني : أنها متعلقة بمحذوف مقدر بعدها أي : ولتستبين سبيل المجرمين فصَّلناها ذلك التفصيل . وفي الكلام حذفُ معطوف على رأيٍ ، أي : وسبيل المؤمنين ، كقوله تعالى : { سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ } [ النحل : 81 ] . وقيل : لا يُحتاج إلى ذلك ، لأن المقام إنما يقتضي ذِكْرَ المجرمين فقط ، إذ هم الذين أثاروا ما تقدَّم ذِكْره .