146- سأمنع من التفكير في دلائل قدرتي القائمة في الأنفس والأفاق ، أولئك الذين يتطاولون في الأرض ويتكبرون عن قبول الصواب غير محقين ، وإن يروا كل آية تدل على صدق رسلنا لا يصدقوها ، وإن يشاهدوا طريق الهدى لا يسلكوه ، وإن يشاهدوا طريق الضلال يسلكوه . يحدث ذلك منهم بسبب أنهم كذبوا بآياتنا المنزلة ، وغفلوا عن الاهتداء بها .
وأما غيرهم ، فقال عنهم : سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ أي : عن الاعتبار في الآيات الأفقية والنفسية ، والفهم لآيات الكتاب الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أي : يتكبرون على عباد اللّه وعلى الحق ، وعلى من جاء به ، فمن كان بهذه الصفة ، حرمه اللّه خيرا كثيرا وخذله ، ولم يفقه من آيات اللّه ما ينتفع به ، بل ربما انقلبت عليه الحقائق ، واستحسن القبيح .
وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا لإعراضهم واعتراضهم ، ومحادتهم للّه ورسوله ، وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ أي : الهدى والاستقامة ، وهو الصراط الموصل إلى اللّه ، وإلى دار كرامته لا يَتَّخِذُوهُ أي : لا يسلكوه ولا يرغبوا فيه وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ أي : الغواية الموصل لصاحبه إلى دار الشقاء يَتَّخِذُوهُ سَبِيلا والسبب في انحرافهم هذا الانحراف ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ فردهم لآيات اللّه ، وغفلتهم عما يراد بها واحتقارهم لها - هو الذي أوجب لهم من سلوك طريق الغي ، وترك طريق الرشد ما أوجب .
القول في تأويل قوله تعالى : { سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِي الّذِينَ يَتَكَبّرُونَ فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقّ وَإِن يَرَوْاْ كُلّ آيَةٍ لاّ يُؤْمِنُواْ بِهَا وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الرّشْدِ لاَ يَتّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الْغَيّ يَتّخِذُوهُ سَبِيلاً ذَلِكَ بِأَنّهُمْ كَذّبُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ } . .
اختلف أهل التأويل في معنى ذلك ، فقال بعضهم : معناه : سأنزع عنهم فهم الكتاب . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أحمد بن منصور المروزي ، قال : ثني محمد بن عبد الله بن بكر ، قال : سمعت ابن عيينة يقول في قول الله : سأصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الّذِينَ يَتَكَبّرُونَ فِي الأرْضِ بغيرِ الحَقّ قال : يقول : أنزع عنهم فهم القرآن ، وأصرفهم عن أياتي .
وتأويل ابن عيينة هذا يدلّ على أن هذا الكلام كان عنده من الله وعيدا لأهل الكفر بالله ممن بعث إليه نبينا صلى الله عليه وسلم دون قوم موسى ، لأن القرآن إنما أنزل على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم دون موسى عليه السلام .
وقال آخرون في ذلك : معناه : سأصرفهم عن الاعتبار بالحجج . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج : سأصْرِفُ عَنْ أياتِيَ عن خلق السموات والأرض والاَيات فيها ، سأصرفهم عن أن يتفكروا فيها ويعتبروا .
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال : إن الله أخبر أنه سيصرف عن آياته ، وهي أدلته وأعلامه على حقية ما أمر به عباده وفرض عليهم من طاعته في توحيده وعدله وغير ذلك من فرائضه ، والسموات والأرض ، وكلّ موجود من خلقه فمن آياته ، والقرآن أيضا من آياته . وقد عمّ بالخبر أنه يصرف عن آياته المتكبرين في الأرض بغير الحقّ ، وهم الذين حقّت عليهم كلمة الله أنهم لا يؤْمنون ، فهم عن فهم جميع آياته والاعتبار والأدّكار بها مصروفون لأنهم لو وفقوا لفهم بعض ذلك فهدوا للاعتبار به اتعظوا وأنابوا إلى الحقّ ، وذلك غير كائن منهم ، لأنه جلّ ثناؤه قال : وَإنْ يَرَوْا كُلّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها فلا تبديل لكلمات الله .
