146- سأمنع من التفكير في دلائل قدرتي القائمة في الأنفس والأفاق ، أولئك الذين يتطاولون في الأرض ويتكبرون عن قبول الصواب غير محقين ، وإن يروا كل آية تدل على صدق رسلنا لا يصدقوها ، وإن يشاهدوا طريق الهدى لا يسلكوه ، وإن يشاهدوا طريق الضلال يسلكوه . يحدث ذلك منهم بسبب أنهم كذبوا بآياتنا المنزلة ، وغفلوا عن الاهتداء بها .
وأما غيرهم ، فقال عنهم : سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ أي : عن الاعتبار في الآيات الأفقية والنفسية ، والفهم لآيات الكتاب الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أي : يتكبرون على عباد اللّه وعلى الحق ، وعلى من جاء به ، فمن كان بهذه الصفة ، حرمه اللّه خيرا كثيرا وخذله ، ولم يفقه من آيات اللّه ما ينتفع به ، بل ربما انقلبت عليه الحقائق ، واستحسن القبيح .
وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا لإعراضهم واعتراضهم ، ومحادتهم للّه ورسوله ، وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ أي : الهدى والاستقامة ، وهو الصراط الموصل إلى اللّه ، وإلى دار كرامته لا يَتَّخِذُوهُ أي : لا يسلكوه ولا يرغبوا فيه وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ أي : الغواية الموصل لصاحبه إلى دار الشقاء يَتَّخِذُوهُ سَبِيلا والسبب في انحرافهم هذا الانحراف ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ فردهم لآيات اللّه ، وغفلتهم عما يراد بها واحتقارهم لها - هو الذي أوجب لهم من سلوك طريق الغي ، وترك طريق الرشد ما أوجب .
وفي نهاية المشهد والتكليم يجيء بيان لعاقبة الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق ، ويعرضون عن آيات الله وتوجيهاته ، يتضمن تصويراً دقيقاً لطبيعة هذا الصنف من الناس ، في نصاعة وجمال التصوير القرآني الفريد لأنماط الطبائع ونماذج النفوس :
( سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق ، وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها ، وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلاً ، وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلاً . ذلك بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين . والذين كذبوا بآياتنا ولقاء الآخرة حبطت أعمالهم . هل يجزون إلا ما كانوا يعملون ؟ ) . .
إن الله تعالى يعلن عن مشيئته في شأن أولئك الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق ، وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها ، وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلاً ، وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلاً . . إنه سيصرفهم عن آياته فلا ينتفعون بها ولا يستجيبون لها . . آياته في كتاب الكون المنظور ، وآياته في كتبه المنزلة على رسله . . ذلك بسبب أنهم كذبوا بآياته سبحانه وكانوا عنها غافلين .
وإن هذا النموذج من الناس ليرتسم من خلال الكلمات القرآنية ، كأنما نراه بسماته وحركاته !
( الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق ) . .
وما يتكبر عبد من عبيد الله في أرضه بالحق أبداً . فالكبرياء صفة الله وحده . لا يقبل فيها شريكاً . وحيثما تكبر إنسان في الأرض كان ذلك تكبراً بغير الحق ! وشر التكبر ادعاء حق الربوبية في الأرض على عباد الله هذا الحق بالتشريع لهم من دون الله ؛ وتعبيدهم لهذا التشريع الباطل ، ومن هذا التكبر تنشأ سائر ألوان التكبر . فهو أساس الشر كله ومنه ينبعث . ومن ثم تجيء بقية الملامح :
( وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلاً ، وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلاً ) . .
فهي جبلة تجنح عن سبيل الرشد حيثما رأته ، وتجنح الى سبيل الغي حيثما لاح لها ، كأنما بآلية في تركيبها لا تتخلف ! وهذه هي السمة التي يرسمها التعبير ، ويطبع بها هذا النموذج المتكبر ، الذي قضت مشيئة الله أن يجازيه على التكذيب بآيات الله والغفلة عنها بصرفه عن هذه الآيات أبداً !
