{ لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ ْ } أي : شكا ، وريبا ماكثا في قلوبهم ، { إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ ْ } بأن يندموا غاية الندم ويتوبوا إلى ربهم ، ويخافوه غاية الخوف ، فبذلك يعفو اللّه عنهم ، وإلا فبنيانهم لا يزيدهم إلا ريبا إلى ريبهم ، ونفاقا إلى نفاقهم .
{ وَاللَّهُ عَلِيمٌ ْ } بجميع الأشياء ، ظاهرها ، وباطنها ، خفيها وجليها ، وبما أسره العباد ، وأعلنوه .
{ حَكِيمٌ ْ } لا يفعل ولا يخلق ولا يأمر ولا ينهى إلا ما اقتضته الحكمة وأمر به فللّه الحمد{[385]} .
منها : أن اتخاذ المسجد الذي يقصد به الضرار لمسجد آخر بقربه ، أنه محرم ، وأنه يجب هدم مسجد الضرار ، الذي اطلع على مقصود أصحابه .
ومنها : أن العمل وإن كان فاضلا تغيره النية ، فينقلب منهيا عنه ، كما قلبت نية أصحاب مسجد الضرار عملهم إلى ما ترى . ومنها : أن كل حالة يحصل بها التفريق بين المؤمنين ، فإنها من المعاصي التي يتعين تركها وإزالتها .
كما أن كل حالة يحصل بها جمع المؤمنين وائتلافهم ، يتعين اتباعها والأمر بها والحث عليها ، لأن اللّه علل اتخاذهم لمسجد الضرار بهذا المقصد الموجب للنهي عنه ، كما يوجب ذلك الكفر والمحاربة للّه ورسوله .
ومنها : النهي عن الصلاة في أماكن المعصية ، والبعد عنها ، وعن قربها .
ومنها : أن المعصية تؤثر في البقاع ، كما أثرت معصية المنافقين في مسجد الضرار ، ونهي عن القيام فيه ، وكذلك الطاعة تؤثر في الأماكن كما أثرت في مسجد " قباء " حتى قال اللّه فيه :
{ لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ ْ } .
ولهذا كان لمسجد قباء من الفضل ما ليس لغيره ، حتى كان صلى الله عليه وسلم يزور قباء كل سبت يصلي فيه ، وحث على الصلاة فيه .
ومنها : أنه يستفاد من هذه التعاليل المذكورة في الآية ، أربع قواعد مهمة ، وهي :
كل عمل فيه مضارة لمسلم ، أو فيه معصية للّه ، فإن المعاصي من فروع الكفر ، أو فيه تفريق بين المؤمنين ، أو فيه معاونة لمن عادى اللّه ورسوله ، فإنه محرم ممنوع منه ، وعكسه بعكسه .
ومنها : أن الأعمال الحسية الناشئة عن معصية الله لا تزال مبعدة لفاعلها عن الله بمنزلة الإصرار على المعصية حتى يزيلها ويتوب منها توبة تامة بحيث يتقطع قلبه من الندم والحسرات .
ومنها : أنه إذا كان مسجد قباء مسجدا أسس على التقوى ، فمسجد النبي صلى الله عليه وسلم الذي أسسه بيده المباركة وعمل فيه واختاره اللّه له من باب أولى وأحرى .
ومنها : أن العمل المبني على الإخلاص والمتابعة ، هو العمل المؤسس على التقوى ، الموصل لعامله إلى جنات النعيم .
والعمل المبني على سوء القصد وعلى البدع والضلال ، هو العمل المؤسس على شفا جرف هار ، فانهار به في نار جهنم ، واللّه لا يهدي القوم الظالمين .
ومشهد آخر يرسمه التعبير القرآني الفريد لآثار مسجد الضرار في نفوس بُناته الأشرار ؛ وبناة كل مساجد الضرار :
( لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم ، إلا أن تقطع قلوبهم ، واللّه عليم حكيم )
لقد انهار الجرف المنهار . انهار ببناء الضرار الذي أقيم عليه . انهار به في نار جهنم وبئس القرار ! ولكن ركام البناء بقي في قلوب بناته . بقي فيها( ريبة )وشكا وقلقا وحيرة . وسيبقى كذلك لا يدع تلك القلوب تطمئن أو تثبت أو تستقر . إلا أن تتقطع وتسقط هي الأخرى من الصدور !
