{ فَإِنْ تَابُوا ْ } عن شركهم ، ورجعوا إلى الإيمان { وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ ْ } وتناسوا تلك العداوة إذ كانوا مشركين لتكونوا عباد اللّه المخلصين ، وبهذا يكون العبد عبدا حقيقة . لما بين من أحكامه العظيمة ما بين ، ووضح منها ما وضح ، أحكاما وحِكَمًا ، وحُكْمًا ، وحكمة قال : { وَنُفَصِّلُ الْآيَاتِ ْ } أي : نوضحها ونميزها { لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ْ } فإليهم سياق الكلام ، وبهم تعرف الآيات والأحكام ، وبهم عرف دين الإسلام وشرائع الدين .
اللهم اجعلنا من القوم الذين يعلمون ، ويعملون بما يعلمون ، برحمتك وجودك وكرمك [ وإحسانك يا رب العالمين ] .
ثم يبين الله كيف يقابل المؤمنون هذه الحال الواقعة من المشركين :
( فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين ، ونفصل الآيات لقوم يعلمون . وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون ) . .
إن المسلمين يواجهون أعداء يتربصون بهم ؛ ولا يقعد هؤلاء الأعداء عن الفتك بالمسلمين بلا شفقة ولا رحمة إلا عجزهم عن ذلك . لا يقعدهم عهد معقود ، ولا ذمة مرعية ، ولا تحرج من مذمة ، ولا إبقاء على صلة . . ووراء هذا التقرير تاريخ طويل ، يشهد كله بأن هذا هو الخط الأصيل الذي لا ينحرف إلا لطارئ زائل ، ثم يعود فيأخذ طريقه المرسوم !
هذا التاريخ الطويل من الواقع العملي ؛ بالإضافة الى طبيعة المعركة المحتومة بين منهج الله الذي يخرج الناس من العبودية للعباد ويردهم إلى عبادة الله وحده ، وبين مناهج الجاهلية التي تعبد الناس للعبيد . . يواجهه المنهج الحركي الإسلامي بتوجيه من الله سبحانه ، بهذا الحسم الصريح :
( فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين ونفصل الآيات لقوم يعلمون )
فإما دخول فيما دخل فيه المسلمون ، وتوبة عما مضى من الشرك والاعتداء . وعندئذ يصفح الإسلام والمسلمون عن كل ما لقوا من هؤلاء المشركين المعتدين ؛ وتقوم الوشيجة على أساس العقيدة ، ويصبح المسلمون الجدد إخوانا للمسلمين القدامى ؛ ويسقط ذلك الماضي كله بمساءاته من الواقع ومن القلوب !
( ونفصل الآيات لقوم يعلمون ) . .
فهذه الأحكام إنما يدركها ويدرك حكمتها الذين يعلمون وهم المؤمنين .
وقال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا محمد بن المثنى ، حدثنا يحيى بن أبي بكر ، حدثنا أبو جعفر الرازي ، حدثنا الربيع بن أنس قال : سمعت أنس بن مالك يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من فارق الدنيا على الإخلاص لله وعبادته ، لا يشرك{[13276]} به ، وأقام الصلاة ، وآتى الزكاة ، فارقها والله عنه راض ، وهو دين الله الذي جاءت به الرسل وبلغوه عن ربهم ، قبل هَرْج الأحاديث واختلاف الأهواء " . وتصديق ذلك في كتاب الله : { فَإِنْ تَابُوا } يقول : فإن خلعوا الأوثان وعبادتها { وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ } وقال في آية أخرى : { فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ }
ثم قال البزار : آخر الحديث عندي والله أعلم : " فارقها وهو عنه راض " ، وباقيه عندي من كلام الربيع بن أنس{[13277]}
القول في تأويل قوله تعالى : { فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصّلاَةَ وَآتَوُاْ الزّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدّينِ وَنُفَصّلُ الاَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } .
يقول جلّ ثناؤه : فإن رجع هؤلاء المشركون الذين أمرتكم أيها المؤمنون بقتلهم عن كفرهم وشركهم بالله إلى الإيمان به وبرسوله وأنابوا إلى طاعته وأقاموا الصلاة المكتوبة فأدّوها بحدودها وآتوا الزكاة المفروضة أهلها فإخْوَانُكُمْ في الدّينِ يقول : فهم إخوانكم في الدين الذي أمركم الله به ، وهو الإسلام . وَنْفَصّلُ الاَياتِ يقول : ونبين حجج الله وأدلته على خلقه ، لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ما بين لهم فنشرحها لهم مفصلة دون الجهال الذين لا يعقلون عن الله بيانه ومحكم آياته .
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : فإنْ تَابُوا وأقامُوا الصّلاةَ وآتَوُا الزّكَاةَ فإخْوَانَكُمْ فِي الدّينِ يقول : إن تركوا اللات والعُزّى ، وشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فإخْوَانُكُمْ فِي الدّينِ ونُفَصّلُ الاَياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا حفص بن غياث ، عن ليث ، عن رجل ، عن ابن عباس : فإنْ تابُوا وأقامُوا الصّلاةَ وآتُوا الزّكاةَ قال : حرّمت هذه الآية دماء أهل القبلة .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : افترضت الصلاة والزكاة جميعا لم يفرق بينهما وقرأ : فإنْ تابُوا وأقامُوا الصّلاةَ وآتُوا الزّكاةَ فإخْوَانُكُمْ في الدّين وأبى أن يقبل الصلاة إلا بالزكاة . وقال : رحم الله أبا بكر ما كان أفقهه .
حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا شريك ، عن أبي إسحاق ، عن أبي عبيدة ، عن عبد الله ، قال : أمرتم بإقامة الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، ومن لم يزكّ فلا صلاة له .
وقيل : فإخْوَانُكُمْ فرفع بضمير : فهم إخوانكم ، إذ كان قد جرى ذكرهم قبل ، كما قال : فإنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فإخْوَانكمْ فِي الدّينِ .
{ تابوا } رجعوا عن حالهم ، والتوبة منهم تتضمن ، ثم قرن تعالى بإيمانهم إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة ، قال ابن عباس : حرمت هذه الآية دماء أهل القبلة ، وقال ابن زيد : قرن الله الصلاة بالزكاة ولم يرض بإحداهما دون الأخرى{[5536]} .
قال القاضي أبو محمد : وعلى هذا مر أبو بكر رضي الله عنه وقت الردة ، و «الأخوة في الدين » هي أخوة الإسلام وجمع الأخ منها إخوان وجمعه من النسب إخوة قاله بعض اللغويين ، وقد قيل إن الأخ من النسب يجمع على إخوان أيضاً وذلك ظاهر من قوله تعالى { ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم أو بيوت آبائكم أو بيوت أمهاتكم أو بيوت إخوانكم أو بيوت أخواتكم }{[5537]} ويبين ذلك قوله تعالى في آخر الآية { أو صديقكم } [ النور : 61 ] وكذلك قوله في هذه السورة { قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم }{[5538]} ، فأما الأخ من التوادّ ففي كتاب الله { إنما المؤمنون أخوة }{[5539]} ، وقال أبو هريرة في البخاري كان إخوتي من المهاجرين يشغلهم صفق بالأسواق{[5540]} فيصح من هذا كله أن الأخ يجمع إخوة وإخواناً سواء كان من نسب أو مودة ، وتفصيل الآية بيانها وإيضاحها .