فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أي : تركوا ما ذكروا به ، واستمروا على غيهم واعتدائهم .
أَنْجَيْنَا من العذاب الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وهكذا سنة اللّه في عباده ، أن العقوبة إذا نزلت نجا منها الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر .
وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا وهم الذين اعتدوا في السبت بِعَذَابٍ بَئِيسٍ أي : شديد بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ
وأما الفرقة الأخرى التي قالت للناهين : لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ فاختلف المفسرون في نجاتهم وهلاكهم ، والظاهر أنهم كانوا من الناجين ، لأن اللّه خص الهلاك بالظالمين ، وهو لم يذكر أنهم ظالمون .
فدل على أن العقوبة خاصة بالمعتدين في السبت ، ولأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض كفاية ، إذا قام به البعض سقط عن الآخرين ، فاكتفوا بإنكار أولئك ، ولأنهم أنكروا عليهم بقولهم : لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فأبدوا من غضبهم عليهم ، ما يقتضي أنهم كارهون أشد الكراهة لفعلهم ، وأن اللّه سيعاقبهم أشد العقوبة .
فلما لم يجد النصح ، ولم تنفع العظة ، وسدر السادرون في غيهم ، حقت كلمة الله ، وتحققت نذره . فإذا الذين كانوا ينهون عن السوء في نجوة من السوء . وإذا الأمة العاصية يحل بها العذاب الشديد الذي سيأتي بيانه . فأما الفرقة الثالثة - أوالأمة الثالثة - فقد سكت النص عنها . . ربما تهوينا لشأنها - وإن كانت لم تؤخذ بالعذاب - إذ أنها قعدت عن الإنكار الإيجابي ، ووقفت عند حدود الإنكار السلبي . فاستحقت الإهمال وإن لم تستحق العذاب :
( فلما نسوا ما ذكروا به أنجينا الذين ينهون عن السوء ، وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس بما كانوا يفسقون . فلما عتوا عما نهوا عنه قلنا لهم : كونوا قردة خاسئين ) . .
لقد كان العذاب البئيس - أي الشديد - الذي حل بالعصاة المحتالين ، جزاء إمعانهم في المعصية - التي يعتبرها النص هي الكفر ، الذي يعبر عنه بالظلم مرة وبالفسق مرة كما هو الغالب في التعبير القرآني عن الكفر والشرك بالظلم والفسق ؛ وهو تعبير يختلف عن المصطلح الفقهي المتأخر عن هذه الألفاظ إذ أن مدلولها القرآني ليس هو المدلول الذي جعل يشيع في التعبير الفقهي المتأخر –
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{فلما نسوا ما ذكروا به}، يعني فلما تركوا ما وعظوا به من أمر الحيتان، {أنجينا} من العذاب {الذين ينهون عن السوء}، يعني المعاصي، {وأخذنا الذين ظلموا}، يعني وأصبنا الذين ظلموا، {بعذاب}، يعني المسخ، {بئيس}، يعني شديد، {بما كانوا يفسقون}، يعني يعصون...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: فلما تركت الطائفة التي اعتدت في السبت ما أمرها الله به من ترك الاعتداء فيه وضيعت ما وعظتها الطائفة الواعظة وذكرتها ما ذكرتها به من تحذيرها عقوبة الله على معصيتها فتقدمت على استحلال ما حرّم الله عليها، أنجى الله الذين ينهون منهم عن السوء، يعني عن معصية الله، واستحلال حرمه. "وأخَذْنا الّذِينَ ظَلَمُوا "يقول: وأخذ الله الذين اعتدوا في السبت فاستحلوا فيه ما حرّم الله من صيد السمك وأكله، فأحلّ بهم بأسه وأهلكهم. "بِعَذَابٍ" شديد بِئِيسٍ "بِمَا كانُوا يَفْسُقونَ" يخالفون أمر الله، فيخرجون من طاعته إلى معصيته، وذلك هو الفسق...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{فلما نسوا ما ذكّروا به} أي تركوا، وأعرضوا عما ذكّروا به..
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
{بِعَذَابٍ بَئِيس} فيه ثلاثة أوجه:... والثاني: رديء، قاله الأخفش. الثالث: أنه العذاب المقترن بالفقر وهو البؤس...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
إذا تمادى العبد في تَهتُّكِه، ولم يُبالِ بطول الإمهال والسَّتْر، لم تُهْمِلْ يدُ التقرير عن استئصال العين، ومحو الأثر، وسرعة الحساب، وتعجيل العذاب الأدنى قبل هجوم الأكبر.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
والضمير في قوله: {نسوا} للمنهيين وهو ترك سمي نسياناً مبالغة إذ أقوى منازل الترك أن ينسى المتروك. و {ما} في قوله: {ما ذكروا به} معنى الذي، ويحتمل أن يراد به الذكر نفسه، ويحتمل أن يراد به ما كان فيه الذكر، و {السوء} لفظ عام في جميع المعاصي إلا أن الذي يختص هنا بحسب قصص الآية صيد الحوت، و {الذين ظلموا} هم العاصون، وقوله: {بعذاب بئيس} معناه مؤلم موجع شديد...
