الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِۦٓ أَنجَيۡنَا ٱلَّذِينَ يَنۡهَوۡنَ عَنِ ٱلسُّوٓءِ وَأَخَذۡنَا ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابِۭ بَـِٔيسِۭ بِمَا كَانُواْ يَفۡسُقُونَ} (165)

قوله تعالى : { فَلَماَّ نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ } : الضمير في " نَسُوا " للمنهيين . و " ما " موصولةٌ بمعنى الذي ، أي : فلمَّا نَسُوا الوعظَ الذي ذكَّرهم به الصالحون . قال ابن عطية : " ويحتمل أن يُرادَ به الذِّكْرُ نفسُه ، ويُحتمل أن يرادَ به ما كان فيه الذكر " قال الشيخ : " ولا يَظْهر لي هذان الاحتمالان " قلت : يعني ابن عطية بقوله " الذكر نفسه " ، أي : نفسُ الموصول مرادٌ به المصدر كأنه قال : فلما نَسُوا الذكر الذي ذُكِّروا به ، وبقوله " ما كان فيه الذكر " نفسُ الشيء المُذَكَّر به الذي هو متعلَّق الذكر ، لأن ابن عطية لمَّا جَعَل " ما " بمعنى الذي قال : " إنها تحتملُ الوقوعَ على هذين الشيئين المتغايرين " .

قوله : { بِعَذَابٍ بَئِيسٍ } قرأ نافع وأبو جعفر وشيبة : " بِيْسٍ " بياء ساكنة . وابن عامر بهمزة ساكنة ، وفيهما أربعة أوجه ، أحدها : أن هذا في الأصل فعلٌ ماضٍ سُمِّي به فأُعْرِب كقوله عليه السلام : " أنهاكم عن قيلٍ وقال " بالإِعراب والحكاية ، وكذا قولهم : " مُذْ شَبَّ إلى دَبَّ " و " مُذْ شَبٍّ إلى دَبٍّ " فلمَّا نُقِل إلى الاسمية صار وَصْفاً ك نِضْو ونِقْض . والثاني : أنه وصف وُضِع على فِعْل كحِلْف . الثالث : أن أصلَه بَئيس كالقراءة المشهورة ، فخفَّف الهمزة ، فالتقت ياءان ثم كَسَر الباء إتباعاً كرِغيف وشِهيد ، فاستثقل توالي ياءين بعد كسرة ، فحذفت الياء المكسورة فصار اللفظ بِئْسٍ ، وهو تخريج الكسائي . الرابع : أن أصله " بَئِس " بزنة كَتِف ثم أُتْبعت الباءُ للهمزة في الكسر ، ثم سُكِّنت الهمزة ثم أُبدلت ياء . وأمَّا قراءةُ ابنِ عامر فتحتمل أن تكون فعلاً منقولاً ، وأن تكون وصفاً كحِلْف .

وقرأ أبو بكر عن عاصم " بَيْئَسٍ " بياء ساكنة بين باء وهمزة مفتوحتين وهو صفةٌ على فَيْعَل كضيغَم وصَيْرَف وهي كثيرة في الأوصاف/ . وقال امرؤ القيس بن عابس الكندي :

كلاهما كان رئيساً بَيْئَساً *** يَضْرِبُ في يومِ الهياجِ القَوْنَسا

وقرأ باقي السبعة بَئِيْسٍ بزنة رئيس . وفيه وجهان ، أحدهما : أنه وصفٌ على فَعِيل كشديد وهو للمبالغة وأصله فاعل . والثاني : أنه مصدرٌ وُصف به أي : بعذابٍ ذي بأس بئيس ، مصدر مثل النذير والنكير والعذير ، ومثل ذلك في احتمال الوجهين قول أبي الإِصبع العدواني :

حَنَقَاً عَلَيَّ ولا أَرَى *** ليَ منهما شَرَّاً بئيساً

وهي أيضاً قراءةُ علي وأبي رجاء .

وقرأ يعقوبٌ القارئ : بَئِسَ بوزن شَهِدَ ، وقرأها أيضاً عيسى بن عمر وزيد بن علي . وقرأ نصر بن عاصم : بَأَس بوزن ضَرَب فعلاً ماضياً .

وقرأ الأعمش ومالك بن دينار : بَأْس فعلاً ماضياً ، وأصله بئِس بكسرِ الهمزة فسَكَّنها تخفيفاً كشَهْد في قوله :

لو شَهْدَ عادَ في زمانِ تُبَّعِ ***

وقرأ ابن كثير وأهل مكة : بِئِسٍ بكسر الباء والهمز همزاً خفيفاً ، ولم يُبَيَّن : هل الهمزةُ مكسورةٌ أو ساكنة ؟

وقرأ طلحة وخارجة عن نافع بَيْسٍ بفتح الباء وسكون الياء مثل كَيْل وأصله بَيْئَس مثل : ضَيْغَم فخفَّف الهمزةَ بقلبها ياءً وإدغامِ الياء فيها ، ثم خَفَّفه بالحذف كمَيْت في مَيّت .

