( وآية لهم أنا حملنا ذريتهم في الفلك المشحون ، وخلقنا لهم من مثله ما يركبون ، وإن نشأ نغرقهم فلا صريخ لهم ولا هم ينقذون ، إلا رحمة منا ومتاعاً إلى حين ) . .
إن في السياق مناسبة لطيفة بين النجوم والكواكب السابحة في أفلاكها ، والفلك المشحون السابح في الماء يحمل ذرية بني آدم ! مناسبة في الشكل ، ومناسبة في الحركة ، ومناسبة في تسخير هذا وذلك بأمر الله ، وحفظه بقدرته في السماوات والأرض سواء .
وهذه آية كتلك يراها العباد ولا يتدبرونها . بل هذه أقرب إليهم وأيسر تدبراً لو فتحوا قلوبهم للآيات .
ولعل الفلك المشحون المذكور هنا هو فلك نوح أبي البشر الثاني ؛ الذي حمل فيه ذرية آدم .
يقول تعالى : ودلالة لهم أيضًا على قدرته تعالى : تسخيره البحر ليحمل{[24758]} السفن ، فمن ذلك - بل أوله - سفينة نوح ، عليه السلام ، التي أنجاه الله تعالى فيها بمن معه من المؤمنين ، الذين لم يبق على وجه الأرض من ذرية آدم غيرهم ؛ ولهذا قال : { وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ } أي : آباءهم ، { فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ } أي : في السفينة [ الموقرة ]{[24759]} المملوءة من الأمتعة والحيوانات ، التي أمره الله أن يحمل فيها من كل زوجين اثنين .
قال ابن عباس : المشحون : المُوقَر . وكذا قال سعيد بن جبير ، والشعبي ، وقتادة ، [ والضحاك ] {[24760]} والسدي .
وقال الضحاك ، وقتادة ، وابن زيد : وهي سفينة نوح ، عليه السلام .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَآيَةٌ لّهُمْ أَنّا حَمَلْنَا ذُرّيّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ * وَخَلَقْنَا لَهُمْ مّن مّثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ * وَإِن نّشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلاَ صَرِيخَ لَهُمْ وَلاَ هُمْ يُنقَذُونَ * إِلاّ رَحْمَةً مّنّا وَمَتَاعاً إِلَىَ حِينٍ } .
يقول تعالى ذكره : ودليل لهم أيضا ، وعلامة على قُدرتنا على كلّ ما نشاء ، حملنا ذرّيتهم يعني من نجا من ولد آدم في سفينة نوح ، وإياها عنى جلّ ثناؤه بالفُلك المشحون والفلك : هي السفينة ، والمشحون : المملوء الموقر . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس قوله : أنّا حَمَلْنا ذُرّيّتَهُمْ فِي الفُلْكِ المَشْحُونِ يقول : الممتلىء .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : في الفُلْكِ المَشْحُونِ يعني المثقل .
حدثني سليمان بن عبد الجبار ، قال : حدثنا محمد بن الصلت ، قال : حدثنا أبو كدينة ، عن عطاء ، عن سعيد الفُلْكِ المَشْحُونِ قال : الموقَر .
حدثنا عمران بن موسى ، قال : حدثنا عبد الوارث ، قال : حدثنا يونس ، عن الحسن ، في قوله : المَشْحُونَ قال : المحمول .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : أنّا حَمَلْنا ذُرّيّتَهُمْ فِي الفُلْكِ المَشْحُونِ يعني : سفينة نوح عليه السلام .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وَآيَةٌ لَهُمْ أنّا حَمْلنا ذُرّيّتَهُمْ فِي الفُلْكِ المَشْحُونِ المُوقَر ، يعني سفينة نوح .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : الفُلْكِ المَشْحُونِ قال : الفلك المشحون : المَرْكَب الذي كان فيه نوح ، والذرية التي كانت في ذلك المركب قال : والمشحون : الذي قد شُحن ، الذي قد جعل فيه ليركبه أهله ، جعلوا فيه ما يريدون ، فربما امتلأ ، وربما لم يمتلىء .
حدثنا الفضل بن الصباح ، قال : حدثنا محمد بن فضيل ، عن عطاء ، عن سعيد بن جُبَير ، عن ابن عباس قال : أتدرون ما الفُلك المشحون ؟ قلنا : لا ، قال : هو المُوقَر .
حدثنا عمرو بن عبد الحميد الاَمُلِي ، قال : حدثنا هارون ، عن جُوَيبر ، عن الضحاك ، في قوله : الفُلكِ المَشحُون قال المُوقَر .
{ وآية لهم أنا حملنا ذريتهم } أولادهم الذين يبعثونهم إلى تجارتهم ، أو صبيانهم ونساءهم الذين يستصحبونهم ، فإن الذرية تقع عليهن لأنهن مزارعها . وتخصيصهم لان استقرارهم في السفن أشق وتماسكهم فيها أعجب ، وقرأ نافع وابن عامر { ذرياتهم } . { في الفلك المشحون } المملوء ، وقيل المراد فلك نوح عليه الصلاة والسلام ، وحمل الله ذرياتهم فيها أنه حمل فيها آباءهم الأقدمين وفي أصلابهم هم وذرياتهم ، وتخصيص الذرية لأنه أبلغ في الامتنان وأدخل في التعجب مع الإيجاز .
{ آية } معناه علامة ودليل ، ورفعها بالابتداء وخبره في قوله { لهم } ، و { أنا } بدل من { آية } وفيه نظر ، ويجوز أن تكون «أن » مفسرة لا موضع لها من الإعراب ، والحمل منع الشيء أن يذهب سفلاً ، وذكر الذرية لضعفهم عن السفر فالنعمة فيهم أمكن ، وقرأ نافع وابن عامر والأعمش «ذرياتهم » بالجمع ، وقرأ الباقون «ذريتهم » بالإفراد ، وهي قراءة طليحة وعيسى ، والضمير المتصل بالذريات هو ضمير الجنس ، كأنه قال ذريات جنسهم أو نوعهم هذا أصح ما اتجه في هذا ، وخلط بعض الناس في هذا حتى قالوا الذرية تقع على الآباء وهذا لا يعرف لغة ، وأما معنى الآية فيحتمل تأويلين : أحدهما قاله ابن عباس وجماعة ، وهو أن يريد ب «الذريات المحمولين » أصحاب نوح في السفينة ، ويريد بقوله { من مثله } السفن الموجودة في جنس بني آدم إلى يوم القيامة ، وإياها أراد الله تعالى بقوله { وإن نشأ نغرقهم } ، والتأويل الثاني قاله مجاهد والسدي وروي عن ابن عباس أيضاً هو أن يريد بقوله { أنا حملنا ذريتهم في الفلك المشحون } السفن الموجودة في بني آدم إلى يوم القيامة .
ويريد بقوله { وخلقنا لهم من مثله ما يركبون } الإبل وسائر ما يركب فتكون المماثلة في أنه مركوب مبلغ إلى الأقطار فقط ، ويعود قوله { وإن نشأ نغرقهم } على السفن الموجودة في الناس ، وأما من خلط القولين فجعل الذرية في الفلك في قوم نوح في سفينة وجعل { من مثله } في الإبل فإن هذا نظر فاسد يقطع به قوله تعالى : { وإن نشأ نغرقهم } فتأمله ، و { الفلك } جمع على وزنه هو الإفراد معناه الموفر ، و { من } في قوله { من مثله } ، يتجه على أحد التأويلين : أن تكون للتبعيض ، وعلى التأويل الآخر أن تكون لبيان الجنس فانظره ، ويقال الإبل مراكب البر .