{ 5 - 7 } { يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ * إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ * الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ }
يقول تعالى : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ } بالبعث والجزاء على الأعمال ، { حَقٌّ } أي : لا شك فيه ، ولا مرية ، ولا تردد ، قد دلت على ذلك الأدلة السمعية والبراهين العقلية ، فإذا كان وعده حقا ، فتهيئوا له ، وبادروا أوقاتكم الشريفة بالأعمال الصالحة ، ولا يقطعكم عن ذلك قاطع ، { فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا } بلذاتها وشهواتها ومطالبها النفسية ، فتلهيكم عما خلقتم له ، { وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ } الذي هو{ الشَّيْطَانُ }
( يا أيها الناس إن وعد الله حق . فلا تغرنكم الحياة الدنيا ، ولا يغرنكم بالله الغرور . إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدواً . إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير ) . .
إن وعد الله حق . . إنه آت لا ريب فيه . إنه واقع لا يتخلف . إنه حق والحق لا بد أن يقع ، والحق لا يضيع ولا يبطل ولا يتبدد ولا يحيد . ولكن الحياة الدنيا تغر وتخدع . ( فلا تغرنكم الحياة الدنيا ) . ولكن الشيطان يغر ويخدع فلا تمكنوه من أنفسكم ( ولا يغرنكم بالله الغرور ) . . والشيطان قد أعلن عداءه لكم وإصراره على عدائكم ( فاتخذوه عدواً )لا تركنوا إليه ، ولا تتخذوه ناصحاً لكم ولا تتبعوا خطاه ، فالعدو لا يتبع خطى عدوه وهو يعقل ! وهو لا يدعوكم إلى خير ، ولا ينتهي بكم إلى نجاة : ( إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير ) ! فهل من عاقل يجيب دعوة الداعي إلى عذاب السعير ? !
إنها لمسة وجدانية صادقة . فحين يستحضر الإنسان صورة المعركة الخالدة بينه وبين عدوه الشيطان ، فإنه يتحفز بكل قواه وبكل يقظته وبغريزة الدفاع عن النفس وحماية الذات . يتحفز لدفع الغواية والإغراء ؛ ويستيقظ لمداخل الشيطان إلى نفسه ، ويتوجس من كل هاجسة ، ويسرع ليعرضها على ميزان الله الذي أقامه له ليتبين ، فلعلها خدعة مستترة من عدوه القديم !
وهذه هي الحالة الوجدانية التي يريد القرآن أن ينشئها في الضمير . حالة التوفز والتحفز لدفع وسوسة الشيطان بالغواية ؛ كما يتوفز الإنسان ويتحفز لكل بادر ة من عدوه وكل حركة خفية ! حالة التعبئة الشعوريه ضد الشر ودواعيه ، وضد هواتفه المستسرة في النفس ، وأسبابه الظاهرة للعيان . حالة الاستعداد الدائم للمعركة التي لا تهدأ لحظة ولا تضع أوزارها في هذه الأرض أبداً .
وقوله : يا أيها النّاسُ إنّ وَعْدَ اللّهِ حَقّ يقول تعالى ذكره لمشركي قريش ، المكذّبي رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا أيها الناس إن وعد الله إياكم بأسه على إصراركم على الكفر به ، وتكذيب رسوله محمد صلى الله عليه وسلم ، وتحذيركم ، وتحذيركم نزول سطوته بكم على ذلك حقّ ، فأيقنوا بذلك ، وبادروا حلول عقوبتكم بالتوبة والإنابة إلى طاعة الله والإيمان به وبرسوله فَلا تَغُرّنّكُمْ الحَياةُ الدّنْيا يقول : فلا يغرّنكم ما أنتم فيه من العيش في هذه الدنيا ورياستكم التي تترأسون بها في ضعفائكم فيها عن اتباع محمد والإيمان وَلا يَغُرّنّكُمْ باللّهِ الغَرُورُ يقول : ولا يخدعنكم بالله الشيطان ، فيمنيكم الأمانيّ ، ويعدكم من الله العدات الكاذبة ، ويحملكم على الإصرار على كفركم بالله ، كما :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، في قوله : وَلا يَغُرّنّكُمْ باللّهِ الغَرُورُ يقول : الشيطان .