وإن صورة البناء المنهار لهي صورة الريبة والقلق وعدم الاستقرار . . تلك صورة مادية وهذه صورة شعورية . . وهما تتقابلان في اللوحة الفنية العجيبة التي يرسمها التعبير القرآني الفريد . وتتقابلان في الواقع البشري المتكرر في كل زمان . فما يزال صاحب الكيد الخادع مزعزع العقيدة ، حائر الوجدان ، لا يطمئن ولا يستقر ، وهو من انكشاف ستره في قلق دائم ، وريبة لا طمأنينة معها ولا استقرار .
وهذا هو الإعجاز الذي يرسم الواقع النفسي بريشة الجمال الفني ، في مثل هذا التناسق ؛ بمثل هذا اليسر في التعبير والتصوير على السواء . .
وتبقي وراء ذلك كله حكمة المنهج القرآني في كشف مسجد الضرار وأهله ؛ وفي تصنيف المجتمع إلى تلك المستويات الإيمانية الواضحة ؛ وفي كشف الطريق للحركة الإسلامية ، ورسم طبيعة المجال الذي تتحرك فيه من كل جوانبه . .
لقد كان القرآن الكريم يعمل في قيادة المجتمع المسلم ، وفي توجيهه ، وفي توعيته ، وفي إعداده لمهمته الضخمة . . ولن يفهم هذا القرآن إلا وهو يدرس في مجاله الحركي الهائل ؛ ولن يفهمه إلا أناس يتحركون به مثل هذه الحركة الضخمة في مثل هذا المجال .
وقوله : { لا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ } أي : شكا ونفاقا بسبب إقدامهم على هذا الصنيع الشنيع ، أورثهم نفاقا في قلوبهم ، كما أشرب عابدو العجل حبه .
وقوله : { إِلا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ } أي : بموتهم . قاله ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة ، وزيد بن أسلم ، والسدي ، وحبيب بن أبي ثابت ، والضحاك ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، وغير واحد من علماء السلف .
{ وَاللَّهُ عَلِيمٌ } أي : بأعمال خلقه ، { حَكِيمٌ } في مجازاتهم عنها ، من خير وشر . {[13876]}
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
فقال الله: {لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم}، يعني حسرة وحزازة في قلوبهم؛ لأنهم ندموا على بنائه، {إلا أن تقطع قلوبهم} يعني حتى الممات، {والله عليم حكيم}...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: لا يزال بنيان هؤلاء الذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا "رِيَبةً "يقول: لا يزال مسجدهم الذي بنوه ريبة في قلوبهم، يعني شكّا ونفاقا في قلوبهم، يحسبون أنهم كانوا في بنائه محسنين. "إلاّ أنْ تَقَطّعَ قُلُوبُهُمْ" يعني إلا أن تتصدّع قلوبهم فيموتوا، "والله عليم" بما عليه هؤلاء المنافقون الذين بنوا مسجد الضرار من شكهم في دينهم وما قصدوا في بنائهموه وأرادوه وما إليه صائر أمرهم في الآخرة وفي الحياة ما عاشوا، وبغير ذلك من أمرهم وأمر غيرهم، "حكيم" في تدبيره إياهم وتدبير جميع خلقه...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
..."ريبة": حسرة وندامة فهو على وجهين: يحتمل أنهم تابوا وندموا على ما صنعوا، ويحتمل: حسرة وندامة لما افتضحوا بما صنعوا.
وأصل الريبة التهمة، يقال: فلان مريب إذا كانت به تهمة.
