المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{قُل لَّآ أَجِدُ فِي مَآ أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَىٰ طَاعِمٖ يَطۡعَمُهُۥٓ إِلَّآ أَن يَكُونَ مَيۡتَةً أَوۡ دَمٗا مَّسۡفُوحًا أَوۡ لَحۡمَ خِنزِيرٖ فَإِنَّهُۥ رِجۡسٌ أَوۡ فِسۡقًا أُهِلَّ لِغَيۡرِ ٱللَّهِ بِهِۦۚ فَمَنِ ٱضۡطُرَّ غَيۡرَ بَاغٖ وَلَا عَادٖ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٞ رَّحِيمٞ} (145)

145- قل - أيها النبي - : لا أجد الآن في مصدر التحليل والتحريم الذي أوحى به إلىَّ طعاماً محرماً على آكل يأكله ، إلا أن يكون هذا الشيء ميتة لم تذَكَّ ذكاة شرعية ، أو دماً سائلا ، أو لحم خنزير ، فإن ذلك المذكور ضارٌّ خبيث لا يجوز أكله أو أن يكون هذا الشيء المحرم فيه خروج من العقيدة الصحيحة ، بأن ذكر عند ذبحه اسم غير الله ، كصنم معبود آخر . على أن من دعته الضرورة إلى أكل شيء من هذه المحرمات غير طالب اللذة بالأكل ، وغير متجاوز قدر الضرورة ، فلا حرج عليه لأن ربك غفور رحيم{[65]} .


[65]:انظر التعليق على تفسير الآية الثالثة من سورة المائدة. وفي الآية الكريمة نص على علة تحريم أكل لحم الخنزير بأنه رجس، والرجس هو النجس، وقد جاء في القاموس المحيط: أن الرجس هو القذر والمأثم وكل ما استقذر من العمل، والعمل المؤدي إلى العذاب. فالرجس إذن كلمة جامعة لمعاني القبح والقذر والعذر وهي تلصق بالخنزير حتى عند الشعوب التي تأكله والخنزير حيوان قارت أو رمام أي أنه يأكل ما يجده في القمامة والنفايات وفضول الإنسان والحيوان، وهذا هو السبب الرئيسي في قيامه بدوره في انتقال بعض الأمراض الوبيلة للإنسان على نحو ما هو مفصل في التعليق السابق المشار إليه.
 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{قُل لَّآ أَجِدُ فِي مَآ أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَىٰ طَاعِمٖ يَطۡعَمُهُۥٓ إِلَّآ أَن يَكُونَ مَيۡتَةً أَوۡ دَمٗا مَّسۡفُوحًا أَوۡ لَحۡمَ خِنزِيرٖ فَإِنَّهُۥ رِجۡسٌ أَوۡ فِسۡقًا أُهِلَّ لِغَيۡرِ ٱللَّهِ بِهِۦۚ فَمَنِ ٱضۡطُرَّ غَيۡرَ بَاغٖ وَلَا عَادٖ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٞ رَّحِيمٞ} (145)

{ 145 ، 146 } { قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ }

لما ذكر تعالى ذم المشركين على ما حرموا من الحلال ونسبوه إلى الله ، وأبطل قولهم . أمر تعالى رسوله أن يبين للناس ما حرمه الله عليهم ، ليعلموا أن ما عدا ذلك حلال ، مَنْ نسب تحريمه إلى الله فهو كاذب مبطل ، لأن التحريم لا يكون إلا من عند الله على لسان رسوله ، وقد قال لرسوله : { قُلْ لَا أَجِدُ فِيمَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ } أي : محرما أكله ، بقطع النظر عن تحريم الانتفاع بغير الأكل وعدمه .

{ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً } والميتة : ما مات بغير ذكاة شرعية ، فإن ذلك لا يحل . كما قال تعالى : { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ }

{ أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا } وهو الدم الذي يخرج من الذبيحة عند ذكاتها ، فإنه الدم الذي يضر احتباسه في البدن ، فإذا خرج من البدن زال الضرر بأكل اللحم ، ومفهوم هذا اللفظ ، أن الدم الذي يبقى في اللحم والعروق بعد الذبح ، أنه حلال طاهر .

{ أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ } أي : فإن هذه الأشياء الثلاثة ، رجس ، أي : خبث نجس مضر ، حرمه الله لطفا بكم ، ونزاهة لكم عن مقاربة الخبائث .

{ أَوْ } إلا أن يكون { فسقا أهل لغير الله به } أي : إلا أن تكون الذبيحة مذبوحة لغير الله ، من الأوثان والآلهة التي يعبدها المشركون ، فإن هذا من الفسق الذي هو الخروج عن طاعة الله إلى معصيته ، أي : ومع هذا ، فهذه الأشياء المحرمات ، من اضطر إليها ، أي : حملته الحاجة والضرورة إلى أكل شيء منها ، بأن لم يكن عنده شيء وخاف على نفسه التلف . { غَيْرَ بَاغٍ ولا عاد } أي : { غَيْرَ بَاغٍ } أي : مريدٍ لأكلها من غير اضطرار وَلَا متعد ، أي : متجاوز للحد ، بأن يأكل زيادة عن حاجته . { فمن اضطر غير باغ ولا عاد فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } أي : فالله قد سامح من كان بهذه الحال .

واختلف العلماء رحمهم الله في هذا الحصر المذكور في هذه الآية ، مع أن ثَمَّ محرمات لم تذكر فيها ، كالسباع وكل ذي مخلب من الطير ونحو ذلك ، فقال بعضهم : إن هذه الآية نازلة قبل تحريم ما زاد على ما ذكر فيها ، فلا ينافي هذا الحصر المذكور فيها التحريم المتأخر بعد ذلك ؛ لأنه لم يجده فيما أوحي إليه في ذلك الوقت ، وقال بعضهم : إن هذه الآية مشتملة على سائر المحرمات ، بعضها صريحا ، وبعضها يؤخذ من المعنى وعموم العلة .

فإن قوله تعالى في تعليل الميتة والدم ولحم الخنزير ، أو الأخير منها فقط : { فَإِنَّهُ رِجْسٌ } وصف شامل لكل محرم ، فإن المحرمات كلها رجس وخبث ، وهي من الخبائث المستقذرة التي حرمها الله على عباده ، صيانة لهم ، وتكرمة عن مباشرة الخبيث الرجس .

ويؤخذ تفاصيل الرجس المحرم من السُنَّة ، فإنها تفسر القرآن ، وتبين المقصود منه ، فإذا كان الله تعالى لم يحرم من المطاعم إلا ما ذكر ، والتحريم لا يكون مصدره ، إلا شرع الله -دل ذلك على أن المشركين ، الذين حرموا ما رزقهم الله مفترون على الله ، متقولون عليه ما لم يقل .

وفي الآية احتمال قوي ، لولا أن الله ذكر فيها الخنزير ، وهو : أن السياق في نقض أقوال المشركين المتقدمة ، في تحريمهم لما أحله الله وخوضهم بذلك ، بحسب ما سولت لهم أنفسهم ، وذلك في بهيمة الأنعام خاصة ، وليس منها محرم إلا ما ذكر في الآية : الميتة منها ، وما أهل لغير الله به ، وما سوى ذلك فحلال .

ولعل مناسبة ذكر الخنزير هنا على هذا الاحتمال ، أن بعض الجهال قد يدخله في بهيمة الأنعام ، وأنه نوع من أنواع الغنم ، كما قد يتوهمه جهلة النصارى وأشباههم ، فينمونها كما ينمون المواشي ، ويستحلونها ، ولا يفرقون بينها وبين الأنعام ، فهذا المحرم على هذه الأمة كله{[303]}  من باب التنزيه لهم والصيانة .