{ يا أيها الناس إن وعد الله } بالحشر والجزاء . { حق } لا خلف فيه . { فلا تغرنكم الحياة الدنيا } فيذهلكم التمتع بها عن طلب الآخرة والسعي لها . { ولا يغرنكم الغرور } الشيطان بأن يمنيكم المغفرة مع الإصرار على المعصية ، فإنها وان امكنت لكن الذبن بهذا التوقع كتناول السم اعتمادا على دفع الطبيعة . وقرئ بالضم وهو مصدر أو جمع كقعود .
وقوله { إن وعد الله } عبارة عن جميع خبره عز وجل في خير وتنعم أو عذاب أو عقاب ، وقرأ جمهور الناس «الغَرور » بفتح الغين وهو الشيطان قاله ابن عباس ، وقرأ سماك العبدي وأبو حيوة «الغُرور » بضم الغين وذلك يحتمل أن يكون جمع غار كجالس وجلوس ، ويحتمل أن يكون جمع غر وهو مصدر غره يغره غراً ، ويحتمل أن يكون مصدراً وإن كان شاذاً في الأفعال المتعدية أن يجيء مصدرها على فعول لكنه قد جاء لزمه لزوماً ونهكه المرض نهوكاً فهذا مثله وكذلك هو مصدر في قوله { فدلاهما بغرور }{[9691]} [ الأعراف : 22 ] .
أعيد خطاب الناس إعذاراً لهم وإنذاراً بتحقيق أن وعد الله الذي وعده من عقابه المكذبين في يوم البعث هو وعد واقع لا يتخلف وذلك بعد أن قدّم لهم التذكير بدلائل الوحدانية المشتملة عليْها ، مع الدلالة على نعم الله عليهم ليعلموا أنه لا يستحق العبادة غيره وأنه لا يتصف بالإِلهية الحق غيره .
وبعد أن أشار إليهم بأن ما أنتجته تلك الدلائل هو ما أنبأهم به الرسول صلى الله عليه وسلم فيعلمون صدقه فيما أنبأهم من توحيد الله وهو أكبر ما قرع آذانهم وأحرج شيء لنفوسهم ، فإذا تأيّد بالدليل البرهاني تمهّد السبيل لتصديق الرسول صلى الله عليه وسلم فيما أخبرهم به من وعد الله وهو يوم البعث لأنه لما تبين صدقه في الأولى يعلم صدقه في الثانية بحكم قياس المساواة .
والخطاب للمشركين ، أوْ لَهم وللمؤمنين لأن ما تلاه صالح لموعظة الفريقين كل على حسب حاله .
وتأكيد الخبر ب { إنَّ } إمّا لأن الخطاب للمنكرين ، وإمّا لتغليب فريق المنكرين على المؤمنين لأنهم أحوج إلى تقوية الموعظة .
والوعد مصدر ، وهو الإِخبار عن فعل المخبِر شيئاً في المستقبل ، والأكثر أن يكون فيما عدا الشر ، ويُخص الشر منه باسم الوعيد ، يعمهما وهو هنا مستعمل في القدر المشترك . وقد تقدم عند قوله تعالى : { الشيطان يعدكم الفقر } الآية في سورة البقرة ( 268 ) .
وإضافته إلى الاسم الأعظم توطئة لكونه حقّاً لأن الله لا يأتي منه الباطل .
والحق هنا مقابل الكذب . والمعنى : أن وعد الله صادق . ووصفه بالمصدر مبالغة في حقيته .
والمراد به : الوعد بحلول يوم جزاء بعد انقضاء هذه الحياة كما دل عليه تفريع { فلا تغرنكم الحياة الدنيا } الآية .
والغُرور بضم الغين ويقال التغرير : إيهام النفع والصلاح فيما هو ضرّ وفساد . وتقدم عند قوله تعالى : { لا يغرنك تقلب الذين كفروا } في سورة آل عمران ( 196 ) وعند قوله : { زخرف القول غروراً } في سورة الأنعام ( 112 ) .
والمراد بالحياة : ما تشتمل عليه أحوال الحياة الدنيا من لهو وترف ، وانتهائها بالموت والعدم مما يسول للناس أن ليس بعد هذه الحياةِ أخرى .
وإسناد التغرير إلى الحياة ولو مع تقدير المضاف إسناد مجازي لأن الغَارَّ للمرء هو نفسه المنخدعة بأحوال الحياة الدنيا فهو من إسناد الفعل إلى سببه والباعث عليه .
