في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب  
{وَكَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ ٱلۡأٓيَٰتِ وَلِتَسۡتَبِينَ سَبِيلُ ٱلۡمُجۡرِمِينَ} (55)

50

( وكذلك نفصل الآيات ، ولتستبين سبيل المجرمين ) . .

ختام هذه الفقرة التي قدمت طبيعة الرسالة وطبيعة الرسول في هذه النصاعة الواضحة . كما قدمت هذه العقيدة عارية من كل زخرف ؛ وفصلت الاعتبارات والقيم التي جاءت هذه العقيدة لتلغيها من حياة البشرية ؛ والاعتبارات والقيم التي جاءت لتقررها . .

( وكذلك نفصل الآيات ) . .

بمثل هذا المنهج ، وبمثل هذه الطريقة ، وبمثل هذا البيان والتفصيل . . تفصل الآيات ، التي لا تدع في هذا الحق ريبة ؛ ولا تدع في هذا الأمر غموضا ؛ ولا تبقى معها حاجة لطلب الخوارق ؛ فالحق واضح ، والأمر بين ، بمثل ذلك المنهج الذي عرض السياق القرآني منه ذلك النموذج . .

على أن كل ما سبق في السورة من تفصيل لدلائل الهدى وموحيات الإيمان ؛ ومن بيان للحقائق وتقرير للوقائع ، يعتبر داخلا في مدلول قوله تعالى :

( وكذلك نفصل الآيات ) . .

أما ختام هذه الآية القصيرة :

( ولتستبين سبيل المجرمين ) . .

فهو شأن عجيب ! . . إنه يكشف عن خطة المنهج القرآني في العقيدة والحركة بهذه العقيدة ! إن هذا المنهج لا يعني ببيان الحق وإظهاره حتى تستبين سبيل المؤمنين الصالحين فحسب . إنما يعني كذلك ببيان الباطل وكشفه حتى تستبين سبيل الضالين المجرمين أيضا . . إن استبانة سبيل المجرمين ضرورية لاستبانة سبيل المؤمنين . وذلك كالخط الفاصل يرسم عند مفرق الطريق !

إن هذا المنهج هو المنهج الذي قرره الله - سبحانه - ليتعامل مع النفوس البشرية . . ذلك أن الله سبحانه يعلم أن إنشاء اليقين الاعتقادي بالحق والخير يقتضي رؤية الجانب المضاد من الباطل والشر ؛ والتأكيد من أن هذا باطل محض وشر خالص ؛ وأن ذلك حق ممحض وخير خالص . . كما أن قوة الاندفاع بالحق لا تنشأ فقط من شعور صاحب الحق أنه على الحق ؛ ولكن كذلك من شعوره بأن الذي يحاده ويحاربه إنما هو على الباطل . . وأنه يسلك سبيل المجرمين ؛ الذين يذكر الله في آية أخرى أنه جعل لكل نبي عدوا منهم ( وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا من المجرمين ) . . ليستقر في نفس النبي ونفوس المؤمنين ، أن الذين يعادونهم إنها هم المجرمون ؛ عن ثقة ، وفي وضوح ، وعن يقين .

إن سفور الكفر والشر والإجرام ضروري لوضوح الإيمان والخير والصلاح . واستبانة سبيل المجرمين هدف من أهداف التفصيل الرباني للآيات . ذلك أن أي غبش أو شبهة في موقف المجرمين وفي سبيلهم ترتدغبشا وشبهة في موقف المؤمنين وفي سبيلهم . فهما صفحتان متقابلتان ، وطريقان مفترقتان . . ولا بد من وضوح الألوان والخطوط . .

ومن هنا يجب أن تبدأ كل حركة إسلامية بتحديد سبيل المؤمنين وسبيل المجرمين . يجب إن تبدأ من تعريف سبيل المؤمنين وتعريف سبيل المجرمين ؛ ووضع العنوان المميز للمؤمنين . والعنوان المميز للمجرمين ، في عالم الواقع لا في عالم النظريات . فيعرف أصحاب الدعوة الإسلامية والحركة الإسلامية من هم المؤمنون ممن حولهم ومن هم المجرمون . بعد تحديد سبيل المؤمنين ومنهجهم وعلامتهم ، وتحديد سبيل المجرمين ومنهجهم وعلامتهم . بحيث لا يختلط السبيلان ولا يتشابه العنوانان ، ولا تلتبس الملامح والسمات بين المؤمنين والمجرمين . .

وهذا التحديد كان قائما ، وهذا الوضوح كان كاملا ، يوم كان الإسلام يواجه المشركين في الجزيرة العربية . فكانت سبيل المسلمين الصالحين هي سبيل الرسول [ ص ] ومن معه . وكانت سبيل المشركين المجرمين هي سبيل من لم يدخل معهم في هذا الدين . . ومع هذا التحديد وهذا الوضوح كان القرآن يتنزل وكان الله - سبحانه - يفصل الآيات على ذلك النحو الذي سبقت منه نماذج في السورة - ومنها ذلك النموذج الأخير - لتستبين سبيل المجرمين !

وحيثما واجه الإسلام الشرك والوثنية والإلحاد والديانات المنحرفة المتخلفة من الديانات ذات الأصل السماوي بعد ما بدلتها وأفسدتها التحريفات البشرية . . حيثما واجه الإسلام هذه الطوائف والملل كانت سبيل المؤمنين الصالحين واضحة ، وسبيل المشركين الكافرين المجرمين واضحة كذلك . . لا يجدي معها التلبيس !

