وقوله : { وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ } بأن ذهبن مرتدات ، { فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا } كما تقدم أن الكفار إذا كانوا يأخذون بدل ما يفوت من أزواجهم إلى المسلمين ، فمن ذهبت زوجته من المسلمين إلى الكفار وفاتت عليه ، لزم أن يعطيه فعلى المسلمون من الغنيمة بدل ما أنفق{[1062]} .
{ وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ } فإيمانكم بالله ، يقتضي منكم أن تكونوا ملازمين للتقوى على الدوام .
فإذا فات المؤمنين شيء مما أنفقوا ، بامتناع الكوافر أو أهليهن من رد حق الزوج المؤمن - كما حدث في بعض الحالات - عوضهم الإمام مما يكون للكافرين الذين هاجرت زوجاتهم من حقوق على زوجاتهم في دار الإسلام ، أو مما يقع من مال الكفار غنيمة في أيدي المسلمين :
( وإن فاتكم شيء من أزواجكم إلى الكفار فعاقبتم فآتوا الذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا )ويربط هذا الحكم وتطبيقاته كذلك بالضمان الذي يتعلق به كل حكم وكل تطبيق :
( واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون ) . .
وهي لمسة للمؤمنين بالله عميقة الأثر في القلوب .
وهكذا تكون تلك الأحكام بالمفاصلة بين الأزواج تطبيقا واقعيا للتصور الإسلامي عن قيم الحياة وارتباطاتها ؛ وعن وحدة الصف الإسلامي وتميزه من سائر الصفوف ؛ وعن إقامة الحياة كلها على أساس العقيدة ، وربطها كلها بمحور الإيمان ؛ وإنشاء عالم إنساني تذوب فيه فوارق الجنس واللون واللغة والنسب والأرض . وتبقى شارة واحدة تميز الناس . . شارة الحزب الذي ينتمون إليه . . وهما حزبان اثنان : حزب الله وحزب الشيطان . .
ثم قال : { وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا } قال مجاهد ، وقتادة : هذا في الكفار الذين ليس لهم عهد ، إذا فرت إليهم امرأة ولم يدفعوا إلى زوجها شيئًا ، فإذا جاءت منهم امرأة لا يدفع إلى زوجها شيء ، حتى يدفع إلى زوج الذاهبة إليهم مثل نفقته عليها .
وقال ابن جرير : حدثنا يونس ، حدثنا ابن وهب ، أخبرني يونس ، عن الزهري قال : أقر المؤمنون بحكم الله ، فأدوا ما أمروا به من نفقات المشركين التي أنفقوا على نسائهم ، وأبى المشركون أن يقروا بحكم الله فيما فرض عليهم من أداء نفقات المسلمين ، فقال الله للمؤمنين به : { وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ } فلو أنها ذهبت بعد هذه الآية امرأةٌ من أزواج المؤمنين إلى المشركين ، رَدّ المؤمنون إلى زوجها النفقة التي أنفق عليها من العَقب الذي بأيديهم ، الذي أمروا أن يردوه على المشركين من نفقاتهم التي أنفقوا على أزواجهم اللاتي آمن وهاجرنَ ، ثم ردوا إلى المشركين فضلا إن كان بقي لهم . والعقب : ما كان [ بأيدي المؤمنين ]{[28697]} من صداق نساء الكفار حين آمنّ وهاجرن{[28698]} .
وقال العوفي ، عن ابن عباس في هذه الآية : يعني إن لحقت امرأة رجل من المهاجرين بالكفار ، أمر له رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يعطى من الغنيمة مثل ما أنفق .
وهكذا قال مجاهد : { فَعَاقَبْتُم } أصبتم غنيمة من قريش أو غيرهم ، { فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا } يعني : مهر مثلها . وهكذا قال مسروق ، وإبراهيم ، وقتادة ، ومقاتل ، والضحاك ، وسفيان بن حسين ، والزهري أيضًا .