[303]:- في ب: كلها.
 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{قُل لَّآ أَجِدُ فِي مَآ أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَىٰ طَاعِمٖ يَطۡعَمُهُۥٓ إِلَّآ أَن يَكُونَ مَيۡتَةً أَوۡ دَمٗا مَّسۡفُوحًا أَوۡ لَحۡمَ خِنزِيرٖ فَإِنَّهُۥ رِجۡسٌ أَوۡ فِسۡقًا أُهِلَّ لِغَيۡرِ ٱللَّهِ بِهِۦۚ فَمَنِ ٱضۡطُرَّ غَيۡرَ بَاغٖ وَلَا عَادٖ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٞ رَّحِيمٞ} (145)

136

والآن وقد كشف لهم عما في معتقداتهم وتصوراتهم وتصرفاتهم من وهن وسخف وهزال . وقد بين لهم أنها لا تقوم على علم ولا بينة ولا أساس . وقد ردهم إلى نشأة الحرث والأنعام التي يتصرفون فيها من عند أنفسهم ، أو بوحي شياطينهم وشركائهم ، بينما هؤلاء لم يخلقوها لهم ، إنما الذي خلقها لهم هو الله ، الذي يجب أن تكون له وحده الحاكمية فيما خلق وفيما رزق ، وفيما أعطى من الأموال للعباد . .

الآن يقرر لهم ما حرمه الله عليهم من هذا كله . ما حرمه الله حقاً عن بينة ووحي ، لا عن ظن ووهم . والله هو صاحب الحاكمية الشرعية ، الذي إذا حرم الشيء فهو حرام ، وإذا أحله فهو حلال ؛ بلا تدخل من البشر ولا مشاركة ولا تعقيب في سلطان الحاكمية والتشريع . . وبالمناسبة يذكر ما حرمه الله على اليهود خاصة ، وأحله للمسلمين ، فقد كان عقوبة خاصة لليهود على ظلمهم وبعدهم عن شرع الله !

( قل : لا أجد فيما أوحي إليّ محرماً على طاعم يطعمه ، إلا أن يكون ميتة ، أو دماً مسفوحاً أو لحم خنزير - فإنه رجس - أو فسقاً أهل لغير الله به . فمن اضطر - غير باغ ولا عاد - فإن ربك غفور رحيم . وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر . ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما - إلا ما حملت ظهورهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم - ذلك جزيناهم ببغيهم وإنا لصادقون . فإن كذبوك فقل : ربكم ذو رحمة واسعة ، ولا يرد بأسه عن القوم المجرمين ) . .

قال أبو جعفر بن جرير الطبري :

" يقول - جل ثناؤه - لنبيه محمد [ ص ] قل ، يا محمد ، لهؤلاء الذين جعلوا الله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيباً ، ولشركائهم من الآلهة والأنداد مثله . والقائلين : هذه أنعام وحرث حجر لا يطعمها إلا من نشاء - بزعمهم - والمحرمين من أنعام أخر ظهورها ، والتاركين ذكر اسم الله على أخر منها . والمحرمين بعض ما في بطون بعض أنعامهم على إناثهم وأزواجهم ، ومُحليه لذكورهم . المحرمين ما رزقهم الله افتراء على الله ؛ وإضافة ما يحرمون من ذلك إلى أن الله هو الذي حرمه عليهم : أجاءكم من الله رسول بتحريمه ذلك عليكم ، فأنبئونا به ، أم وصاكم الله بتحريمه مشاهدة منكم له ، فسمعتم منه تحريمه ذلك عليكم فحرمتموه ؟ فإنكم كذبة إن ادعيتم ذلك ، ولا يمكنكم دعواه ، لأنكم إذا ادعيتموه علم الناس كذبكم . فإني لا أجد فيما أوحي إلي من كتابه وآي تنزيله شيئاً محرماً على آكل يأكله ، مما تذكرون أنه حرمه من هذه الأنعام التي تصفون تحريم ما حرم عليكم منها - بزعمكم - إلا أن يكون( ميتة ) ، قد ماتت بغير تذكية ، أو ( دماً مسفوحاً ) ، وهو المنصبّ ، أو إلا أن يكون لحم خنزير ( فإنه رجس ) . . ( أو فسقا ) " يقول : أو إلا أن يكون فسقاً ، يعني بذلك : أو إلا أن يكون مذبوحاً ذبحه ذابح من المشركين من عبدة الأوثان لصنمه وآلهته فذكر اسم وثنه . فإن ذلك الذبح فسق ، نهى الله عنه وحرمه ، ونهى من آمن به عن أكل ما ذبح كذلك لأنه ميتة .