وقوله تعالى: (إلا أن تقطع قلوبهم) هذا أيضا على وجهين: أحدهما: على التمثيل: أن الخوف والحزن إذا بلغ غايته يقال: فلان منقطع القلب. والثاني: على الوعيد كقوله: (فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه)...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{رِيبَةً} شكاً في الدين ونفاقاً، وكان القوم منافقين، وإنما حملهم على بناء ذلك المسجد كفرهم ونفاقهم كما قال عزّ وجلّ: {ضِرَارًا وَكُفْرًا} [التوبة: 107] فلما هدمه رسول الله صلى الله عليه وسلم ازدادوا -لما غاظهم من ذلك وعظم عليهم -تصميماً على النفاق ومقتاً للإسلام، فمعنى قوله: {لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الذى بَنَوْاْ رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ} لا يزال هدمه سبب شكّ، ونفاق زائد على شكّهم ونفاقهم لا يزول وسمه عن قلوبهم ولا يضمحلّ أثره {إِلاَّ أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ} قِطعاً وتفرّق أجزاء، فحينئذٍ يسلون عنه. وأمّا ما دامت سالمة مجتمعة فالريبة باقية فيها متمكنة، فيجوز أن يكون ذكر التقطيع تصويراً لحال زوال الريبة عنها. ويجوز أن يراد حقيقة تقطيعها وما هو كائن منه بقتلهم أو في القبور أو في النار...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
... و «الريبة» الشك، وقد يسمى ريبة فساد المعتقد واضطرابه والاعتراض في الشيء والتحفظ فيه والحزازة من أجله وإن لم يكن شكاً، فقد يرتاب من لا يشك، ولكنها في معتاد اللغة تجري مع الشك، ومعنى «الريبة» في هذه الآية أمر يعم الغيظ والحنق ويعم اعتقاد صواب فعلهم ونحو هذا مما يؤدي كله إلى الريبة في الإسلام...وجملة هذا أن الريبة في الآية تعم معاني كثيرة يأخذ كل منافق منها بحسب قدره من النفاق...
ثم قال تعالى: {لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم} والمعنى: أن بناء ذلك البنيان صار سببا لحصول الريبة في قلوبهم، فجعل نفس ذلك البنيان ريبة لكونه سببا للريبة. وفي كونه سببا للريبة وجوه:
الأول: أن المنافقين عظم فرحهم ببناء مسجد الضرار، فلما أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بتخريبه ثقل ذلك عليهم وازداد بغضهم له وازداد ارتيابهم في نبوته. الثاني: أن الرسول عليه الصلاة والسلام لما أمر بتخريب ذلك المسجد ظنوا أنه إنما أمر بتخريبه لأجل الحسد، فارتفع أمانهم عنه وعظم خوفهم منه في كل الأوقات، وصاروا مرتابين في أنه هل يتركهم على ما هم فيه أو يأمر بقتلهم ونهب أموالهم؟ الثالث: أنهم اعتقدوا أنهم كانوا محسنين في بناء ذلك المسجد، فلما أمر الرسول عليه الصلاة والسلام بتخريبه بقوا شاكين مرتابين في أنه لأي سبب أمر بتخريبه؟ الرابع: بقوا شاكين مرتابين في أن الله تعالى هل يغفر تلك المعصية؟ أعني سعيهم في بناء ذلك المسجد. والصحيح هو الوجه الأول...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْاْ رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ} الريبة: اسم من الريب، وهو ما تضطرب فيه النفس، ويتردد الوهم ويسوء الظن، فيكون صاحبه منه في شك وحيرة إن لم يكن مثاره الشك. قال قوم صالح عليه السلام له، منكرين دعوته إياهم إلى عبادة الله وحده: {وإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ} [هود:62]، ولهذا الاستعمال أمثال في التنزيل، وهو صريح في أن الشك مثار للريب وموقع فيه لا أنه عينه، وقد يفسر به باعتبار لزومه له وإيقاعه فيه...
والظاهر أن ارتيابهم فيه كان منذ بنوه على أن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بهدمه فهدم، وذلك أنهم لسوء نيتهم في بنائه كانوا يخافون أن يطلع الله رسوله على مقاصدهم السوءى فيه، وكان ذلك شأن سائر إخوانهم كما تقدم في قوله تعالى: {يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِم} [التوبة: 64] وذكرنا في تفسيرها قوله تعالى: {يحسبون كل صحية عليهم} [المنافقون: 4] (ج 10) وأجدر بهم أن يكونوا بعد هدمه أشد ارتيابا، وأكثر اضطرابا، بما يحذرون من عقابهم في الدنيا كما أنذرتهم هذه السورة مرارا، وأن يستمر ذلك ملازما لهم.