وهذا لا ينافي الأول ؛ لأنه إن أمكن الأول{[28699]} فهو أولى ، وإلا فمن الغنائم اللاتي تؤخذ من أيدي الكفار . وهذا أوسع ، وهو اختيار ابن جرير ، ولله الحمد والمنة{[28700]}
وأمر تعالى أن يسأل أيضاً الكافرون أن يدفعوا الصدقات التي أعطاها المؤمنون لمن فر من أزواجهم إلى الكفار ، وقرر الحكم بذلك على الجميع ، فروي عن ابن شهاب أن قريشاً قالت : نحن لا نرضى هذا الحكم ولا نلتزمه ولا ندفع لأحد صداقاً فنزلت بسبب ذلك هذه الآية الأخرى : { وإن فاتكم } الآية ، فأمر الله تعالى المؤمنين أن يدفعوا إلى من فرت زوجته ففاتت بنفسها إلى الكفار صداقه الذي أنفق ، قال ابن عباس في كتاب الثعلبي : خمس نسوة من نساء المهاجرين رجعن عن الإسلام ولحقن بالمشركين : أم الحكم بنت أبي سفيان كانت تحت عياض بن شداد{[11053]} ، وفاطمة بنت أبي أمية أخت أم سلمة ، كانت تحت عمر بن الخطاب ، وعبدة بنت عبد العزى كانت تحت هشام بن العاص ، وأم كلثوم بنت جرول كانت تحت عمر ، فأعطاهم النبي صلى الله عليه وسلم مهور نسائهم من الغنيمة{[11054]} .
واختلف الناس في أي مال يدفع إليه الصداق ، فقال محمد بن شهاب الزهري : يدفع إليه من الصدقات التي كانت تدفع إلى الكفار بسبب من هاجر من أزواجهم ، وأزال الله تعالى دفعها إليهم حين لم يرضوا حكمه حسبما ذكرناه ، وهذا قول صحيح يقتضيه قوله تعالى : { فعاقبتم } وسنبين ذلك في تفسير اللفظة إن شاء الله تعالى . وقال مجاهد وقتادة : يدفع إليه من غنائم المغازي ، وقال هؤلاء التعقيب بالغزو والمغنم وتأولوا اللفظة بهذا المعنى ، وقال الزهري أيضاً : يدفع إليه من اي وجوه الفيء أمكن ، والعاقبة في هذه الآية ، ليست بمعنى مجازاة السوء بالسوء لكنها بمعنى فصرتم منهم إلى الحال التي صاروا إليها منكم وذلك بأن يفوت إليكم شيء من أزواجكم ، وهكذا هو التعقيب على الجمل والدواب أن يركب هذا عقبة ويركب هذا عقبة .
وقرأ ابن مسعود : «وإن فاتكم أحد من أزواجكم » ويقال عاقب الرجل صاحبه في كذا ، أي جاء فعل كل واحد منهما بعقب فعل الآخر ، ومنه قول الشاعر [ الكميت ] :
وحاردت النكد الجلاد ولم يكن . . . لعقبة قدر المستعيرين معقب{[11055]} .
ويقال : «عقّب » بشد القاف ، أي أصاب عقبى ، والتعقيب : غزو إثر غزو ، ويقال «عقَب » بتخفيفها ، ويقال : «عقِب » بكسرها كل ذلك بمعنى : يقرب بعضه من بعض وبجميع ذلك قرئ ، قرأ جمهور الناس : «عاقبتم » وقرأ الأعرج ومجاهد والزهري وعكرمة وحميد : «عقَّبتم » بالتشديد في القاف ، وقرأ الأعرج أيضاً وأبو حيوة والزهري أيضاً : «عقَبتم » بفتح القاف خفيفة ، وقرأ النخعي والزهري أيضاً : «عقِبتم » بكسر القاف حكمها ، ثم ندب تعالى إلى التقوى وأوجبها ، وذكر العلة التي بها يجب التقوى وهي الإيمان بالله والتصديق بوحدانيته وصفاته وعقابه وإنعامه .