" وهذا إعلام من الله - جل ثناؤه - للمشركين الذين جادلوا نبي الله وأصحابه في تحريم الميتة بما جادلوهم به ، أن الذي جادلوهم فيه من ذلك هو الحرام الذي حرمه الله ، وأن الذي زعموا أن الله حرمه حلال أحله الله ؛ وأنهم كذبة في إضافتهم تحريمه إلى الله " . .

وقال في تأويل قوله تعالى : ( فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن ربك غفور رحيم ) :

. . . " أن معناه : فمن اضطر إلى أكل ما حرم الله من أكل الميتة والدم المسفوح أو لحم الخنزير ، أو ما أهل لغير الله به ، غير باغ في أكله إياه تلذذاً ، لا لضرورة حالة من الجوع ؛ ولا عاد في أكله بتجاوزه ما حده الله وأباحه له من أكله ، وذلك أن يأكل منه ما يدفع عنه الخوف على نفسه بترك أكله من الهلاك . . لم يتجاوز ذلك إلى أكثر منه . . فلا حرج عليه في أكله ما أكل من ذلك . ( فإن الله غفور ) فيما فعل من ذلك ، فساتر عليه ، بتركه عقوبته عليه . ولو شاء عاقبة عليه . ( رحيم ) بإباحته إياه أكل ذلك عند حاجته إليه . ولو شاء حرمه عليه ومنعه منه " .

أما حد الاضطرار الذي يباح فيه الأكل من هذه المحرمات ؛ والمقدار المباح منها فحولهما خلافات فقهية . . فرأي أنه يباح ما يحفظ الحياة فقد عند خوف الهلاك لو امتنع . . ورأي أنه يباح ما يحقق الكفاية والشبع . . ورأي أنه يباح فوق ذلك ما يدخر لأكلات أخرى إذا خيف انقطاع الطعام . . ولا ندخل في تفصيلات الفروع . . فهذا القدر منها يكفي في هذا الموضع .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{قُل لَّآ أَجِدُ فِي مَآ أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَىٰ طَاعِمٖ يَطۡعَمُهُۥٓ إِلَّآ أَن يَكُونَ مَيۡتَةً أَوۡ دَمٗا مَّسۡفُوحًا أَوۡ لَحۡمَ خِنزِيرٖ فَإِنَّهُۥ رِجۡسٌ أَوۡ فِسۡقًا أُهِلَّ لِغَيۡرِ ٱللَّهِ بِهِۦۚ فَمَنِ ٱضۡطُرَّ غَيۡرَ بَاغٖ وَلَا عَادٖ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٞ رَّحِيمٞ} (145)

يقول تعالى آمرًا عبده ورسوله محمدًا ، صلوات الله وسلامه عليه : قل لهؤلاء الذين حرموا ما رزقهم الله افتراء على الله : { لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ } أي : آكل يأكله . قيل : معناه : لا أجد شيئًا مما حرمتم حرامًا سوى هذه . وقيل : معناه : لا أجد من الحيوانات شيئًا{[11286]} حرامًا سوى هذه . فعلى هذا يكون ما ورد من التحريمات بعد هذا في سورة " المائدة " ، وفي الأحاديث الواردة ، رافعًا لمفهوم هذه الآية .

ومن الناس من يسمي ذلك نسخًا ، والأكثرون من المتأخرين لا يسمونه نسخًا ؛ لأنه من باب رفع مباح الأصل ، والله أعلم .

قال العَوْفي ، عن ابن عباس : { أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا } يعني : المهراق .

قال عِكْرِمة في قوله : { أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا } لولا هذه الآية لتتبع الناس ما في العُرُوق ، كما تتبعه اليهود .

وقال حماد ، عن عمران بن حُدَير قال : سألت أبا مِجْلَز عن الدم ، وما يتلطخ من الذبح من الرأس ، وعن القِدْر يُرَى فيها الحمرة ، فقال : إنما نهى الله عن الدم المسفوح .

وقال قتادة : حرم من الدماء ما كان مسفوحًا ، فأما لحم خالطه دم فلا بأس به .