والنهي في الظاهر موجه إلى الناس والمنهي عنه من أحوال الحياة الدنيا ، وليست الحياة الدنيا من فعل الناس ، فتعين أن المقصود النهي عن لازم ذلك الإِسناد وهو الاغترار لمظاهر الحياة . ونظيره كثير في كلام العرب كقولهم : لا أعرفنَّك تفعل كذا ، ولا أرَيَنَّك ههنا ، { ولا يجرمنكم شنآن قوم } [ المائدة : 2 ] ، وتقدم نظيره في قوله تعالى : { لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد } آخر آل عمران ( 196 ) .
وكذلك القول في قوله تعالى : { ولا يغرنكم بالله الغرور } .
والغرور بفتح الغين : هو الشديد التغرير . والمراد به الشيطان ، قال تعالى : { فدلاهما بغرور } [ الأعراف : 22 ] . وهو يغير الناس بتزيين القبائح لهم تمويهاً بما يلوح عليها من محاسن تلائم نفوس الناس .
والباء في قول { بالله } للملابسة وهي داخلة على مضاف مقدر أي ، بشأن الله ، أي يتطرق إلى نقض هدى الله فإن فعل غرّ يتعدّى إلى مفعول واحد فإذا أريد تعديته إلى بعض متعلقاته عُدّي إليه بواسطة حرف الجرّ ، فقد يعدّى بالباء وهي باء الملابسة كقوله تعالى : { يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم } [ الانفطار : 6 ] وقوله في سورة الحديد ( 14 ) : { وغركم بالله الغرور } وذلك إذا أريد بيان من الغرور ملابس له على تقدير مضاف ، أي بحال من أحواله . وتلك ملابسة الفعل للمفعول في الكلام على الإِيجاز . وليست هذه الباء باء السببية .
وقد تضمنت الآية غرورين : غروراً يغتَرّه المرء من تلقاء نفسه ويزيّن لنفسه من المظاهر الفاتنة التي تلوح له في هذه الدنيا ما يتوهمه خيراً ولا ينظر في عواقبه بحيث تخفى مضارّه في بادىء الرأي ولا يظنّ أنه من الشيطان .
وغروراً يتلقاه ممن يغرّه وهو الشيطان ، وكذلك الغرور كله في هذا العالم بعضه يمليه المرء على نفسه وبعضه يتلقاه من شياطين الإِنس والجن ، فتُرِك تفصيل الغرور الأول الآن اعتناء بالأصل والأهم ، فإن كل غرور يرجع إلى غرور الشيطان . وسيأتي تفصيله عند قوله تعالى : { من كان يريد العزة فللّه العزة جميعاً } [ فاطر : 10 ] .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{يا أيها الناس} يعني كفار مكة {إن وعد الله حق} في البعث أنه كائن.
{فلا تغرنكم الحياة الدنيا} عن الإسلام {ولا يغرنكم بالله الغرور} الباطل وهو الشيطان.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وقوله:"يا أيها النّاسُ إنّ وَعْدَ اللّهِ حَقّ" يقول تعالى ذكره لمشركي قريش، المكذّبي رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أيها الناس إن وعد الله إياكم بأسه على إصراركم على الكفر به، وتكذيب رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، وتحذيركم، وتحذيركم نزول سطوته بكم على ذلك حقّ، فأيقنوا بذلك، وبادروا حلول عقوبتكم بالتوبة والإنابة إلى طاعة الله والإيمان به وبرسوله. "فَلا تَغُرّنّكُمْ الحَياةُ الدّنْيا "يقول: فلا يغرّنكم ما أنتم فيه من العيش في هذه الدنيا ورياستكم التي تترأسون بها في ضعفائكم فيها عن اتباع محمد والإيمان. "وَلا يَغُرّنّكُمْ باللّهِ الغَرُورُ" يقول: ولا يخدعنكم بالله الشيطان، فيمنيكم الأمانيّ، ويعدكم من الله العدات الكاذبة، ويحملكم على الإصرار على كفركم بالله...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{فلا تغرّنكم الحياة الدنيا} والله أعلم، أي لا تشغلنّكم الحياة الدنيا عن ذكر الحياة الآخرة، ولا تُنسينّكم الحياة الدنيا الحياة الآخرة...
ألا إن الدنيا لا تغُرّ أحدا في الحقيقة، وهي ليست بلعب ولا لهو، ولا هي غارّة، ولكن يغتر أهلها بها لما غفلوا عما جعلت له وأنشئت، وهو ما ذكرنا أنها جعلت زادا للآخرة وبُلغةً إليها، فمن لم يجعلها زادا للآخرة ولا بُلغة إلى الوصول للآخرة، ولكن جعلها في غير ما جعلت له، وأنشئت للحياة فيها والمقام بها، صارت لعبا ولهوا، وصارت غرورا، إذ صيّرها كالمُنشأة لنفسها لا للآخرة.
