45- لقد نصبنا من الدلائل على التوحيد ما يهدى ذوى الألباب ، انظر إلي الظل فقد بسطه الله وجعله ساكناً أول النهار ، ثم سلطنا الشمس تزيل منه بما يحل محله من أشعتها ، فكانت الشمس دالة عليه ولولاها ما عرف الظل ، ولو شاء الله لجعل الظل ساكناً مطبقاً على الناس فتفوت مصالحهم ومرافقهم{[157]} .
{ 45 - 46 } { أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا * ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا }
أي : ألم تشاهد ببصرك وبصيرتك كمال قدرة ربك وسعة رحمته ، أنه مد على العباد الظل وذلك قبل طلوع الشمس { ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ } أي : على الظل { دَلِيلًا } فلولا وجود الشمس لما عرف الظل فإن الضد يعرف بضده .
( ألم تر إلى ربك كيف مد الظل - ولو شاء لجعله ساكنا - ثم جعلنا الشمس عليه دليلا ثم قبضناه إلينا قبضا يسيرا ) . .
إن مشهد الظل الوريف اللطيف ليوحي إلى النفس المجهودة المكدودة بالراحة والسكن والأمان . وكأنما هو اليد الآسية الرحيمة تنسم على الروح والبدن ، وتمسح على القرح والألم ، وتهدهد القلب المتعب المكدود . .
أفهذا الذي يريده الله سبحانه وهو يوجه قلب عبده إلى الظل بعدما ناله من استهزاء ولأواء ? وهو يمسح على قلبه المتعب في هذه المعركة الشاقة ، وهو في مكة يواجه الكفر والكبر والمكر والعناد ، في قلة من المؤمنين وكثرة من المشركين ؛ ولم يؤذن له بعد في مقابلة الاعتداء بمثله وفي رد الأذى والتهجم والاستهزاء ? ! إن هذا القرآن الذي كان يتنزل على قلب رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] كان هو البلسم المريح ، والظل الظليل ، والروح المحيي في هجير الكفر والجحود والعصيان . وإن الظل - وبخاصة في هجير الصحراء المحرق - لهو المشهد الذي يتناسق مع روح السورة كلها وما فيها من أنداء وظلال .
والتعبير يرسم مشهد الظل ويد الله الخفية التدبير تمده في رفق ، وتقبضه في لطف : ( ألم تر إلى ربك كيف مد الظل ? ) . . ( ثم قبضناه إلينا قبضا يسيرا ) . .
والظل هو ما تلقيه الأجرام من الظلمة الخفيفة حين تحجب أشعة الشمس في النهار . وهو يتحرك مع حركة الأرض في مواجهة الشمس ، فتتغير أوضاعه وامتداداته وأشكاله ؛ والشمس تدل عليه بضوئها وحرارتها ، وتميز مساحته وامتداده وارتداده . ومتابعة خطوات الظل في مده وانقباضه يشيع في النفس نداوة وراحة كما يثير فيها يقظه لطيفة شفيفة ، وهي تتتبع صنع البارى ء اللطيف القدير . . وإن مشهد الظلال والشمس مائلة للمغيب ، وهي تطول وتطول ، وتمتد وتمتد . ثم في لحظة . لحظة واحدة ينظر الإنسان فلا يجدها جميعا . لقد اختفى قرص الشمس وتوارت معه الظلال . أين تراها ذهبت ? لقد قبضتها اليد الخفية التي مدتها . لقد انطوت كلها في الظل الغامر الطامي . ظل الليل والظلام !
إنها يد القدرة القوية اللطيفة . التي يغفل البشر عن تتبع آثارها في الكون من حولهم وهي تعمل دائبة لا يدركها الكلال .
( ولو شاء لجعله ساكنا ) . . فبناء الكون المنظور على هذا النسق ، وتنسيق المجموعة الشمسية هذا التنسيق هو الذي جعل الظل متحركا هذه الحركة اللطيفة . ولو اختلف ذلك النسق أقل اختلاف لاختلفت آثاره في الظل الذي نراه . لو كانت الأرض ثابتة لسكن الظل فوقها لا يمتد ولا يقبض . ولو كانت سرعتها أبطأ أو أسرع مما هي عليه لكان الظل في امتداده وقبضه أبطأ أو أسرع . فتنسيق الكون المنظور على ناموسه هذا هو الذي يسمح بظاهرة الظل ، ويمنحها خواصها التي نراها .
وهذا التوجيه إلى تلك الظاهرة التي نراها كل يوم ، ونمر بها غافلين ، هو طرف من منهج القرآن في استحياء الكون دائما في ضمائرنا ، وفي إحياء شعورنا بالكون من حولنا ، وفي تحريك خوامد إحساسنا التي افقدها طول الألفة إيقاع المشاهد الكونية العجيبة ، وطرف من ربط العقول والقلوب بهذا الكون الهائل العجيب .