وقال ابن جرير : حدثنا المثنى ، حدثنا حجاج بن مِنْهال ، حدثنا حماد ، عن يحيى بن سعيد ، عن القاسم ، عن عائشة : أنها كانت لا ترى بلحوم السباع بأسًا ، والحمرة والدم يكونان على{[11287]} القدر بأسًا ، وقرأت هذه الآية . صحيح غريب{[11288]} .

وقال الحميدي : حدثنا سفيان ، حدثنا عمرو بن دينار قال : قلت لجابر بن عبد الله : إنهم يزعمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن لحوم الحمر الأهلية زمن خيبر ، فقال : قد كان يقول ذلك " الحَكَمُ بنُ عَمْرو " عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولكن أبى ذلك الحبر - يعني ابن عباس - وقرأ : { قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا } الآية .

وهكذا رواه البخاري عن علي بن المديني ، عن سفيان ، به . وأخرجه أبو داود من حديث ابن جُرَيْج ، عن عمرو بن دينار . ورواه الحاكم في مستدركه مع أنه في صحيح البخاري ، كما رأيت{[11289]} .

وقال أبو بكر بن مَرْدُوَيه والحاكم في مستدركه : حدثنا محمد بن على بن دُحَيم ، حدثنا أحمد بن حازم ، حدثنا أبو نُعَيم الفضل بن دُكَيْن ، حدثنا محمد بن شريك ، عن عمرو بن دينار ، عن أبي الشعثاء ، عن ابن عباس قال : كان أهل الجاهلية يأكلون أشياء ويتركون أشياء تقذرا ، فبعث الله نبيه وأنزل كتابه ، وأحل حلاله وحرم حرامه ، فما أحل فهو حلال ، وما حرم فهو حرام ، وما سكت عنه فهو عفو ، وتلا هذه الآية : { قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ [ إِلا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا ] }{[11290]} إلى آخر الآية .

وهذا لفظ ابن مَرْدُوَيه . ورواه أبو داود منفردًا به ، عن محمد بن داود بن صبيح ، عن أبي نعيم به . وقال الحاكم : هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه{[11291]} .

وقال الإمام أحمد : حدثنا عفان ، حدثنا أبو عَوَانة ، عن سِمَاك بن حرب ، عن عِكْرِمة ، عن ابن عباس قال : ماتت شاة لسَوْدَة بنت زَمْعَة ، فقالت : يا رسول الله ، ماتت فلانة - تعني الشاة - قال : " فلم لا{[11292]} أخذتم مَسْكها ؟ " . قالت : نأخذ مَسْك شاة قد ماتت ؟ ! فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنما قال الله : { قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزيرٍ } وإنكم لا تطعمونه ، أن تدبغوه فتنتفعوا به " . فأرسلت فسلخت مسكها فدبغته ، فاتخذت منه قربة ، حتى تخرقت عندها{[11293]} .

ورواه البخاري والنسائي ، من حديث الشعبي ، عن عِكْرِمة ، عن ابن عباس ، عن سودة بنت زمعة ، بذلك أو نحوه{[11294]} .

وقال سعيد بن منصور : حدثنا عبد العزيز بن محمد ، عن عيسى بن نُميلَة الفزاري ، عن أبيه قال : كنت عند ابن عمر ، فسأله رجل عن أكل القنفذ ، فقرأ عليه : { قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ [ إِلا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزيرٍ ] }{[11295]} الآية ، فقال شيخ عنده : سمعت أبا هريرة يقول : ذكر عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال : " خبيث من الخبائث " . فقال ابن عمر : إن كان النبي صلى الله عليه وسلم قاله فهو كما قال .

ورواه أبو داود ، عن أبي ثور ، عن سعيد بن منصور ، به{[11296]} .

وقوله تعالى : { فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ } أي : فمن اضطر إلى أكل شيء مما حُرّم في هذه الآية الكريمة ، وهو غير متلبس ببغي ولا عدوان ، { فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } أي : غفور له ، رحيم به .

وقد تقدم تفسير هذه الآية في سورة البقرة بما فيه كفاية .