وإن الانسان ليصادف هذا الصنف من الخلق بوصفه هذا وسمته وملامحه ، فيرى كأنما يتجنب الرشد ويتبع الغي دون جهد منه ، ودون تفكير ولا تدبير ! فهو يعمى عن طريق الرشد ويتجنبه ، وينشرح لطريق الغي ويتبعه ! وهو في الوقت ذاته مصروف عن آيات الله لا يراها ولا يتدبرها ولا تلتقط أجهزته إيحاءاتها وإيقاعاتها ! وسبحان الله ! فمن خلال اللمسات السريعة في العبارة القرآنية العجيبة ينتفض هذا النموذج من الخلق شاخصاً بارزاً حتى ليكاد القارئ يصيح لتوه : نعم . نعم . أعرف هذا الصنف من الخلق . . إنه فلان ! ! ! وإنه للمعنيّ الموصوف بهذه الكلمات .
وما يظلم الله هذا الصنف من الخلق بهذا الجزاء المردي المؤدي الى الهلاك في الدنيا والآخرة . . إنما هو الجزاء الحق لمن يكذب بآيات الله ويغفل عنها ، ويتكبر في الأرض بغير الحق ، ويتجنب سبيل الرشد حيثما رآه ، ويهرع الى سبيل الغي حيثما لاح له ! فإنما بعمله جوزي ؛ وبسلوكه أورد موارد الهلاك .
يقول تعالى : { سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ } أي : سأمنع فهم{[12133]} الحجج والأدلة على عظمتي وشريعتي وأحكامي قلوب المتكبرين عن طاعتي ، ويتكبرون على الناس{[12134]} بغير حق ، أي : كما استكبروا بغير حق أذلهم الله بالجهل ، كما قال تعالى : { وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ } [ الأنعام : 110 ] وقال تعالى : { فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ } [ الصف : 5 ]
وقال بعض السلف : لا ينال العلم حيي ولا مستكبر .
وقال آخر : من لم يصبر على ذل التعلم ساعة ، بقي في ذل الجهل أبدا .
وقال سفيان بن عُيَينة في قوله : { سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ } قال : أنزع عنهم فهم القرآن ، وأصرفهم عن آياتي .
قال ابن جرير : وهذا يدل على أن هذا خطاب لهذه الأمة{[12135]}
قلت : ليس هذا بلازم ؛ لأن ابن عيينة إنما أراد أن هذا مطرد في حق كل أمة ، ولا فرق بين أحد وأحد في هذا ، والله أعلم .
وقوله : { وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا } كما قال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الألِيمَ } [ يونس : 96 ، 97 ] .
وقوله : { وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلا } أي : وإن ظهر لهم سبيل الرشد ، أي : طريق النجاة لا يسلكوها ، وإن ظهر لهم طريق الهلاك والضلال يتخذوه سبيلا .
ثم علل مصيرهم إلى هذه الحال بقوله : { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا } أي : كذبت بها قلوبهم ، { وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ } أي : لا يعلمون شيئًا مما فيها .
القول في تأويل قوله تعالى : { سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِي الّذِينَ يَتَكَبّرُونَ فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقّ وَإِن يَرَوْاْ كُلّ آيَةٍ لاّ يُؤْمِنُواْ بِهَا وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الرّشْدِ لاَ يَتّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الْغَيّ يَتّخِذُوهُ سَبِيلاً ذَلِكَ بِأَنّهُمْ كَذّبُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ } . .
اختلف أهل التأويل في معنى ذلك ، فقال بعضهم : معناه : سأنزع عنهم فهم الكتاب . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أحمد بن منصور المروزي ، قال : ثني محمد بن عبد الله بن بكر ، قال : سمعت ابن عيينة يقول في قول الله : سأصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الّذِينَ يَتَكَبّرُونَ فِي الأرْضِ بغيرِ الحَقّ قال : يقول : أنزع عنهم فهم القرآن ، وأصرفهم عن أياتي .
