قوله : { فَلَماَّ نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ } الضَّميرُ في نَسُوا للْمنهيِّينَ و " ما " موصولةٌ بمعنى " الذي " أي : فلمَّا نسُوا الوعظ الذي ذكَّرَهُم به الصَّالحون .
قال ابنُ عطيَّة{[16926]} : ويحتمل أن يُرادَ به الذِّكرُ نفسه ، ويحتمل أن يراد به ما كان فيه الذكر .
قال أبُو حيان{[16927]} : ولا يظهرُ لي هذان الاحتمالان .
قال شهابُ الدِّين{[16928]} : يعني ابنُ عطية بقوله : " الذِّكرُ نفسُهُ " أي : نفسُ الموصول مُرادٌ به المصدر كأنه قال : فلمَّا نسُوا الذِّكْرَ الذي ذُكِّروا به ، وبقوله : " مَا كان فيه الذِّكر " نَفَسُ الشيء المذكَّر به الذي هو متعلِّق الذكر ؛ لأن ابن عطيَّة لمَّا جعل " ما " بمعنى " الذي " قال : إنَّها تحتملُ الوقوع على هذين الشيئين المتغايرين .
النِّسيان يطلق على السَّاهي ، والعامد التَّارك لقوله : { فَلَماَّ نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ } أي : تركوه عن قصد ، ومنه قوله تعالى : { نَسُواْ الله فَنَسِيَهُمْ } [ التوبة : 67 ] .
المعنى : فلمَّا تركوا ما وعظوا به ، { أَنجَيْنَا الذين يَنْهَوْنَ عَنِ السواء وَأَخَذْنَا الذين ظَلَمُواْ } أي الذين أقدموا على المعصية .
واختلف المفسِّرون في الفرقة السَّاكتة . فنقل عن ابن عبَّاسٍ : أنَّهُ توقَّف فيهم ، ونقل عنه : هلكت الفرقتان ونجت النَّاهية ، وكان ابنُ عباس إذا قرأ هذه الآية بكى وقال : إنَّ هؤلاء الذين سكتوا عن النَّهي عن المنكر هلكوا ، ونحن نرى أشياء ننكرها ، ثم نسكت ، ولا نقول شيئاً .
وقال الحسنُ : نجت الفرقتانِ ، وهلكت العاصية{[16929]} ، لأنهم لما قالوا : { لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً الله مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ } دلَّ على أنَّهُمْ أنكروا أشد الإنكار ، وأنَّهُمْ إنَّما تركوا وعظهم ؛ لأنه غلب على ظنهم أنهم لا يلتفتون إلى ذلك الوعظِ .
فإن قيل : إن ترك الوعظِ معصية ، والنَّهي عنه أيضاً معصية ؛ فوجب دخول هؤلاء التَّاركين للوعظ النَّاهين عنه تحت قوله : { وَأَخَذْنَا الذين ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ } .
فالجوابُ : هذا غير لازمٍ ؛ لأنَّ النَّهي عن المنكر إنَّمَا يجب على الكفاية ، ولو قام به البعض سقط عن الباقين .
وروي عن ابن عبَّاس أنه قال : أسمعُ الله يقول : { أَنجَيْنَا الذين يَنْهَوْنَ عَنِ السواء وَأَخَذْنَا الذين ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ } ، فلا أدري ما فعلت الفرقة السَّاكتة{[16930]} ؟
قال عكرمةُ : قلت له : جعلني اللَّهُ فداك ، ألا تراهم قد أنكروا ، وكرهوا ما هم عليه وقالوا : { لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً الله مُهْلِكُهُمْ } ، وإن لم يقل الله أنجيتهم لم يقل : أهلكتهم ، فأعجبه قولي ورضي به ، وأمر لي ببردين فكسانيهما ؛ وقال : نَجتِ السَّاكتةُ ، وهذا قول يمان بن رباب ، والحسن ، وابن زيد .
قوله : " بعذابٍ بئيسٍ " . أي : شديد .
قرأ نافعٌ ، وأبو جعفر ، وشيبةٌ بيْسٍ{[16931]} بياء ساكنة ، وابن عامر بهمزة ساكنة .
أحدها : أنَّ هذا في الأصْلِ فعلٌ ماضٍ سُمِّيَ به فأعربَ كقوله عليه الصَّلاة والسَّلام : " أنهاكم عن قيل وقال " بالإعراب والحكاية ، وكذا قولهم : " مُذ شبَّ إلى دبَّ ومُذ شبٍّ إلى دَبٍّ " ، فلما نُقل إلى الاسميَّة صار وصفاً ك : نِضْو ونِقْض .