والمقصود من سياق هذه الآية الكريمة الرد على المشركين الذين ابتدعوا ما ابتدعوه ، من تحريم المحرمات على أنفسهم بآرائهم الفاسدة من البَحِيرة والسائبة والوصيلة والحام ونحو ذلك ، فأمر [ الله ]{[11297]} رسوله أن يخبرهم أنه لا يجد فيما أوحاه الله إليه أن ذلك محرم ، وإنما حُرِّم ما ذكر في [ هذه ]{[11298]} الآية ، من الميتة ، والدم المسفوح ، ولحم الخنزير ، وما أهل لغير الله به . وما عدا ذلك فلم يحرم ، وإنما هو عفو مسكوت عنه ، فكيف تزعمون [ أنتم ]{[11299]} أنه حرام ، ومن أين حرمتموه ولم يحرمه [ الله ]{[11300]} ؟ وعلى هذا فلا يبقى تحريم أشياء أخر فيما بعد هذا ، كما جاء النهي عن لحوم الحمر ولحوم السباع ، وكل ذي مخلب من الطير ، على المشهور من مذاهب{[11301]} العلماء .


[11286]:في م: "شيئا من الحيوانات".
[11287]:في م، أ: "يكون في أعلى".
[11288]:تفسير الطبري (12/194)
[11289]:مسند الحميدي (2/379) ورواه البخاري في صحيحه برقم (5529) لكنه من مسند جابر بن زيد رضي الله عنه، ورواه أبو داود في السنن برقم (3808) من طريق عمرو بن دينار، عن رجل، عن جابر بن عبد الله، رضي الله عنه، ولا عتب على الحاكم، فإنه رواه في مستدركه (2/317) من طريق عمرو بن دينار، عن جابر بن عبد الله من مسنده، ثم إنه حدد مقصوده بقوله: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه بهذه السياقة"
[11290]:زيادة من م.
[11291]:المستدرك (4/115) وسنن أبي داود برقم (3800).
[11292]:في م: "فلولا".
[11293]:المسند (1/327).
[11294]:صحيح البخاري برقم (6686) وسنن النسائي (7/173).
[11295]:زيادة من أ.
[11296]:سنن أبي داود برقم (3799).
[11297]:زيادة من م.
[11298]:زيادة من م، أ.
[11299]:زيادة من م، أ.
[11300]:زيادة من م، أ.
[11301]:في أ: "مذهب".
 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{قُل لَّآ أَجِدُ فِي مَآ أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَىٰ طَاعِمٖ يَطۡعَمُهُۥٓ إِلَّآ أَن يَكُونَ مَيۡتَةً أَوۡ دَمٗا مَّسۡفُوحًا أَوۡ لَحۡمَ خِنزِيرٖ فَإِنَّهُۥ رِجۡسٌ أَوۡ فِسۡقًا أُهِلَّ لِغَيۡرِ ٱللَّهِ بِهِۦۚ فَمَنِ ٱضۡطُرَّ غَيۡرَ بَاغٖ وَلَا عَادٖ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٞ رَّحِيمٞ} (145)

هذا أمر من الله عز وجل بأن يشرع للناس جميعاً ويبين عن الله ما أوحي إليه ، وهذه الآية نزلت بمكة ولم يكن في الشريعة في ذلك الوقت شيء محرم غير هذه الأشياء ، ثم نزلت سورة المائدة بالمدينة وزيد في المحرمات كالمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة ، فإن هذه وإن كانت في حكم الميتة فكان في النظر احتمال أن تلحق بالمذكيات لأنها بأسباب وليست حتف الأنف{[5129]} ، فلما بين النص إلحاقها بالميتة كانت زيادة في المحرمات ، ثم نزل النص على رسول الله صلى الله عليه وسلم في تحريم الخمر بوحي غير مُنْجَز ، وبتحريم كل ذي ناب من السباع ، فهذه كلها زيادات في التحريم ولفظة التحريم إذا وردت على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإنها صالحة أن تنتهي بالشيء المذكور إلى غاية المنع والحظر ، وصالحة بحسب اللغة أن تقف دون الغاية في حيز الكراهية ونحوها ، فما اقترنت به قرينة التسليم من الصحابة المتأولين وأجمع عليه الكل منهم ولم يضطرب فيه ألفاظ الأحاديث وأمضاه الناس على أذلاله{[5130]} وجب بالشرع أن يكون تحريمه قد وصل الغاية من الحظر والمنع ولحق بالخنزير والميتة ، وهذه صفة تحريم الخمر وما اقترنت به قرينة ألفاظ الحديث واختلفت الأمة فيه مع علمهم بالأحاديث كقوله عليه السلام «كل ذي ناب من السباع حرام »{[5131]} .