ثم يحتمل قوله: {ولا يغرّنكم بالله الغرور} وجوها:
أحدها: لا يغرّنكم بالله أي بكرمه وجوده. يقول: إنه كريم وجواد غفور، يتجاوز عنكم ويعفو عنكم معاصيكم ومساوئكم.
والثاني: {ولا يغرّنكم بالله الغرور} أي بِغناه، يقول إنه غنيّ، ما به حاجة إلى عبادتكم إياه في ما أمركم به ونهاكم عنه.
والثالث: {ولا يغرّنكم بالله الغرور} أي لا يغرّنكم عن طاعة الله وعبادته، فتعصوه، وذلك جائز في اللغة: الباء مكان عن.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
وَعْدُ اللَّهِ حقٌّ في كل ما أخبر به أنه يكون، فَوعْدُه في القيامة حقٌ، ووعده لِمَنْ أطاعه بكفاية الأمور والسلامة حقٌّ، ووعده للمطيعين في الآخرة بوجود الكرامة حقٌّ، وللعاصين بالندامة حقٌّ، فإذا عَلِمَ العبدُ ذلك استعدَّ للموت، ولم يهتم بالرزق، فيكفيه اللَّهُ شُغْلَه، فينشط العبدُ في استكثار الطاعة ثقةً بالوعد، ولا يُلِمُّ بالمخالفات خوفاً من الوعيد...
المكلف قد يكون ضعيف الذهن قليل العقل سخيف الرأي، فيغتر بأدنى شيء، وقد يكون فوق ذلك فلا يغتر به؛ ولكن إذا جاءه غار، وزين له ذلك الشيء وهون عليه مفاسده، وبين له منافع، يغتر لما فيها من اللذة مع ما ينضم إليه من دعاء ذلك الغار إليه، وقد يكون قوي الجأش غزير العقل فلا يغتر ولا يغر فقال الله تعالى:
{فلا تغرنكم الحياة الدنيا} إشارة إلى الدرجة الأولى، وقال: {ولا يغرنكم بالله الغرور} إشارة إلى الثانية ليكون واقعا في الدرجة الثالثة وهي العليا فلا يغر ولا يغتر.
روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي 1270 هـ :
يجوز التعميم أي لا يغرنكم كل من شأنه المبالغة في الغرور، بأن يمنيكم المغفرة مع الإصرار على المعصية، قائلاً إن الله يغفر الذنوب جميعاً، فإن ذلك وإن أمكن، لكن تعاطي الذنوب بهذا التوقع، تناول السم تعويلاً على دفع الطبيعة، وتكرير فعل النهي للمبالغة فيه ولاختلاف الغرورين في الكيفية...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
{حَقٌّ}: لا شك فيه، ولا مرية ولا تردد، قد دلت على ذلك الأدلة السمعية والبراهين العقلية، فإذا كان وعده حقا، فتهيئوا له، وبادروا أوقاتكم الشريفة بالأعمال الصالحة، ولا يقطعكم عن ذلك قاطع.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
إن وعد الله حق.. إنه آت لا ريب فيه. إنه واقع لا يتخلف، إنه حق والحق لا بد أن يقع، والحق لا يضيع ولا يبطل ولا يتبدد ولا يحيد.
ولكن الحياة الدنيا تغر وتخدع. (فلا تغرنكم الحياة الدنيا). ولكن الشيطان يغر ويخدع فلا تمكنوه من أنفسكم (ولا يغرنكم بالله الغرور).. والشيطان قد أعلن عداءه لكم وإصراره على عدائكم (فاتخذوه عدواً) لا تركنوا إليه، ولا تتخذوه ناصحاً لكم ولا تتبعوا خطاه، فالعدو لا يتبع خطى عدوه وهو يعقل! وهو لا يدعوكم إلى خير، ولا ينتهي بكم إلى نجاة: (إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير)! فهل من عاقل يجيب دعوة الداعي إلى عذاب السعير؟!
إنها لمسة وجدانية صادقة، فحين يستحضر الإنسان صورة المعركة الخالدة بينه وبين عدوه الشيطان، فإنه يتحفز بكل قواه وبكل يقظته وبغريزة الدفاع عن النفس وحماية الذات. يتحفز لدفع الغواية والإغراء؛ ويستيقظ لمداخل الشيطان إلى نفسه، ويتوجس من كل هاجسة، ويسرع ليعرضها على ميزان الله الذي أقامه له ليتبين، فلعلها خدعة مستترة من عدوه القديم!