وقرأ عيسى بن عمر والأعمش وعاصم في رواية : بَيْئِسٍ كقراءة أبي بكر عنه إلا أنه كسر الهمزة . وهذه قد رَدَّها الناسُ لأن فَيْعِلاً بكسر العين في المعتلِّ ، كما أن فَيْعَلاً بفتحها في الصحيح كسيِّد وضَيْغَم . على أنه قد شذَّ : صَيْقِل بالكسر ، وعَيَّل بالفتح .

وقرأ نصر في رواية مالك بن دينار عنه " بَأَسٍ " بفتح الباء والهمزة وجَرِّ السين بزنة جَبَل .

وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي وطلحة بن مصرف " بِئَسٍ " مثل كَبِد وحَذِر قال عبيد الله بن قيس :

ليتني أَلْقَى رُقَيَّةَ في *** خَلْوةٍ من غير ما بَئِسِ

وقرأ نصر بن عاصم في رواية " بَيِّسٍ " بتشديد الياء كميّت ، وفيها تخريجان ، أحدهما : أنها من البؤس ولا أصلَ لها في الهمز ، والأصل : بَيْوِس كمَيْوِت ففُعِل به ما فُعِل به . والثاني : أن أصلَه الهمزةُ فأبدلها ياءً ثم أدغم الباء في الياء .

وقرأ أيضاً في روايةٍ " بَأَّس " بهمزةٍ مشددة ، قالوا : قَلَبَ الياءَ همزةً وأدغمها في مثلها ماضياً كشَمَّر .

وطائفة أخرى : بَأَسَ " كالتي قبلها إلا أن الهمزةَ خفيفةٌ .

وطائفة : " باسٍ " بألف صريحة بين الباء والسين المجرورة .

وقرأ أهلُ المدينة : " بِئيس " كرئيس ، إلا أنهم كسروا الباءَ ، وهذه لغةُ تميم في فعيل الحلقيِّ العين نحو : بِعير وشعير وشهيد سواء أكان اسماً أم صفة .

وقرأ الحسن والأعمش : " بِئْيَسٍ " بياءٍ مكسورة ثم همزةٍ ساكنة ثم ياءٍ مفتوحةٍ بزنة حِذْيَم وعِثْيَر .

وقرأ الحسن : بِئْسَ بكسرِ الباء وسكون الهمزة وفتح السين ، جَعَلَها التي للذَّمِّ في نحو : بئس الرجل زيد ، ورُوِيت عن أبي بكر .

وقرأ الحسن أيضاً كذلك إلا أنه بياءٍ صريحة ، وتخريجُها كالتي قبلها وهي مرويَّةٌ عن نافع . وقد ردَّ أبو حاتم هذه القراءةَ والتي قبلها بأنه لا يُقال : " مررت برجلٍ بئس " حتى يقال : بئس الرجل ، أو بئس رجلاً . قال النحاس : " وهذا مردودٌ يعني قولَ أبي حاتم حكى النحويون : " إن فعلتَ كذا وكذا فبها ونعمَتْ " ، أي : ونِعمَتِ الخَصْلة ، والتقدير : بئس العذاب " . قلت : أبو حاتم معذورٌ في [ ردّ ] القراءة فإن الفاعلَ ظاهراً غيرُ مذكور والفاعلُ عمدةٌ لا يجوز حذفه ، ولكن قد ورد في الحديث : " من توضَّأ فبها ونعمت ومن اغتسل فالغسل أفضل " ففاعل " نعمت " هنا مضمرٌ يفسَِّره/ سياقُ الكلام . قال الشيخ : " فهذه اثنتان وعشرون قراءةً ، وضبطُها بالتلخيص أنها قُرِئَتْ ثلاثيةَ اللفظِ ورباعيَّتَه : فالثلاثي اسماً : بِيْسٍ ، بِئْسٍ ، بَيْسٍ ، بَاْسٍ ، بَأَسٍ ، بِئِسٍ ، بَئِسٍ .

وفعلاً : بِئْسَ ، بِيْسَ ، بَئِسَ ، بَأَسَ ، بَأْسَ ، بَيَسَ . والرباعية اسماً : بَيْئَسٍ ، بِيْئِسٍ ، بَيْئِسٍ ، بَيِّسٍ ، بَئِيْسٍ . بِئَيْسٍ ، بِئْيَسٍ . وفعلاً : بَأَّسَ .

قلت : وقد زاد أبو البقاء أربع قراءات أخر : بَيِسٍ بباء مفتوحة وياءٍ مكسورةٍ . قال : " وأصلُها همزة مكسورة فأبدلَتْ ياء ، وبَيَس بفتحهما ، قال " وأصلها ياءٌ ساكنةٌ وهمزةٌ مفتوحة ، إلا أن حركةَ الهمزةِ أُلْقِيَتْ على الياء وحُذِفَتْ ، ولم تُقْلَبِ الياءُ ألفاً لأن حركتَها عارضةٌ " . وبَأْيَسٍ بفتح الباءِ وسكونِ الهمزة وفتح الياء ، قال : " وهو بعيد إذ ليس في الكلام فَعْيَل " . وقرئ بَيْآس على فَيْعال وهو غريب . فهذه ستٌّ وعشرون قراءة في هذه اللفظة ، وقد حرَّرْتُ ألفاظها وتوجيهاتها بحمد الله تعالى .