{إِلاَّ أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ} قرأ ابن عامر وحفص عن نافع وحمزة (تقطع) بفتح التاء وتشديد الطاء من التقطع، وقرأ الباقون بضم التاء من التقطيع، أي إلا أن تقطع الريبة قلوبهم أفلاذا، فتتقطع بها وتكون جذاذا، وقرأ يعقوب (إلى) بدل (إلا) وفسر ذلك بالموت والهلاك، وبالحسرة والندم المقتضي للتوبة...
{واللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} فحكم في أمرهم وبين من حالهم ما اقتضته الحكمة والعلم المحيط بكل شيء.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
لقد انهار الجرف المنهار، انهار ببناء الضرار الذي أقيم عليه، انهار به في نار جهنم وبئس القرار! ولكن ركام البناء بقي في قلوب بُناته، بقي فيها (ريبة) وشكا وقلقا وحيرة، وسيبقى كذلك لا يدع تلك القلوب تطمئن أو تثبت أو تستقر، إلا أن تتقطع وتسقط هي الأخرى من الصدور! وإن صورة البناء المنهار لهي صورة الريبة والقلق وعدم الاستقرار.. تلك صورة مادية وهذه صورة شعورية.. وهما تتقابلان في اللوحة الفنية العجيبة التي يرسمها التعبير القرآني الفريد. وتتقابلان في الواقع البشري المتكرر في كل زمان. فما يزال صاحب الكيد الخادع مزعزع العقيدة، حائر الوجدان، لا يطمئن ولا يستقر، وهو من انكشاف ستره في قلق دائم، وريبة لا طمأنينة معها ولا استقرار. وهذا هو الإعجاز الذي يرسم الواقع النفسي بريشة الجمال الفني، في مثل هذا التناسق؛ بمثل هذا اليسر في التعبير والتصوير على السواء.. وتبقي وراء ذلك كله حكمة المنهج القرآني في كشف مسجد الضرار وأهله؛ وفي تصنيف المجتمع إلى تلك المستويات الإيمانية الواضحة؛ وفي كشف الطريق للحركة الإسلامية، ورسم طبيعة المجال الذي تتحرك فيه من كل جوانبه.. لقد كان القرآن الكريم يعمل في قيادة المجتمع المسلم، وفي توجيهه، وفي توعيته، وفي إعداده لمهمته الضخمة.. ولن يفهم هذا القرآن إلا وهو يدرس في مجاله الحركي الهائل؛ ولن يفهمه إلا أناس يتحركون به مثل هذه الحركة الضخمة في مثل هذا المجال...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
جملة: {لا يزال بنيانهم} يجوز أن تكون مستأنفة لتعدَاد مساوي مسجد الضرار بذكر سوءِ عواقبه بعد أن ذكرَ سوء الباعثِ عليه وبعد أن ذكر سوء وقعه في الإسلام بأن نهى الله رسوله عن الصلاة فيه وأمرَه بهدمه، لأنه لما نهاه عن الصلاة فيه فقد صار المسلمون كلهم منهيين عن الصلاة فيه، فسلب عنه حكم المساجد، ولذلك أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بهدمه. ويرجح هذا الوجه أنه لم يؤت بضمير المسجد أو البنيان بل جيء باسمه الظاهر.
وقوله: {إلا أن تقطع قلوبهم} استثناء تهكمي. وهو من قبيل تأكيد الشيء بما يشبه ضده كقوله تعالى: {ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سَم الخياط} [الأعراف: 40]، أي يبقى ريبة أبداً إلا أن تقطع قلوبهم منهم وما هي بمُقطعة. وجملة: {والله عليم حكيم} تذييل مناسب لهذا الجعل العجيب والإحكام الرشيق. وهو أن يكون ذلك البناء سببَ حسرة عليهم في الدنيا والآخرة.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
وبين سبحانه من بعد ذلك أنهم في ريب من أمر بنائهم، وأشد ما يصاب به المنافق أنه في ريب مستمر.فقال تعالى: {لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم إلا أن تقطع قلوبهم والله عليم حكيم}.