وقد ورد نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل كل ذي ناب من السباع{[5132]} ثم اختلفت الصحابة ومن بعدهم في تحريم ذلك فجاز لهذه الوجوه لمن ينظر أن يحمل لفظ التحريم على المنع الذي هو الكراهية ونحوها ، وما اقترنت به قرينة التأويل كتحريمه عليه السلام لحوم الحمر الإنسية فتأول بعض الصحابة الحاضرين ذلك لأنها نجس ، وتأول بعضهم ذلك لئلا تفنى حمولة الناس ، وتأول بعضهم التحريم المحض ، وثبت في الأمة الاختلاف في تحريم لحمها فجائز لمن ينظر من العلماء أن يحمل لفظ التحريم بحسب اجتهاده وقياسه على كراهية أو نحوها .

وروي عن ابن عامر أنه قرأ «فيما أَوحَى إلي » بفتح الهمزة والحاء وقرأ جمهور الناس يطعمه وقرأ أبو جعفر محمد بن علي «يطّعِمه » بتشديد الطاء وكسر العين ، وقرأ محمد بن الحنفية وعائشة وأصحاب عبد الله «طعمه » بفعل ماض ، وقرأ نافع والكسائي وأبو عمرو وعاصم «إلا أن يكون » بالياء على تقدير إلا أن يكون المطعوم ، وقرأ ابن كثير وحمزة وأبو عمرو أيضاً «إلا أن تكون » بالتاء من فوق «ميتة » على تقدير إلا أن تكون المطعومة ، وقرأ ابن عامر وحده وذكرها مكي عن ابي جعفر «إلا أن تكون » بالتاء «ميتةٌ » بالرفع على أن تجعل «تكون » بمعنى تقع ، ويحتاج على هذه القراءة أن يعطف { أو دماً } على موضع «أن تكون » ، لأنها في موضع نصب بالاستثناء ، والمسفوح الجاري الذي يسيل ، وجعل الله هذا فرقاً بين القليل والكثير ، والمسفوح : السائل من الدم ونحوه ، ومنه قول الشاعر وهو طرفة :

إذا ما عَادهُ مِنّا نِساءٌ . . . سَفَحْنَ الدَّمْعَ مِنْ بعْدِ الرَّنِينِ{[5133]}

وقول امرىء القيس :

وإن شفائي عبرة إن سفحتها . . . وهل عند رسم دارس من معول{[5134]}

فالدم المختلط باللحم ، والدم الخارج من مرق اللحم ، وما شاكل هذا حلال ، والدم غير المسفوح هو هذا وهو معفوّ عنه ، وقيل لأبي مجلز في القدر تعلوها الحمرة من الدم قال : إنما حرم الله المسفوح ، وقالت نحوه عائشة وغيرها وعليه إجماع العلماء .

وقيل : الدم حرام لأنه إذا زايل فقد انسفخ ، و «الرجس » النتن والحرام ، يوصف بذلك الأجرام والمعاني كما قال عليه السلام : «دعوها فإنها منتنة »{[5135]} ؛ الحديث ، فكذلك قيل في الأزلام والخمر رجس ، والرجس أيضاً العذاب لغة بمعنى الرجز ، وقوله { أو فسقاً } يريد ذبائحهم التي يختصون بها أصنامهم ، وقوله تعالى : { فمن اضطر } الآية ، أباح الله فيها مع الضرورة ركوب المحظور دون بغي .