وتأويل ابن عيينة هذا يدلّ على أن هذا الكلام كان عنده من الله وعيدا لأهل الكفر بالله ممن بعث إليه نبينا صلى الله عليه وسلم دون قوم موسى ، لأن القرآن إنما أنزل على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم دون موسى عليه السلام .
وقال آخرون في ذلك : معناه : سأصرفهم عن الاعتبار بالحجج . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج : سأصْرِفُ عَنْ أياتِيَ عن خلق السموات والأرض والاَيات فيها ، سأصرفهم عن أن يتفكروا فيها ويعتبروا .
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال : إن الله أخبر أنه سيصرف عن آياته ، وهي أدلته وأعلامه على حقية ما أمر به عباده وفرض عليهم من طاعته في توحيده وعدله وغير ذلك من فرائضه ، والسموات والأرض ، وكلّ موجود من خلقه فمن آياته ، والقرآن أيضا من آياته . وقد عمّ بالخبر أنه يصرف عن آياته المتكبرين في الأرض بغير الحقّ ، وهم الذين حقّت عليهم كلمة الله أنهم لا يؤْمنون ، فهم عن فهم جميع آياته والاعتبار والأدّكار بها مصروفون لأنهم لو وفقوا لفهم بعض ذلك فهدوا للاعتبار به اتعظوا وأنابوا إلى الحقّ ، وذلك غير كائن منهم ، لأنه جلّ ثناؤه قال : وَإنْ يَرَوْا كُلّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها فلا تبديل لكلمات الله .
القول في تأويل قوله تعالى : وَإنْ يَرَوْا كُلّ آيَةٍ لا يُؤمِنُوا بِها وَإنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرّشْدِ لا يَتّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيّ يَتّخِذُوهُ سَبِيلاً ذلكَ بأنّهُمْ كَذّبُوا بآياتِنا وكانُوا عَنْها غَافِلِينَ .
يقول تعالى ذكره : وإن ير هؤلاء يتكبرون في الأرض بغير الحقّ . وتكبرهم فيها بغير الحقّ : تجبرهم فيها ، واستكبارهم عن الإيمان بالله ورسوله والإذعان لأمره ونهيه ، وهم لله عبيد يغذوهم بنعمته ويريح عليهم رزقه بكرة وعشيا . كلّ آيَةٍ يقول : كلّ حجة لله على وحدانيته وربوبيته ، وكلّ دلالة على أنه لا تنبغي العبادة إلا له خالصة دون غيره . لا يُؤْمِنُوا بِها يقول : لا يصدّقوا بتلك الاَية أنها دالة على ما هي فيه حجة ، ولكنهم يقولون : هي سحر وكذب . وَإنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرّشْدِ لا يَتّخِذُوهُ سَبِيلاً يقول : وإن ير هؤلاء الذين وصف صفتهم طريق الهدى والسداد الذي إن سلكوه نجوا من الهلكة والعطب وصاروا إلى نعيم الأبد لا يسلكوه ولا يتخذوه لأنفسهم طريقا ، جهلاً منهم وحيرة . وإنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيّ يقول : وإن يروا طريق الهلاك الذي إن سلكوه ضلوا وهلكوا . وقد بيّنا معنى الغيّ فيما مضى قبل بِما أغنى عن إعادته . يَتّخِذُوهُ سَبِيلاً يقول : يسلكوه ويجعلوه لأنفسهم طريقا لصرف الله إياهم عن آياته وطبعه على قلوبهم ، فهم لا يفلحون ولا ينجحون . ذلكَ بأنّهُمْ كَذّبُوا بآياتِنا وكانُوا عَنْها غَافِلِينَ يقول تعالى ذكره : صرفناهم عن آياتنا أن يعقلوها ويفهموها ، فيعتبروا بها ويذكروا فينيبوا عقوبة منا لهم على تكذيبهم بآياتنا ، وكَانُوا عَنْها غَافِلِينَ يقول : وكانوا عن آياتنا وأدلتنا الشاهدة على حقية ما أمرناهم به ونهيناهم عنه ، غافلين لا يتفكّرون فيها ، لاهين عنها لا يعتبرون بها ، فحقّ عليهم حينئذ قول ربنا ، فعطبوا .
