تأويلات أهل السنة للماتريدي - الماتريدي  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّ وَعۡدَ ٱللَّهِ حَقّٞۖ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ ٱلۡحَيَوٰةُ ٱلدُّنۡيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِٱللَّهِ ٱلۡغَرُورُ} (5)

الآية 5 وقوله تعالى : { يا أيها الناس إن وعد الله حق } قال عامة أهل التأويل : { إن وعد الله حق } أي البعث ، إنه كائن ، لا محالة .

وجائز أن يكون قوله : { إن وعد الله حق } في ما وعد من الثواب على الطاعات ، ووعده حق في ما أوعد من العقاب على السيئات أنه يكون ، والله الموفّق .

وقوله تعالى : { فلا تغرّنكم الحياة الدنيا } معنى قوله : { فلا تغرّنكم الحياة الدنيا } والله أعلم ، أي لا تشغلنّكم الحياة الدنيا عن ذكر الحياة الآخرة ، ولا تُنسينّكم الحياة الدنيا الحياة الآخرة .

[ ألا إن ]{[17141]} الدنيا لا تغُرّ أحدا في الحقيقة [ وهي ليست ]{[17142]} بلعب ولا لهو ، ولا هي غارّة ، ولكن يغتر أهلها بها لما غفلوا عما جعلت له{[17143]} ، وأنشئت . وهو ما ذكرنا أنها جعلت زادا للآخرة وبُلغةً إليها . فمن لم يجعلها زادا للآخرة ولا بُلغة إلى الوصول للآخرة ، ولكن جعلها في غير ما جعلت له{[17144]} ، وأنشئت للحياة{[17145]} فيها والمقام بها ، صارت لعبا ولهوا ، وصارت غرورا ، إذ صيّرها{[17146]} كالمُنشأة لنفسها لا للآخرة .

وهذا كما قال : { وإذا ما أُنزلت سورة فمنهم من يقول أيّكم زادته هذه إيمانا ، فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون } { وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون } [ التوبة : 124 و125 ] .

أخبر أن السورة كانت تزيد لأهل الإيمان إيمانا ولأهل الكفر والنفاق رجسا وعمى . والسورة لا تزيد رجسا ولا عمى في الحقيقة ، لأنه وصف القرآن بأنه نور وأنه هدى ورحمة وبرهان . ولكن صار رجسا وعمى لمن أعرض عنه ، وكذّب ، وردّه . وأما من تلقاه بالقبول ، وأقبل عليه ، ونظر إليه بالتعظيم والإجلال له والخضوع ، فهو له نور وهدى ورحمة .

فعلى ذلك الدنيا وما فيها من النّعم واللّذات إذا جعلها [ في غير ما جُعلت له ]{[17147]} وأُنشئت ، صارت لعبا ولهوا وغرورا . بل لو حُمدت هي على ما أُنشئت مكان ما ذُمّت لكان حقا وصدقا [ لأنه تعالى ]{[17148]} سمّى نعيمها حسنة وخيرا وصلاحا ونحوه . فلا جائز أن تُذم الحسنة والخير ، بل حق الذم على أهلها لأنهم{[17149]} أغترّوا بها ، وصيّروها في غير ما صُيّرت ، وجُعلت ، لغفلتهم عما جعلت له{[17150]} وصرفهم إياها إلى غير الذي صُرفت [ وجُعلت له ]{[17151]} .

وعلى ذلك لا يجوز ذمّ الغنى والسعة والصحة والسلامة لأن ذلك كله نعم من الله ، أنعمها على الناس فيجب أن ينظروا إلى ما عليهم لله من الشكر في ذلك ، فيؤدّوه ، وكذلك العزّ والثناء الحسن ونحوه ، لا يجب أن يذمُّ شيء من ذلك ، بل يذمّ من لم يعرف أن العزّ فيم ؟ إنما في طاعة الله والعبادة له ، لا في معاصيه .

فهؤلاء سمَّوا معصية الله عزّا لجهلهم في العز .

وكذلك الثناء الحسن يجب أن يحمد [ المرء ]{[17152]} ربه ، ويشكر له في ما يستر على الخلق فضائحه ومساوئه ، حين يُثنوا عليه ما لو بدا ذلك منه [ وأظهره لم يهربوا ]{[17153]} منه فضلا أن يثنوا عليه ، ويحمدوه . فيجب أن يشكر [ المرء ]{[17154]} ربه ، ويُثني [ عليه لأنه ستر عليه ]{[17155]} معاصيه وفضائحه ، والله الموفّق .

وقوله تعالى : { ولا يغرّنكم بالله الغرور } الغرور بفتح الغين ، هو الشيطان ، يقول : لا يغرّنكم بالله الشيطان .

ثم يحتمل قوله : { ولا يغرّنكم بالله الغرور } وجوها :

أحدها : لا يغرّنكم بالله أي بكرمه وجوده . يقول : إنه كريم وجواد غفور ، يتجاوز عنكم ، ويعفو عنكم معاصيكم ، ومساوئكم .

والثاني : { ولا يغرّنكم بالله الغرور } أي بِغناه ، يقول إنه غنيّ ، ما به حاجة إلى عبادتكم إياه في ما أمركم به ، ونهاكم عنه .

والثالث : أن يكون قوله : { ولا يغرّنكم بالله الغرور } أي لا يغرّنكم عن طاعة الله وعبادته ، فتعصوه . وذلك جائز في اللغة : الباء مكان عن كقوله : { عينا يشرب بها عباد الله } [ الإنسان : 6 ] أي عنها ، إذ لا يُشرَب بالعين ، وإنما يُشرب عنها ، والله أعلم .


[17141]:في الأصل وم: وإلا.
[17142]:في الأصل وم: وكذلك هي.
[17143]:في الأصل وم: هي.
[17144]:في الأصل وم: هي.
[17145]:في الأصل وم: وهي الحياة.
[17146]:في الأصل وم: صيروها.
[17147]:في الأصل وم: غير ما جعلت.
[17148]:في الأصل وم: لأنها.
[17149]:في الأصل وم: حيث.
[17150]:في الأصل وم: هي
[17151]:. في الأصل وم: وجعلهم بها
[17152]:. ساقطة من الأصل وم.
[17153]:في الأصل وم: وأظهر لهربوا.
[17154]:ساقطة من الأصل وم.
[17155]:ساقطة من الأصل وم.