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
فنص على نجاة الناهين وهلاك الظالمين، وسكت عن الساكتين؛ لأن الجزاء من جنس العمل، فهم لا يستحقون مدحا فيمدحوا، ولا ارتكبوا عظيما فيذموا...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{فلما نسوا ما ذكّروا به} أي فلما نسي العادون المذنبون، ما ذكرهم ووعظهم به إخوانهم المتقون، بأن تركوه وأعرضوا عنه حتى صار كالمنسي في كونه لا تأثير له {أنجينا الذين ينهون عن السوء} أي عن العمل الذي تسوء عاقبته أي أنجيناهم من العقاب الذي استحقه فاعلو السوء بظلمهم {وأخذنا الذين ظلموا} وحدهم {بعذاب بئيس} أي شديد البأس وهو الشدة، أو البؤس وهو المكروه أو الفقر {بما كانوا يفسقون} أي بسبب فسقهم المستمر، لا بظلمهم في الاعتداء في السبت فقط. وذلك أن وصفهم بأنهم ظلموا تعليل لأخذهم بعذاب بئيس، على قاعدة كون بناء الحكم أو الجزاء على المشتق يدل على أن المشتق منه علة له.
ولكن الله تعالى لا يؤاخذ كل ظالم في الدنيا بكل ظلم يقع منه ولو كان قليلا في الصفة أو العدد- وإن شئت قلت في الكيف أو الكم- بدليل قوله: {ولو يؤاخذ اللّه الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابّة} [فاطر: 45] وقوله: {ويعفو عن كثير} [المائدة: 15] وإنما يؤاخذ الأمم والشعوب في الدنيا قبل الآخرة بالظلم والذنوب التي يظهر أثرها فيها بالإصرار والاستمرار عليها، وهو ما أفاده هنا في هؤلاء اليهود قوله تعالى: {بما كانوا يفسقون} وإنما يكون العقاب على بعض الذنوب دون بعض في الدنيا خاصا بالأفراد أو الجماعات الصغيرة من المذنبين كأهل هذه القرية الذين كانوا بعض أهل قرية من أمة كبيرة، وأما الأمم الكبيرة فهي التي تصدق عليها سنن الله في عقاب الأمم إذا غلب عليهم الفسق والظلم كقوله تعالى: {واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة} [الأنفال: 25] إلا أن يقال إن الفاسقين من أهل تلك القرية كانوا أقل من الفريقين الآخرين. وقد عاقب الله بني إسرائيل كافة بتنكيل البابليين ثم النصارى بهم وسلبهم ملكهم، عندما عم فسقهم، ولم يدفع ذلك عنهم وجود بعض الصالحين فيهم، إذ لم يكونوا يخلون منهم.
والآية ناطقة بهلاك الظالمين الفاسقين، ونجاة الصالحين الذين نهوهم عن عمل السوء وارتكاب المنكر، وسكتت عن الفرقة التي أنكرت على الواعظين وعظهم وإنكارهم، فقيل: إنها لم تنج، لأنها لم تنه عن المنكر بل أنكرت على الذين نهوا، وقيل: بل نجت، لأنها كانت منكرة للمنكر مستقبحة له، ولذلك لم تفعله، وإنما لم تنه عنه ليأسها من فائدة النهي، وجزمها بأن القوم قد استحقوا عقاب الله بإصرارهم فلا يفيدهم الوعظ، وروي هذا عن ابن عباس كما روي عنه أنه كان مترددا في هذه الفرقة حتى أقنعه تلميذه عكرمة بنجاتها. وقد رجح الزمخشري وغيره هذا... أقول: إن ما ذكره من سقوط النهي عن المنكر أو وجوب تركه في حالة اليأس من تأثيره مرجوح ولاسيما إذا أخذ على إطلاقه، وإنما هو شأن أضعف الإيمان في حديث (من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان) رواه أحمد ومسلم وأصحاب السنن عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه وإنما تكون هذه الحالة أضعف الإيمان عند عدم استطاعة ما قبلها، فإن استطاع النهي وسكت عنه لم يكن له عذر مطلقا، ولذلك اختلف في هؤلاء الساكتين. المحتملة حالهم للعذر وعدمه، واليأس قلما ينشأ إلا من ضعف في النفس أو الإيمان، وكأين من مكاس وجلاد ومدمن خمر تاب وأناب، والمحققون لم يجعلوا احتمال الأذى ولا يقينه موجبا لترك النهي عن المنكر ولا لتفضيله على الفعل بل قالوا في هذه الحالة بالجواز، واستدلوا على تفضيل النهي بحديث (أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر) رواه أحمد والنسائي وابن ماجه وغيرهم...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
فلما لم يجد النصح، ولم تنفع العظة، وسدر السادرون في غيهم، حقت كلمة الله، وتحققت نذره. فإذا الذين كانوا ينهون عن السوء في نجوة من السوء. وإذا الأمة العاصية يحل بها العذاب الشديد الذي سيأتي بيانه. فأما الفرقة الثالثة – أو الأمة الثالثة -فقد سكت النص عنها.. ربما تهوينا لشأنها- وإن كانت لم تؤخذ بالعذاب -إذ أنها قعدت عن الإنكار الإيجابي، ووقفت عند حدود الإنكار السلبي. فاستحقت الإهمال وإن لم تستحق العذاب...