البنيان هو الذي بنوه والذي بعث من الكفر، ومضارة أهل الإيمان، وتفريق بينهم، وإرصاد لمن حارب الله ورسوله، هذا البنيان من ريبهم الذي كانوا يترددون فيه دائما ويتنقلون في أجوائه المختلفة بعث عليهم ريبهم في دينهم، وزادهم البناء ببواعثه ريبا، ولما هدمه النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، وأحقره وحقر مكانه، حتى جعله كناسة تلقى فيه الجيف والقمائم، زادهم ذلك حقدا وحسدا، وريبا ونفاقا؛ لأن هذا النفاق يولد من الحسد والحقد، فلما ازدادت أسبابه ازدادوا ريبة، ولذا قال تعالى: {لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم} لا تزول إلا أن تقطع قلوبهم، أي لا يزول إلا إذا زالت قلوبهم، وتقطعت أجزاء، فما دامت قلوبهم المركسة في النفاق الغائر فيها، والتي أربدت به، ولازمتها ملازمة الحسك للصوف، وهذا النص الكريم تصوير لاستقرار النفاق في القلب، وتزايده بتزايد المغريات له، والأعمال المنافقة تقوي النفاق وتدعمه، آنا بعد آن، والريبة هو الريب في كل شيء يفكرون فيه، وقد يقال: كيف توصف عقيدتهم وحالهم بالريب، وهم يعتقدون الكفر، ويظهرون غيره، ونقول: إن المنافق لا يؤمن بشيء ولا يعتقد شيئا، وهو غير مؤمن بالله والرسول ويظهر الإيمان بهما، ولذا كان منافقا، ولكنه ليست له عقيدة تحل محل الإيمان بالله ورسوله، ولذا هو في حال ريبة مستمرة تمكث في قلبه وتستقر به، ولا تزول إلا أن تقطع قلوبهم إربا إربا...
وإن هذا البناء الذي بنوه كان يحرك ضغنهم طول حياة الرسول، ومن بعده في عهد أبي بكر وعمر، وكان الناس يتذكرونه، فيصخون أسماعهم صخا شديدا بذكره...
وختم الله تعالى الآية بقوله تعالى: {والله عليم حكيم}، أي يعلم كل شيء ما خفى وما ظهر، ما أسرته القلوب، وما جهرت به الألسنة، وحكيم يضع الأمور في موضعها، ويقدر فيكمل تقديره، وقد أتى بالجملة السامية مؤكدة بالتصدير بلفظ الجلالة، وكونها جملة اسمية، وبالصيغ الدالة على كمال الوصف بالعلم والحكمة.
بعد أن بين أوصاف المنافقين، وأحوالهم وأعمالهم وأقوالهم ابتدأ بذكر المؤمنين.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْاْ} على أساس من الاهتزاز في الفكر والموقف {رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ} يثير الشك ويقود إلى التزلزل، فيطبع كل مشاعرها ونبضاتها بطابعه، حتى يتحوّل إلى ما يشبه الخصوصيات الذاتية التي لا تزول إلا أن تزول الذات نفسها، فتبقى ما بقيت الذات {إِلاَّ أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ} وتتلاشى وتموت، فيتلاشى الشك بزوال قاعدته وموضعه {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} في ما يمنح من رضوانه، وفي ما يمنع من غفرانه...
وتلك هي القصة التي يريد الله للإنسان أن يعيشها في كل مواقفه في الحياة، لينطلق الموقف من القاعدة الثابتة في العقيدة والشعور والإرادة، ليتحرك الفرع الأخضر من الجذور الضاربة في أعماق الأرض المتحركة بالخصب والحياة، فلا حركة إلا من فكرة، ولا فكرة إلا من قاعدة. وكلما اقترب الإنسان من الله، كلما كانت حساباته دقيقةً في كل شيء، لأنه الأساس في كل خيرٍ وحقّ وثبات، ولا فرق في ذلك بين حالةٍ فكريةٍ أو سياسيّةٍ أو اجتماعية أو غير ذلك مما تعارف الناس أن يدفعوا حياتهم نحوه...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
إنّ قصّة مسجد الضرار درس لكل المسلمين من جميع الجهات، فإنّ قول الله سبحانه وعمل النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يوضحان تماماً بأنّ المسلمين يجب أن لا يكونوا سطحيين في الرؤية مطلقاً، وأن لا يكتفوا بالنظر إِلى الجوانب التي تصطبغ بصبغة الحق، ويغفلون عن الأهداف الأصلية المراد تحقيقها، والمستترة بهذا الظاهر البراق.