والثاني : أنَّهُ وصف وضع على فعل ك : حِلْف .
الثالث : أن أصله بَئيس كالقراءةِ المشهورة ، فخفَّفَ الهمزة ؛ فالتقت ياءان ، ثم كسر الياء إتباعاً ، كرغيف وشهيد فاستثقل توالي ياءين بعد كسرةٍ ، فحذفت الياء المكسورة ؛ فصار اللَّفظُ " بِيْسٍ " وهو تخريج الكسائيِّ .
الرابع : أن أصله بَئِس بوزن " كَتِف " ثم أتبعت الياءُ للهمزة في الكسر ثم سُكِّنت الهمزة ، ثمَّ أبدلت ياء ك : بِيرٍ وذِيبٍ .
وأمَّا قراءة ابن عامر فتحتمل أن تكون فعلاً منقولاً ، وأن تكون وصفاً ك : حِلْف .
وقرأ أبو بكر عن عاصم بَيْئَسٍ بياء ساكنة بين باء ، وهمزة مفتوحتين ، وهو صفةٌ على فَيْعَل ك : ضَيْغَم ، وصَيْرَف ، وصَيْقَل ، وهي كثيرةٌ في الأوصافِ .
كِلاهُمَا كَأنَ رَئِيساً بَيْئَسا *** يَضْرِبُ في يومِ الهِيَاجِ القَوْنَسَا{[16932]}
وقرأ باقي السبعة " بَئِيسٍ " بزنه " رَئِيسٍ " وفيه وجهان :
أحدهما : أنَّهُ وصفٌ على " فَعِيلٍ " ك : شَدِيدٍ ، وهو للمبالغة وأصله فاعل .
والثاني : أنه مصدرٌ وصف به أي : بعذابٍ ذي بأس بَئِيس ، ف " بَئِيسٍ " مصدر مثل : النكير والقدير ، ومثر ذلك في احتمالِ الوجهين قول أبي الأصبع العدواني : [ مجزوء الكامل ]
حَنَقاً عليَّ ولا أرَى *** لِيَ مِنْهُمَا شَرّاً بَئِيساً{[16933]}
وهي أيضاً قراءةُ عليٍّ وأبي رجاء{[16934]} .
وقرأ يعقوبُ القارئ " بَئِسَ " بوزن " شَهِدَ " ، وقرأها أيضاً عيسى بنُ عُمَرَ ، وزيد بن علي .
وقرأ نصرُ بنُ عاصم " بَأسَ " بوزن " ضَرَبَ " فعلاً ماضياً .
وقرأ الأعمش ومالك بنُ دينار " بَأس " فعلاً ماضياً ، وأصله " بَئِس " بكسر الهمزة ، فسكَّنَهَا تخفيفاً ك : شَهْدَ في قوله : [ الرجز ]
لَوْ شَهْدَ عَاد فِيَ زَمَانِ تُبَّعِ{[16935]} *** . . .
وقرأ ابنُ كثير وأهل مكة بِئِسٍ بكسر البَاءِ ، والهمز همزاً خفيفاً ، ولم يُبَيِّن هل الهمزة مكسورةٌ أو ساكنةٌ ؟
وقرأ طلحة وخارجة عن نافع " بَيْسٍ " بفتح الباء ، وسكون الياء مثل : كَيْلٍ ، وأصله " بَيْئَس " مثل : ضَيْغَم فخفَّف الهمزة بقلبها ياءً ، وإدغام الياء فيها ثم خفَّفهُ بالحذف ك : مَيْت في : مَيِّت .
وقرأ عيسى بن عمر والأعمش وعاصم في رواية " بَيْئٍسٍ " كقراءة أبي بكر عنه ، إلاَّ أنَّهُ كسر الهمزة ، وهذه قد ردَّها النَّاسُ ؛ لأن " فَيْعِلاً " بكسر العين في المعتلِّ ، كما أن " فَيْعَلاً " بفتحها في الصحيح ك : سَيِّد وضَيْغَم ، على أنه قد شذّ " صَيْقِل " بالكسر ، و " عَيَّل " بالفتح .
وقرأ نصر في رواية مالك بن دينار عن " بَأسٍ " بفتح الباء والهمزة وجر السِّين ، بزنة " جَبَلٍ " .
وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي وطلحة بن مصرف " بَئِسٍ " مثل كبد وحذر .