واختلف القرّاء في قراءة قوله : الرّشْد فقرأ ذلك عامة قرّاء المدينة وبعض المكيين وبعض البصريين : الرّشْد بضم الراء وتسكين الشين . وقرأ ذلك عامة قرّاء أهل الكوفة وبعض المكيين : «الرّشَد » بفتح الراء والشين .
ثم اختلف أهل المعرفة بكلام العرب في معنى ذلك إذا ضمت راؤه وسكنت شينه ، وفيه إذا فتحتا جميعا . فذُكر عن أبي عمرو بن العلاء أنه كان يقول : معناه إذا ضمت راؤه وسكنت شينه : الصلاح ، كما قال الله : فإنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدا بمعنى : صلاحا وكذلك كان يقرؤه هو ومعناه إذا فتحت راؤه وشينه : الرّشَد في الدين ، كما قال جلّ ثناؤه : تُعَلّمَنِي مِمّا عَلّمْتَ رَشَدا بمعنى الاستقامة والصواب في الدين . وكان الكسائي يقول : هما لغتان بمعنى واحد ، مثل : السّقم والسّقَم ، والحُزْن والحَزَن ، وكذلك الرّشْد والرّشَد .
والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال : إنهما قراءتان مستفيضة القراءة بهما في قراءة الأمصار متفقتا المعنى ، فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب الصواب بها .
المعنى سأمنع وأصد ، وقال سفيان بن عيينة : الآيات هنا كل كتاب منزل .
قال القاضي أبو محمد : فالمعنى عن فهمها وتصديقها ، وقال ابن جريج : الآيات العلامات المنصوبة الدالة على الوحدانية .
قال القاضي أبو محمد : فالمعنى عن النظر فيها والتفكير والاستدلال بها ، واللفظ يعم الوجهين ، والمتكبرون بغير حق في الأرض هم الكفرة ، والمعنى في هذه الآية سأجعل الصرف عن الآيات عقوبة للمتكبرين على تكبرهم ، وقوله { وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها } حتم من الله عز وجل على الطائفة التي قدر ألا يؤمنوا ، وقراءة الجمهور : «يرَوا » بفتح الياء قرأها ابن كثير وعاصم ونافع وأبو جعفر وشيبة وشبل وابن وثاب وطلحة بن مصرف وسائر السبعة ، وقرأها مضمومة الياء مالك بن دينار ، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم وابن عامر «الرشد » ، وقرأ ابن عامر في بعض ما روي عنه وأبو البرهشم «الرُّشد » بضم الراء والشين وقرأ حمزة والكسائي على أن «الرُّشد » بضم الراء وسكون الشين «الرَّشد » بفتحهما الدين ، وأما قراءة ابن عامر بضمهما فأتبعت الضمة الضمة ، وقرأ ابن أبي عبلة «لا يتخذوها وتتخذوها » على تأنيث «السبيل » ، والسبيل تؤنث وتذكر ، وقوله { ذلك } إشارة إلى الصرف أي صرفنا إياهم وعقوبتنا لهم هي بكفرهم وتكذيبهم وغفلتهم عن النظر في الآيات والوقوف عند الحجج ، ويحتمل أن يكون ذلك خبر ابتداء تقديره : الأمر ذلك ، ويحتمل أن يكون في موضع نصب بفعل تقديره فعلنا ذلك .