المسلم هو الذي يعرف المنافق وأساليب النفاق في كل زمان، وفي كل مكان، وبأي لباس تلبس، وبأي صورة يظهر بها، حتى ولو كانت صورة الدين والمذهب، أو لباس مناصرة الحق والقرآن والمساجد.
إنّ الاستفادة من مذهب ضد مذهب آخر ليس شيئاً جديداً، بل هو طريق الاستعمار وأُسلوبه على الدوام، فإنّ وسيلة الجبارين والمنافقين وأُسلوبهم في العمل هو الوقوف على رغبة الناس في مسألة ما، واستغلال تلك الرغبة في سبيل إغفالهم وبالتالي استعمارهم، ويستعينون بقدرات مذهب ما في ضرب وهدم مذهب آخر إن استدعى الأمر ذلك.
وأساساً فإنّ جعل الأنبياء المزورين والمذاهب الباطلة، هو تحوير الميول المذهبية للناس عن هذا الطريق وصبّها في القنوات التي يريدونها ويديرونها.
ومن البديهي أنّ محاربة الإِسلام بصورة علنية في محيط كمحيط المدينة، وذلك في عصر النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، ومع ذلك النفوذ الخارق للإِسلام والقرآن، أمر غير ممكن، بل يجب إلباس الكفر لباس الدين، وتغليف الباطل بغلاف الحق لجذب البسطاء والسذج من الناس.
إلاّ أنّ المسلم الحقيقي ليس سطحياً إِلى تلك الدرجة بحيث يخدع بهذه الظواهر، بل إنّه يدقق في العوامل والأيادي التي وضعت هذه البرامج، ويحقق القرائن الأُخرى التي لها علاقة بالبرامج وماهيتها، وبذلك سيرى الصورة الباطنية للأفراد المختبئة خلف الصورة الظاهرية.
المسلم ليس بذلك الفرد الذي يقبل كل دعوة تصدر من أي فم بمجرّد موافقتها الظاهرية للحق، ويلبي تلك الدعوة.
المسلم ليس ذلك الشخص الذي يصافح كل يد تمد إِليه، ويؤيد ويدعم كل حركة يشاهدها بمجرّد رفعها شعاراً دينياً، أو يتعهد بالانضمام تحت أي لواء يرفع باسم المذاهب والدين، أو ينجذب إِلى كل بناء يشيد باسم الدين.
المسلم يجب أن يكون حذراً، واعياً، واقعياً، بعيد النظر، ومن أهل التحليل والتحقيق في كل المسائل الاجتماعية.
المسلم يعرف المتمردين العصاة في لباس الملائكة والوداعة، ويميز الذئاب المتلبسة بلباس الحراس والرعاة، ويُعد نفسه لمحاربة الأعداء الظاهرين بصورة الأصدقاء.
هناك قاعدة أساسية في الإِسلام، وهي أنّه يجب معرفة النيات قبل كل شيء، وأنّ قيمة كل عمل ترتبط بنيّته، لا بظاهره، فبالرغم من أنّ النية أمر باطني، إلاّ أن أحداً لا يمكنه إضمار نيّته دون أن يظهر أثرها على جوانب عمله وفلتاته، حتى ولو كان ماهراً ومقتدراً في اخفائها.
ومن هذا سيتّضح الجواب عن هذا السؤال، وهو: لماذا أصدر النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أمراً بحرق المسجد الذي هو بيت الله، ويأمر بهدم المسجد الذي لا يجوز شرعاً إِخراج حصاة واحدة من حصاه، ويجعل المكان الذي يجب تطهيره فوراً إِذا ما تنجس محلا لجمع الفضلات والقاذورات!!
