{ 123 - 127 } { قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى * وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى }
يخبر تعالى ، أنه أمر آدم وإبليس أن يهبطا إلى الأرض ، وأن يتخذوا [ آدم وبنوه ]{[523]} الشيطان عدوا لهم ، فيأخذوا الحذر منه ، ويعدوا له عدته ويحاربوه ، وأنه سينزل عليهم كتبا ، ويرسل إليهم رسلا يبينون لهم الطريق المستقيم الموصلة إليه وإلى جنته ، ويحذرونهم من هذا العدو المبين ، وأنهم أي : وقت جاءهم ذلك الهدى ، الذي هو الكتب والرسل ، فإن من اتبعه اتبع ما أمر به ، واجتنب ما نهي عنه ، فإنه لا يضل في الدنيا ولا في الآخرة ، ولا يشقى فيهما ، بل قد هدي إلى صراط مستقيم ، في الدنيا والآخرة ، وله السعادة والأمن في الآخرة .
وقد نفى عنه الخوف والحزن في آية أخرى ، بقوله : { فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ } واتباع الهدى ، بتصديق الخبر ، وعدم معارضته بالشبه ، وامتثال الأمر بأن لا يعارضه بشهوة .
ثم صدر الأمر إلى الخصمين اللدودين أن يهبطا إلى أرض المعركة الطويلة بعد الجولة الأولى :
( قال : اهبطا منها جميعا ، بعضكم لبعض عدو ) . .
وبذلك أعلنت الخصومة في الثقلين . فلم يعد هناك عذر لآدم وبنيه من بعده أن يقول أحد منهم إنما أخذت على غرة ومن حيث لا أدري . فقد درى وعلم ؛ وأعلن هذا الأمر العلوي في الوجود كله : ( بعضكم لبعض عدو ) !
ومع هذا الإعلان الذي دوت به السماوات والأرضون ، وشهده الملائكة أجمعون . شاءت رحمة الله بعباده أن يرسل إليهم رسله بالهدى . قبل أن يأخذهم بما كسبت أيديهم . فأعلن لهم يوم أعلن الخصومة الكبرى بين آدم وإبليس ، أنه آتيهم بهدى منه ، فمجاز كلا منهم بعد ذلك حسبما ضل أو اهتدى :
( فإما يأتينكم مني هدى ، فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى . ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ، ونحشره يوم القيامة أعمى . قال : رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا ? قال : : كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى . وكذلك نجزي من أسرف ولم يؤمن بآيات ربه ، ولعذاب الآخرة أشد وأبقى ) . .
يجيء هذا المشهد بعد القصة كأنه جزء منها ، فقد أعلن عنه في ختامها في الملأ الأعلى . فذلك أمر إذن قضي فيه منذ بعيد ولا رجعة فيه ولا تعديل .
( فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى ) . . فهو في أمان من الضلال والشقاء باتباع هدى الله . وهما ينتظران خارج عتبات الجنة . ولكن الله يقى منهما من اتبع هداه . والشقاء ثمرة الضلال ولو كان صاحبه غارقا في المتاع . فهذا المتاع ذاته شقوة . شقوة في الدنيا وشقوة في الآخرة . وما من متاع حرام ، إلا وله غصة تعقبه وعقابيل تتبعه . وما يضل الإنسان عن هدى الله إلا ويتخبط في القلق والحيرة والتكفؤ والاندفاع من طرف إلى طرف لا يستقر ولا يتوازن في خطاه . والشقاء قرين التخبط ولو كان في المرتع الممرع ! ثم الشقوة الكبرى في دار البقاء . ومن اتبع هدى الله فهو في نجوة من الضلال والشقاء في الأرض ، وفي ذلك عوض عن الفردوس المفقود ، حتى يؤوب إليه في اليوم الموعود .
يقول تعالى لآدم وحواء وإبليس : اهبطوا منها جميعًا ، أي : من الجنة كلكم . وقد بسطنا ذلك في سورة البقرة " .
{ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ } قال : آدم وذريته ، وإبليس وذريته .
وقوله : { فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى } قال أبو العالية : الأنبياء والرسل والبيان .
{ فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى } قال ابن عباس : لا يضل في الدنيا ، ولا يشقى في الآخرة .
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوّ فَإِمّا يَأْتِيَنّكُم مّنّي هُدًى فَمَنِ اتّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلّ وَلاَ يَشْقَىَ } .
يقول تعالى ذكره : قال الله تعالى لاَدم وحوّاء : اهْبِطَا جَمِيعا إلى الأرض بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوّ يقول : أنتما عدوّ إبليس وذرّيته ، وإبليس عدّوكما وعدوّ ذرّيتكما .
وقوله : " فإمّا يَأْتِيَنّكُمْ مِنّي هُدًى " يقول : فإن يأتكم يا آدم وحوّاء وإبليس مني هدى : يقول : بيان لسبيلي ، وما أختاره لخلقي من دين فَمَنِ اتّبَعَ هُدَايَ يقول : فمن اتبع بياني ذلك وعمل به ، ولم يزغ منه فَلا يَضِلّ يقول : فلا يزول عن مَحجة الحق ، ولكنه يرشد في الدنيا ويهتدي وَلا يَشْقَى في الاَخرة بعقاب الله ، لأن الله يدخله الجنة ، وينجيه من عذابه . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني الحسين بن يزيد الطحان ، قال : حدثنا أبو خالد الأحمر ، عن عمرو بن قيس الملائي ، عن عكرمة عن ابن عباس ، قال : تضمن الله لمن قرأ القرآن ، واتبع ما فيه أن لا يضلّ في الدنيا ولا يشقى في الاَخرة ، ثم تلا هذه الاَية : " فَمَنِ اتّبَعَ هَدَايَ فَلا يَضُلّ وَلا يَشْقَى " .
حدثني نصر بن عبد الرحمن الأودي ، قال : حدثنا حكام الرازيّ ، عن أيوب بن موسى ، عن مرو ، حدثنا الملائي عن ابن عباس أنه قال : إن الله قد ضمن . . . فذكر نحوه .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام ، عن أيوب بن يسار أبي عبد الرحمن ، عن عمرو بن قيس ، عن رجل عن ابن عباس ، بنحوه .
حدثنا عليّ بن سهل الرملي ، قال : حدثنا أحمد بن محمد النسائي ، عن أبي سلمة ، عن عطاء ، عن سعيد بن جُبير ، قال : قال ابن عباس : من قرأ القرآن واتبع ما فيه عصمه الله من الضلالة ، ووقاه ، أظنه أنه قال : من هول يوم القيامة ، وذلك أنه قال : " فَمَنِ اتّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلّ وَلا يَشْقَى " في الاَخرة .
{ قال اهبطا منها جميعا } الخطاب لآدم وحواء ، أو له ولإبليس ولما كانا أصلي الذرية خاطبهما مخاطبتهم فقال : { بعضكم لبعض عدو } لأمر المعاش كما عليه الناس من التجاذب والتحارب ، أو لاختلال حال كل من النوعين بواسطة الآخر ويؤيد الأول قوله : { فإما يأتينكم مني هدى } كتاب ورسول . { فمن اتبع هداي فلا يضل } في الدنيا { ولا يشقى } في الآخرة .
وقوله { اهبطا } مخاطبة لآدم وحواء ، ثم أخبرهما بقوله { جميعاً } أن إبليس والحية يهبطان معهما وأخبرهما بأن العداوة بينهم وبين أنسالهم إلى يوم القيامة . و { عدو } يوصف به الواحد والاثنان والجميع ، وقوله تعالى : { فإما يأتيكم مني هدى } شرط وجوابه في قوله { فمن اتبع } وما بعده إلى آخر القسم الثاني . و «الهدى » معناه دعوة شرعي ثم أعلمهم أنه من اتبع هداه وآمن به فإنه «لا يضل » في الدنيا { ولا يشقى } في الآخرة .