واختلف الناس فيم ذا ؟ فقالت فرقة دون أن يبغي الإنسان في أكله فيأكل فوق ما يقيم رمقه وينتهي إلى حد الشبع وفوقه ، وقالت فرقة : بل دون أن يبغي في أن يكون سفره في قطع طريق أو قتل نفس أو يكون تصرفه في معصية فإن ذلك لا رخصة له ، وأما من لم يكن بهذه الأحوال فاضطر فله أن يشبع ويتزود ، وهذا مشهور قول مالك بن أنس رحمه الله ، وقال بالأول الذي هو الاقتصار على سد الرمق عبد المالك بن حبيب رحمه الله ، وقوله { فإن ربك غفور رحيم } إباحة تعطيها قوة اللفظ{[5136]} .


[5129]:- يقال: مات حتف أنفه وحتف أنفيه: مات على فراشه بلا ضرب ولا قتل، وقد يقال: مات حتف فيه، وذلك أن العرب كانت تتخيل أن المرء إذا قتل خرج روحه من مقتله، فإذا مات بلا قتل فقد خرج روحه من أنفه أو من فيه. (المعجم الوسيط).
[5130]:- يقال: أجر الأمور على أذلاها، وإن قضاء الله ماض على أذلاله، ودعه على أذلاله، أي: كما هو- وفي حديث ابن مسعود: (ما من شيء من كتاب الله إلا وقد جاء على أذلاله). والمعنى في ذلك كله أن الأمور جاءت سهلة على مجاريها ومسالكها. ومفرد أذلال: ذل بكسر الذال يقال: الزم ذل الطريق، أي السهل المعبد منه، ولذلك قيل: طريق مذلل، أي معبّد. (أساس البلاغة).
[5131]:- رواه الإمام أحمد ولفظه: (أكل كل ذي ناب من السباع حرام).
[5132]:- أخرجه مسلم، والبخاري، والترمذي، وأبو داود في سننه، ولفظه كما في مسلم: (عن أبي ثعلبة الخشني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن أكل كل ذي ناب من السباع)، وفي رواية (وعن كل ذي مخلب من الطير)
[5133]:- البيت في ديوانه (طبعة ليدن سنة 1913) وفيه: (منها) بدلا من (منا) و(صفحن) بدلا من (سفحن)، ومعنى (سفح) أرقن، والرنين: البكاء بصوت. والحديث عن رجل طعنه بالرمح طعنة قوية وكان يحاول أن يقوم منها فلا يستطيع، وإذا ما عاده النساء بكين عليه بصوت مرتفع وسفحن الدمع حزنا عليه.
[5134]:- العبرة: الدمعة، وسفحتها: أرقتها، ودرس: عفا وذهب أثره. ومن معوّل: من مبكى، مأخوذ من العويل وهو الصياح عند البكاء، وقد يكون المعنى: من أمر يعوّل عليه، أي يُعتمد عليه.
[5135]:- الحديث رواه البخاري في تفسير سورة المنافقين، وكذلك الترمذي، ورواه مسلم في البر، ورواه الإمام أحمد، ولفظه كما رواه البخاري عن جابر رضي الله عنه قال: (كنا في غزاة. فكسع رجل من المهاجرين رجلا من الأنصار، فقال الأنصاري: يا للأنصار، وقال المهاجري: يا للمهاجرين، فسمع ذاك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما بال دعوى جاهلية، قالوا: يا رسول الله كسع رجل من المهاجرين رجلا من الأنصار، فقال: دعوها فإنها منتنة...إلخ الحديث وهو طويل)- ومعنى (كسع) ضربه بيده في دبره، ومعنى (منتنه) مذمومة في الشرع مجتنبة مكروهة كما يُجتنب الشيء النّتن. (عن ابن الأثير في النهاية).
[5136]:- اختلف العلماء في الآية الكريمة: (قل لا أجد في ما أوحي إليّ محرما على طاعم يطعمه...) أهي محكمة أم منسوخة؟ فقيل: هي محكمة، وعلى هذا فلا شيء محرم من الحيوان إلا فيها، وليس هذا مذهب الجمهور، وقيل: هي منسوخة بآية المائدة: (حرمت عليكم الميتة والدم) وينبغي أن يفهم هذا النسخ بأنه نسخ للحصر فقط، وقيل: جميع ما حرّم داخل في الاستثناء هنا سواء أكان بنص القرآن أو حديث عن الرسول صلى الله وسلم بالاشتراك في العلة وهي الرجسية.