الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري - الزمخشري  
{فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِۦٓ أَنجَيۡنَا ٱلَّذِينَ يَنۡهَوۡنَ عَنِ ٱلسُّوٓءِ وَأَخَذۡنَا ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابِۭ بَـِٔيسِۭ بِمَا كَانُواْ يَفۡسُقُونَ} (165)

{ فَلَمَّا نَسُواْ } يعني أهل القرية ، فلما تركوا ما ذكرهم به الصالحون ترك الناسي لما ينساه { أَنجَيْنَا الذين يَنْهَوْنَ عَنِ السوء وَأَخَذْنَا } الظالمين الراكبين للمنكر .

فإن قلت : الأمة الذين قالوا { لِمَ تَعِظُونَ } من أي الفريقين هم أمن فريق الناجين أم المعذبين قلت من فريق الناجين ، لأنهم من فريق الناهين . وما قالوا ما قالوا إلا سائلين عن علة الوعظ والغرض فيه ، حيث لم يروا فيه غرضاً صحيحاً لعلمهم بحال القوم . وإذا علم الناهي حال المنهي وأن النهي لا يؤثر فيه ، سقط عنه النهي ، وربما وجب الترك لدخوله في باب العبث . ألا ترى أنك لو ذهبت إلى المكاسين القاعدين على المآصر والجلادين المرتبين للتعذيب لتعظهم وتكفهم عما هم فيه ، كان ذلك عبثاً منك ، ولم يكن إلاّ سبباً للتلهي بك . وأما الآخرون فإنما لم يعرضوا عنهم إمّا لأن يأسهم لم يستحكم كما استحكم يأس الأولين ، ولم يخبروهم كما خبروهم ، أو لفرط حرصهم وجدّهم في أمرهم كما وصف الله تعالى رسوله عليه الصلاة والسلام في قوله : { فَلَعَلَّكَ باخع نَّفْسَكَ } [ الكهف : 6 ] وقيل : الأمة هم الموعوظون ، لما وعظوا قالوا للواعظين : لم تعظون منا قوما تزعمون أنّ الله مهلكهم أو معذبهم ؟ وعن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال : يا ليت شعري ما فعل بهؤلاء الذين قالوا : لم تعظون قوماً ؟ قال عكرمة : فقلت : جعلني الله فداك ، ألا ترى أنهم كرهوا ما هم عليه وخالفوهم وقالوا : لم تعظون قوماً الله مهلكهم ، فلم أزل به حتى عَرَّفْته أنهم قد نجوا . وعن الحسن : نجت فرقتان وهلكت فرقة ، وهم الذين أخذوا الحيتان . وروي : أنّ اليهود أُمروا باليوم الذي أُمرنا به وهو يوم الجمعة ، فتركوه واختاروا السبت ، فابتلوا به وحرّم عليهم فيه الصيد ، وأمروا بتعظيمه ، فكانت الحيتان تأتيهم يوم السبت شرعاً بيضاً سماناً كأنها المخاض ، لا يرى الماء من كثرتها ، ويوم لا يسبتون لا تأتيهم ، فكانوا كذلك برهة من الدهر ، ثم جاءهم إبليس فقال لهم : إنما نهيتم عن أخذها يوم السبت فاتخذوا حياضاً تسوقون الحيتان إليها يوم السبت ، فلا تقدر على الخروج منها . وتأخذونها يوم الأحد ، وأخذ رجل منهم حوتاً وربط في ذنبه خيطاً إلى خشبة في الساحل ، ثم شواه يوم الأحد ، فوجد جاره ريح السمك فتطلع في تنوره فقال له : إني أرى الله سيعذبك ، فلما لم يره عذب أخذ في السبت القابل حوتين ، فلما رأوا أنّ العذاب لا يعاجلهم ، صادوا وأكلوا وملحوا وباعوا ، وكانوا نحواً من سبعين ألفاً ، فصار أهل القرية أثلاثاً ، ثلث نهوا وكانوا نحواً من اثني عشر ألفاً ، وثلث قالوا : لم تعظون قوماً ؟ وثلث هم أصحاب الخطيئة .

فلما لم ينتهوا قال المسلمون : إنا لا نساكنكم ، فقسموا القرية بجدار : للمسلمين باب ، وللمعتدين باب . ولعنهم داود عليه السلام ، فأصبح الناهون ذات يوم في مجالسهم ولم يخرج من المعتدين أحد ، فقالوا : إنّ للناس شأناً ، فعلوا الجدار فنطروا فإذا هم قردة ، ففتحوا الباب ودخلوا عليهم فعرفت القرود أنسباءها من الأنس ، والأنس لا يعرفون أنسباءهم من القرود ، فجعل القرد يأتي نسيبه فيشم ثيابه ويبكي ، فيقول : ألم ننهك فيقول برأسه : بلى ، وقيل : صار الشباب قردة ، والشيوخ خنازير . وعن الحسن : أكلوا والله أوخم أكلة أكلها أهلها ، أثقلها خزياً في الدنيا وأطولها عذاباً في الآخرة ، هاه وايم الله ، ما حوتٌ أخذه قوم فأكلوه أعظم عند الله من قتل رجل مسلم . ولكن الله جعل موعداً ، والساعة أدهى وأمرّ { بَئِيسٍ } شديد . يقال : بؤس يبؤس بأساً ، إذا اشتدّ ، فهو بئيس . وقرئ : «بئس » ، بوزن حَذِر . وبئس على تخفيف العين ونقل حركتها إلى الفاء . كما يقال : كبد في كبد . وبيس على قلب الهمزة ياء ، كذيب في ذئب ، وبيئس على فيعل ، بكسر الهمزة وفتحها ، وبيس بوزن ريس ، على قلب همزة بيئس ياء وإدغام الياء فيها ، وبيس على تخفيف بيس ، كهين في هين . وبائس على فاعل .