قال عبيد الله بن قيس : [ المديد ]
لَيْتَنِي ألْقَى رُقَيَّةَ فِي *** خَلْوَةٍ مِنْ غَيْرِ مَا بَئِسِ{[16936]}
وقرأ نصر بنُ عاصم في رواية بَيِّسٍ بهمزةٍ مشددة .
قالوا : قلب الياء همةً وأدغمها في مثلها . ورويت هذه عن الأعمش أيضاً .
وقرأت طائفة بَأسَ بفتح الثلاثة ، والهمزة مشددة ، فعلاً ماضياً ، ك " شَمَّرَ " ، وطائفة أخرى بَأسَ كالتي قبلها إلاَّ أنَّ الهمزة خفيفةٌ ، وطائفة بَائسٍ بألف صريحة بين الباءِ والسِّينِ المجرورة ، وقرأ أهل المدينة بِئيسٍ ك : " رَئِيسٍ " ، إلاَّ أنهم كسروا الباء ، وهذه لغةُ تميم في فعيل الحلقيِّ العين نحو : بِعِير ، وشِعِير ، وشِهيد ، سواء أكان اسماً أم صفة .
وقرأ الحسن والأعمش " بِئْيَسٍ " بياء مكسورة ، ثم همزة ساكنة ، ثم يا مفتوحة ، بزنة " حِذْيَم " ، و " عِثْيَر " .
وقرأ الحسنُ بِئْسَ بكسر الباءِ ، وسكون الهمزة وفتح السِّينِ ، جعلها التي للذَّمِّ في نحو : بِئْسَ الرجل زيدٌ .
وقرأ الحسن أيضاً كذلك ، إلاَّ أنه بياءٍ صريحة ، وتخريجها كالتي قبلها ، وهي مرويةً عن نافع وقد ردَّ أبو حاتم هذه القراءةَ والتي قبلها بأنَّهُ لا يقالُ : مررت برجلٍ بِئْسَ ، حتَّى يقال بِئْسَ الرجل ، أو بئس رجلاً .
قال النَّحَّاس{[16937]} : وهذا مردودٌ - يعني قول أبي حاتم - حكى النحويون : إن فعلت كذا وكذا فبها ونعمت ، أي : ونعمت الخصلة ، والتقدير : بِئْسَ العذابُ .
قال شهابُ الدِّينِ{[16938]} : أبو حاتم معذورٌ في القراءة ، فإنَّ الفاعل ظاهراً غير مذكور ، والفاعل عمدةٌ لا يجوز حذفه ، ولكنه قد ورد في الحديث مَنْ تَوضَّأ فبها ونعْمتُ ، ومن اغتسَلَ فالغُسْلُ أفضلُ ففاعل " نِعْمَتْ " هنا مضمرٌ يفسِّرُهُ سياقُ الكلام .
قال أبُو حيَّان{[16939]} : فهذه اثنتان وعشرون قراءةً ، وضبطُها بالتَّلخيص : أنَّها قُرِئتْ ثلاثية اللَّفْظِ ، ورباعَّيتَهُ ، فالثُّلاثي اسماً : بِئْسٍ ، وَبِيْسٍ ، وبَيْسٍ ، وبَأْسٍ ، وبَأَسٍ ، وبَئِسٍ ، وفعلاً بِيْسَ وبِئْسَ ، وبَئِسَ ، وبَأَسَ ، وبَأْسَ ، وبَيِسَ .
والرباعية اسماً : بَيْئَسٍ ، وبِيْئِسٍ ، وبَيْئِسٍ ، وبَيِّسٍ ، وبَئِيْسٍ ، وبِئَيْسٍ ، وبِئْيِسٍ ، وبِئْيَسٍ ، وفعلاً : بَأَّسَ " .
وقد زا أبو البقاء{[16940]} أربع قراءات أخر : بَيِس بباء مفتوحة وياء مكسورة .
قال : وأصلها همزة مكسورة فأبدلت ياء ، وبَيَس بفتحهما .
قال : وأصلها ياء ساكنة وهمزة مفتوحة إلاَّ أنَّ حركة الهمزة ألقيت على الياء وحذفت ، ولم تقلب الياء ألفاً ، لأنَّ حركتها عارضةٌ . وبَأْيَسٍ بفتح الباء ، وسكون الهمزة وفتح الياء .
قال : وهو بعيد إذ ليس في الكلام " فَعْيَل " وبَيْآس على فَيْعَال . وهو غريب .