وجواب كل هذه الأسئلة موضوع واحد، وهو أنّ مسجد الضرار لم يكن مسجداً بل معبداً للأصنام... لم يكن مكاناً مقدساً، بل مقراً للفرقة والنفاق... لم يكن بيت الله، بل بيت الشيطان... ولا يمكن أن تبدل الأسماء والعناوين والأقنعة من واقع الأشياء شيئاً مطلقاً.
كان هذا هو الدرس الكبير الذي أعطته قصّة مسجد الضرار لكل المسلمين، وفي كل الأزمنة والأعصار.
وتتّضح من هذا البحث ـ أيضاً ـ أهمية الوحدة بين صفوف المسلمين من وجهة نظر الإسلام، والتي تبلغ حداً بحيث إِذا كان بناء مسجد جنب مسجد يؤدي إِلى التفرقة والاختلاف بين صفوف المسلمين فلا قدسية لذلك المسجد إطلاقاً.
الدرس الثّاني الذي يمكن أخذه من هذه الآيات، هو أنّ الله سبحانه وتعالى أمر نبيّه (صلى الله عليه وآله وسلم) في هذه الآيات أن لا يصلي في مسجد الضرار، بل يصلي في المسجد التي وضعت قواعده وأُسسه على أساس التقوى.
إِنّ النفي والإِثبات يتجلى في الإِسلام من شعاره الأصلي (لا إِله إلاّ الله) إِلى أُموره الصغيرة والكبيرة الأُخرى، يبيّن هذه الحقيقة، وهي ضرورة وجود الإثبات إِلى جانب النفي دائماً على أرض الواقع العملي، فإنّا إِذا نهينا الناس عن الذهاب إِلى مراكز الفساد، فيجب أن نبني ونوفر لهم بالمقابل المراكز النقية الصالحة لإشباع روح الحياة الجماعية في الفرد وإرضائها... إِذا منعنا وسائل اللهو المنحرفة، فيجب توفير وسائل لهو سالمة وهادفة... إِذا حاربنا الثقافة الاستعمارية، فيجب أن نهيئ الثقافة الصحيحة والمراكز السليمة والمدارس الصالحة للتربية والتعليم... إِذا شجبنا الانحلال الخلقي والسقوط الاجتماعي، فيجب أن نوفر وسائل الزواج البسيطة ونضعها تحت تصرف الشباب.
الأشخاص الذين صبّوا كل اهتماماتهم في جانب النفي، دون الاهتمام بالجانب الإِيجابي والإِثباتي، عليهم أن يتيقنوا بأن نفيهم لوحده لا يثمر شيئاً، لأنّ سنّة الحياة أن تشبع كل الغرائز والأحاسيس عن الطريق الصحيح، ولأنّ قانون الإِسلام المسلّم به أن كل (لا) يجب أن تصحبها (إلا) ليتولد منها التوحيد الذي يهب الحياة.
وهذا هو الدرس الذي نساه الكثير من المسلمين مع الأسف رغم تقصيرهم هذا يشكون من عدم تقدم وتطور البرامج الإسلامية! هذا في الوقت الذي لا ينحصر برنامج الإسلام بالنفي كما يتخيل هؤلاء، فإنهم إذا قرنوا النفي بالإِثبات فإنّ تقدمهم سيكون حتمياً.
الدرس القيم الثّالث الذي يمكن استنباطه من الآيات محل البحث هو أن المقر والمركز النشط والإِيجابي دينياً واجتماعيا، هو الذي يتشكل من عنصرين.
الأوّل: أن يكون الأساس الذي يستند إِليه، والهدف الذي يطمح إِلى تحقيقه، طاهرين من البداية: (أسس على التقوى من أول يوم).
الثّاني: أن يكون رواد هذا المركز وحماته أناساً طاهرين ومخلصين ومؤمنين: (فيه رجال يحبون أن يتطهروا).
إِنّ فقدان أحد هذين الركنين الأساسيين يعني انهيار البناء وعدم وصوله إِلى الهدف المنشود.