وهذه هي الحالة الوجدانية التي يريد القرآن أن ينشئها في الضمير، حالة التوفز والتحفز لدفع وسوسة الشيطان بالغواية؛ كما يتوفز الإنسان ويتحفز لكل بادر ة من عدوه وكل حركة خفية! حالة التعبئة الشعورية ضد الشر ودواعيه، وضد هواتفه المستسرة في النفس، وأسبابه الظاهرة للعيان. حالة الاستعداد الدائم للمعركة التي لا تهدأ لحظة ولا تضع أوزارها في هذه الأرض أبداً...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
أعيد خطاب الناس إعذاراً لهم وإنذاراً بتحقيق أن وعد الله الذي وعده من عقابه المكذبين في يوم البعث هو وعد واقع لا يتخلف.
والخطاب للمشركين، أوْ لَهم، وللمؤمنين، لأن ما تلاه صالح لموعظة الفريقين كل على حسب حاله.
وتأكيد الخبر ب {إنَّ} إمّا لأن الخطاب للمنكرين، وإمّا لتغليب فريق المنكرين على المؤمنين، لأنهم أحوج إلى تقوية الموعظة.
والوعد مصدر، وهو الإِخبار عن فعل المخبِر شيئاً في المستقبل، والأكثر أن يكون فيما عدا الشر، ويُخص الشر منه باسم الوعيد، يعمهما وهو هنا مستعمل في القدر المشترك، وإضافته إلى الاسم الأعظم توطئة لكونه حقّاً، لأن الله لا يأتي منه الباطل.
والحق هنا مقابل الكذب،والمعنى: أن وعد الله صادق، ووصفه بالمصدر مبالغة في حقيته؛ والمراد به: الوعد بحلول يوم جزاء بعد انقضاء هذه الحياة كما دل عليه تفريع {فلا تغرنكم الحياة الدنيا} الآية.
والغُرور بضم الغين ويقال التغرير: إيهام النفع والصلاح فيما هو ضرّ وفساد.
والمراد بالحياة: ما تشتمل عليه أحوال الحياة الدنيا من لهو وترف، وانتهائها بالموت والعدم، مما يسول للناس أن ليس بعد هذه الحياةِ أخرى.
وإسناد التغرير إلى الحياة، ولو مع تقدير المضاف إسناد مجازي لأن الغَارَّ للمرء هو نفسه المنخدعة بأحوال الحياة الدنيا فهو من إسناد الفعل إلى سببه والباعث عليه، والنهي في الظاهر موجه إلى الناس والمنهي عنه من أحوال الحياة الدنيا، وليست الحياة الدنيا من فعل الناس، فتعين أن المقصود النهي عن لازم ذلك الإِسناد وهو الاغترار لمظاهر الحياة، وتقدم نظيره في قوله تعالى: {لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد} آخر آل عمران (196).
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
... للذنوب طريقين للولوج إلى النفس الإنسانية:
مظاهر الدنيا الخدّاعة، كالجاه والمقام والمال والكبرياء وأنواع الشهوات.
الاغترار بعفو الله وكرمه، وهنا فإنّ الشيطان يزيّن الدنيا في نظر الإنسان ويصوّرها له متاعاً مباحاً وجذّاباً ومحبّباً وقيّماً من جهة، ومن جهة اُخرى فإنّه كلّما أراد الإنسان أن يتذكّر الآخرة، ومحكمة العدل الإلهي ومقاومة الجاذبية الشديدة للدنيا وخِدعها، فانّه يغريه بعفو الله ورحمته، فيدفعه بالنتيجة إلى التسويف والطغيان وارتكاب الذنوب، غافلا عن أنّ الله سبحانه مع كونه في موضع الرحمة هو «أرحم الراحمين»،فهو تعالى في موضع العقوبة «أشدّ المعاقبين»، فإنّ رحمته لا يمكن أن تكون أبداً باعثاً على المعصية، كما أنّ غضبه لا يمكن أن يكون سبباً لليأس والقنوط.
«غَرور» صيغة مبالغة بمعنى الخدّاع أو المضلّل غير العادي، والظاهر أنّه إشارة إلى جميع عوامل الإغواء والخداع، كما أنّه قد يكون إشارة إلى خصوص الشيطان، وإن كان المعنى الثاني أكثر مناسبة للآية الثانية، خاصّة إذا علمنا أنّ القرآن الكريم نسب «الغرور» إلى الشيطان في آيات مختلفة.