ولكن المشقة الكبرى التي تواجه حركات الإسلام الحقيقية اليوم ليست في شيء من هذا . . إنها تتمثل في وجود أقوام من الناس من سلالات المسلمين ، في أوطان كانت في يوم من الأيام دارا للاسلام ، يسيطر عليها دين الله ، وتحكم بشريعته . . ثم اذا هذه الارض ، واذا هذه الاقوام ، تهجر الاسلام حقيقة ، وتعلنه اسما . وإذا هي تتنكر لمقومات الإسلام اعتقادا وواقعا . وإن ظنت أنها تدين بالإسلام اعتقادا ! فالإسلام شهادة أن لا إله إلا الله . . وشهادة أن لا إله إلا الله تتمثل في الاعتقاد بأن الله - وحده - هو خالق هذا الكون المتصرف فيه . وأن الله - وحده - هو الذي يتقدم إليه العباد بالشعائر التعبدية ونشاط الحياة كله . وأن الله - وحده - هو الذي يتلقى منه العباد الشرائع ويخضعون لحكمه في شأن حياتهم كله . . وأيما فرد لم يشهد أن لا إله إلا الله - بهذا المدلول - فإنه لم يشهد ولم يدخل في الإسلام بعد . كائنا ما كان اسمه ولقبه ونسبه . وأيما أرض لم تتحقق فيها شهادة أن لا إله إلا الله - بهذا المدلول - - فهي أرض لم تدن بدين الله ، ولم تدخل في الإسلام بعد . .

وفي الأرض اليوم أقوام من الناس أسماؤهم أسماء المسلمين ؛ وهم من سلالات المسلمين . وفيها أوطان كانت في يوم من الأيام دارا للإسلام . . ولكن لا الأقوام اليوم تشهد أن لا إله إلا الله - بذلك المدلول - ولا الأوطان اليوم تدين لله بمقتضى هذا المدلول . .

وهذا أشق ما تواجهه حركات الإسلام الحقيقية في هذه الأوطان مع هؤلاء الأقوام !

أشق ما تعانيه هذه الحركات هو الغبش والغموض واللبس الذي أحاط بمدلول لا إله إلا الله ، ومدلول الإسلام في جانب ؛ وبمدلول الشرك وبمدلول الجاهلية في الجانب الآخر . .

أشق ما تعانيه هذه الحركات هو عدم استبانة طريق المسلمين الصالحين ، وطريق المشركين المجرمين ؛ واختلاط الشارات والعناوين ؛ والتباس الأسماء والصفات ؛ والتيه الذي لا تتحدد فيه مفارق الطريق !

ويعرف أعداء الحركات الإسلامية هذه الثغرة . فيعكفون عليها توسيعا وتمييعا وتلبيسا وتخليطا . حتى يصبحالجهر بكلمة الفصل تهمة يؤخذ عليها بالنواصي والأقدام ! . . تهمة تكفير " المسلمين " ! ! ! ويصبح الحكم في أمر الإسلام والكفر مسألة المرجع فيها لعرف الناس واصطلاحهم ، لا إلى قول الله ولا إلى قول رسول الله !

هذه هي المشقة الكبرى . . وهذه كذلك هي العقبة الأولى التي لا بد أن يجتازها أصحاب الدعوة إلى الله في كل جيل !

يجب أن تبدأ الدعوة إلى الله باستبانة سبيل المؤمنين وسبيل المجرمين . . ويجب ألا تأخذ أصحاب الدعوة إلى الله في كلمة الحق والفصل هوادة ولا مداهنة . وألا تأخذهم فيها خشية ولا خوف ؛ وألا تقعدهم عنها لومة لائم ، ولا صيحة صائح : انظروا ! إنهم يكفرون المسلمين !

إن الإسلام ليس بهذا التميع الذي يظنه المخدوعون ! إن الإسلام بين والكفر بين . . الإسلام شهادة أن لا إله إلا الله - بذلك المدلول - فمن لم يشهدها على هذا النحو ؛ ومن لم يقمها في الحياة على هذا النحو ، فحكم الله ورسوله فيه أنه من الكافرين الظالمين الفاسقين . . المجرمين .

( وكذلك نفصل الآيات ، ولتستبين سبيل المجرمين ) . .

أجل يجب أن يجتاز أصحاب الدعوة إلى الله هذه العقبة ؛ وأن تتم في نفوسهم هذه الاستبانة ؛ كي تنطلق طاقاتهم كلها في سبيل الله لا تصدها شبهة ، ولا يعوقها غبش ، ولا يميعها لبس . فإن طاقاتهم لا تنطلق إلا إذا اعتقدوا في يقين أنهم هم " المسلمون " وأن الذين يقفون في طريقهم ويصدونهم ويصدون الناس عن سبيل الله هم " المجرمون " . . كذلك فإنهم لن يحتملوا متاعب الطريق إلا إذا استيقنوا أنها قضية كفر وإيمان . وأنهم وقومهم على مفرق الطريق ، وأنهم على ملة وقومهم على ملة . وأنهم في دين وقومهم في دين :

( وكذلك نفصل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين ) . .

. . وصدق الله العظيم . .