بحر العلوم لعلي بن يحيى السمرقندي - السمرقندي  
{فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِۦٓ أَنجَيۡنَا ٱلَّذِينَ يَنۡهَوۡنَ عَنِ ٱلسُّوٓءِ وَأَخَذۡنَا ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابِۭ بَـِٔيسِۭ بِمَا كَانُواْ يَفۡسُقُونَ} (165)

{ فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكّرُواْ بِهِ } يعني : تركوا ما وعظوا به { أَنجَيْنَا } من العذاب { الذين يَنْهَوْنَ عَنِ السوء وَأَخَذْنَا الذين ظَلَمُواْ } يعني : عذبنا الذين تركوا أمر الله { بِعَذَابٍ بَئِيسٍ } يعني : شديد { بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ } يعني : يعصون ويتركون أمر الله تعالى . وقال ابن عباس رضي الله عنهما : كان القوم ثلاثة فرق . فرقة كانوا يصطادون . وفرقة كانوا ينهون . وفرقة لم ينهوا ولم يستحلوا وقالوا للواعظة : { لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا الله مُهْلِكُهُمْ } . وروى أبو بكر الهذلي عن عكرمة قال : أتيت ابن عباس وهو يقرأ في المصحف ويبكي فدنوت منه حتى أخذت بلوحي المصحف وقلت : ما يبكيك قال : تبكيني هذه السورة وهو يقرأ سورة الأعراف .

وقال : هل تعرف أيلة ؟ قلت : نعم . قال : إن الله تعالى أسكنها حياً من اليهود ، وابتلاهم بحيتان حرمها عليهم يوم السبت وأحلها لهم في سائر الأيام . فإذا كان يوم السبت خرجت إليهم الحيتان . فإذا ذهب السبت غابت في البحر حتى يغوص لها الطالبون ، وإن القوم اجتمعوا واختلفوا فيها . فقال فريق منهم : إنما حرمت عليكم يوم السبت أن تأكلوها فصيدوها يوم السبت ، وكلوها في سائر الأيام . وقال الآخرون : بل حرم عليكم أن تصيدوها أو تنفروها أو تؤذوها . وكانوا ثلاث فرق : فرقة على أَيمانهم ، وفرقة على شمائلهم ، وفرقة على وسطهم فقالت الفرقة اليمنى فجعلت تنهاهم في يوم السبت ، وجعلت تقول : الله يحذركم بأس الله . وأما الفرقة اليسرى فأمسكت أيديها ، وكفت ألسنتها . وأما الوسطى فوثبت على السمك تأخذه . وجعلت الفرقة الأخرى التي كفت أيديها ، وألسنتها ، ولم تتكلم . تقول : { لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا الله مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيدًا } فقال : { الذين يَنْهَوْنَ } { مَعْذِرَةً إلى رَبّكُم وَلَعَلَّكُم تَتَّقُونَ } فدخل الذين أصابوا السمك إلى المدينة ، وأبى الآخرون أن يدخلوا معهم فغدا هؤلاء الذين أبوا أن يدخلوا المدينة . فجعلوا ينادون من فيها فلم يجبهم أحد . فقالوا : لعل الله خسف بهم ، أو رموا من السماء بحجارة ، فارفعوا رجلاً ينظر ، فجعلوا رجلاً على سلم فأشرف عليهم ، فإذا هم قردة تتعادى ولها أذناب قد غيّر الله تعالى صورهم بصنيعهم . فصاح إلى القوم فإذا هم قد صاروا قردة ، فكسروا الباب ، ودخلوا منازلهم ، فجعلوا لا يعرفون أنسابهم ، ويقولون لهم : ألم ننهكم عن معصية الله تعالى ونوصيكم ؟ فيشيرون برؤوسهم بلى ودموعهم تسيل على خدودهم . فأخبر الله تعالى أنه أنجى الذين ينهون عن السوء ، وأخذ الذين ظلموا . قوله : { أَنجَيْنَا الذين يَنْهَوْنَ عَنِ السوء وَأَخَذْنَا الذين ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ } . ولا يدرى ما صنع بالذين لم ينهوا ولم يأخذوا .

وقال عكرمة : بل أهلكهم الله لأنه أنجى الذين ينهون عن السوء . وأهلك الفريقين الآخرين . فوهب له ابن عباس بردة بهذا الكلام .

وروي في رواية أُخرى أنهم كانوا يأخذون الحظائر والحياض بجنب البحر ، ويسيلون الماء فيها يوم السبت من البحر حتى يدخل فيها السمك ، ويأخذونه في يوم الأحد فقالوا : إنا نأخذه في يوم الأحد . فلما لم يعذبوا استحلوا الأخذ في يوم السبت من البحر وقالوا : إنما حرم الله على أبنائنا ولم يحرم علينا فنهاهم الصلحاء فلم يمتنعوا ، فضربوا حائطاً بينهم ، وصارت الواعظة في ناحية ، والذين استحلوا في ناحية والحائط بين الفريقين . فأصبحوا في يوم من الأيام ولم يفتح الباب الذي بينهما ، فارتقى واحد منهم الحائط ، فإذا القوم قد مسخوا إلى قردة . وقال بعضهم : كان القوم أربعة أصناف صنف يأخذون ، وصنف يرضون ، وصنف ينهون ، وصنف يسكتون ، فنجا صنفان ، وهلك صنفان . قال بعضهم : كانوا صنفين صنف يأخذون ، وصنف ينهون .

وروى قتادة عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال : كانوا ثلاث فرق فهلك الثاني ، ونجا الثالث ، والله أعلم ما فعل بالفرقة الثالثة . قرأ نافع { بعذاب بِيْس } بكسر الباء وسكون الياء بلا همز . وقرأ عاصم في رواية أبي بكر { بعذاب بَيْأَس } بفتح الباء وسكون الياء وفتح الهمزة . وقرأ الباقون : { ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ } بنصب الباء وكسر الياء والهمزة وسكون الياء وهي اللغة المعروفة ، والأولى لغة لبعض العرب .