من هاهنا شرع تعالى في بيان الأدلة الدالة على وجوده ، وقدرته التامة على خلق الأشياء المختلفة والمتضادة ، فقال : { أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ } ؟ قال ابن عباس ، وابن عمر ، وأبو العالية ، وأبو مالك ، ومسروق ، ومجاهد ، وسعيد بن جبير ، وإبراهيم النَّخَعِي ، والضحاك ، والحسن البصري ، وقتادة ، والسدي ، وغيرهم : هو ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس . { وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا } أي : دائما لا يزول ، كما قال تعالى : { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } ، { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } [ القصص : 71 - 72 ] .
وقوله : { ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلا } أي : لولا أن الشمس تطلع عليه ، لما عرف ، فإن{[21540]} الضد لا يعرف إلا بضده .
وقال قتادة ، والسّدي : دليلا يتلوه ويتبعه حتى يأتي عليه كله .
القول في تأويل قوله تعالى : { أَلَمْ تَرَ إِلَىَ رَبّكَ كَيْفَ مَدّ الظّلّ وَلَوْ شَآءَ لَجَعَلَهُ سَاكِناً ثُمّ جَعَلْنَا الشّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً * ثُمّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضاً يَسِيراً } .
يقول تعالى ذكره : ألَمْ تَرَ يا محمد كَيْفَ مَدّ ربك الظّلّ ، وهو ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : ألَمْ تَرَ إلى رَبّك كَيْفَ مَدّ الظّلّ يقول : ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله ألَمْ تَرَ إلى رَبّكَ كَيْفَ مَدّ الظّلّ قال : مدّه ما بين صلاة الصبح إلى طلوع الشمس .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يعقوب ، عن جعفر ، عن سعيد بن جُبير ، في قوله ألمْ تَرَ إلى رَبّكَ كَيْفَ مَدّ الظّلّ وَلَوْ شاءَ لجَعَلَهُ ساكِنا قال : الظلّ : ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس .
حدثنا محمد بن عبد الله بن بزيع ، قال : حدثنا أبو محصن ، عن حصين ، عن أبي مالك ، قال ألَمْ تَرَ إلى رَبّكَ كَيْفَ مَدّ الظّلّ قال : ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله كَيْفَ مَدّ الظّلّ قال : ظلّ الغداة قبل أن تطلع الشمس .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، قال : الظلّ : ظلّ الغداة .
قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن عكرِمة ، قوله : ألَمْ تَرَ إلى رَبّكَ كَيْفَ مَدّ الظّلّ قال : مدّه من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : ألَمْ تَرَ إلى رَبّكَ كَيْفَ مَدّ الظّلّ يعني من صلاة الغداة إلى طلوع الشمس .
قوله : وَلَوْ شاءَ لجَعَلَهُ ساكِنا يقول : ولو شاء لجعله دائما لا يزول ، ممدودا لا تذهبه الشمس ، ولا تنقصه . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : وَلَوْ شاءَ لجَعَلَهُ ساكِنا يقول : دائما .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : وَلَوْ شاءَ لجَعَلَهُ ساكِنا قال : لا تصيبه الشمس ولا يزول .
حدثنا القاسم : قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد وَلَوْ شَاءَ لجَعَلَهُ ساكِنا قال : لا يزول .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ولَوْ شَاءَ لجَعَلَهُ ساكِنا قال : دائما لا يزول .
وقوله ثُمّ جَعَلْنا الشّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً يقول جلّ ثناؤه : ثم دللناكم أيها الناس بنسخ الشمس إياه عند طلوعها عليه ، أنه خلْق من خلق ربكم ، يوجده إذا شاء ، ويفنيه إذا أراد والهاء في قوله «عليه » من ذكر الظلّ . ومعناه : ثم جعلنا الشمس على الظلّ دليلاً . قيل : معنى دلالتها عليه أنه لو لم تكن الشمس التي تنسخه لم يعلم أنه شيء ، إذا كانت الأشياء إنما تعرف بأضدادها ، نظير الحلو الذي إنما يعرف بالحامض والبارد بالحارّ ، وما أشبه ذلك . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله ثُمّ جَعَلْنا الشّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً يقول : طلوع الشمس .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ثُمّ جَعَلْنَا الشّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً قال : تحويه .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، مثله .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قول الله : ثُمّ جَعَلْنا الشّمْسَ عَليْهِ دَلِيلاً قال : أخرجت ذلك الظلّ فذهبت به .