القول في تأويل قوله تعالى : وَإنْ يَرَوْا كُلّ آيَةٍ لا يُؤمِنُوا بِها وَإنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرّشْدِ لا يَتّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيّ يَتّخِذُوهُ سَبِيلاً ذلكَ بأنّهُمْ كَذّبُوا بآياتِنا وكانُوا عَنْها غَافِلِينَ .
يقول تعالى ذكره : وإن ير هؤلاء يتكبرون في الأرض بغير الحقّ . وتكبرهم فيها بغير الحقّ : تجبرهم فيها ، واستكبارهم عن الإيمان بالله ورسوله والإذعان لأمره ونهيه ، وهم لله عبيد يغذوهم بنعمته ويريح عليهم رزقه بكرة وعشيا . كلّ آيَةٍ يقول : كلّ حجة لله على وحدانيته وربوبيته ، وكلّ دلالة على أنه لا تنبغي العبادة إلا له خالصة دون غيره . لا يُؤْمِنُوا بِها يقول : لا يصدّقوا بتلك الاَية أنها دالة على ما هي فيه حجة ، ولكنهم يقولون : هي سحر وكذب . وَإنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرّشْدِ لا يَتّخِذُوهُ سَبِيلاً يقول : وإن ير هؤلاء الذين وصف صفتهم طريق الهدى والسداد الذي إن سلكوه نجوا من الهلكة والعطب وصاروا إلى نعيم الأبد لا يسلكوه ولا يتخذوه لأنفسهم طريقا ، جهلاً منهم وحيرة . وإنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيّ يقول : وإن يروا طريق الهلاك الذي إن سلكوه ضلوا وهلكوا . وقد بيّنا معنى الغيّ فيما مضى قبل بِما أغنى عن إعادته . يَتّخِذُوهُ سَبِيلاً يقول : يسلكوه ويجعلوه لأنفسهم طريقا لصرف الله إياهم عن آياته وطبعه على قلوبهم ، فهم لا يفلحون ولا ينجحون . ذلكَ بأنّهُمْ كَذّبُوا بآياتِنا وكانُوا عَنْها غَافِلِينَ يقول تعالى ذكره : صرفناهم عن آياتنا أن يعقلوها ويفهموها ، فيعتبروا بها ويذكروا فينيبوا عقوبة منا لهم على تكذيبهم بآياتنا ، وكَانُوا عَنْها غَافِلِينَ يقول : وكانوا عن آياتنا وأدلتنا الشاهدة على حقية ما أمرناهم به ونهيناهم عنه ، غافلين لا يتفكّرون فيها ، لاهين عنها لا يعتبرون بها ، فحقّ عليهم حينئذ قول ربنا ، فعطبوا .
واختلف القرّاء في قراءة قوله : الرّشْد فقرأ ذلك عامة قرّاء المدينة وبعض المكيين وبعض البصريين : الرّشْد بضم الراء وتسكين الشين . وقرأ ذلك عامة قرّاء أهل الكوفة وبعض المكيين : «الرّشَد » بفتح الراء والشين .
ثم اختلف أهل المعرفة بكلام العرب في معنى ذلك إذا ضمت راؤه وسكنت شينه ، وفيه إذا فتحتا جميعا . فذُكر عن أبي عمرو بن العلاء أنه كان يقول : معناه إذا ضمت راؤه وسكنت شينه : الصلاح ، كما قال الله : فإنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدا بمعنى : صلاحا وكذلك كان يقرؤه هو ومعناه إذا فتحت راؤه وشينه : الرّشَد في الدين ، كما قال جلّ ثناؤه : تُعَلّمَنِي مِمّا عَلّمْتَ رَشَدا بمعنى الاستقامة والصواب في الدين . وكان الكسائي يقول : هما لغتان بمعنى واحد ، مثل : السّقم والسّقَم ، والحُزْن والحَزَن ، وكذلك الرّشْد والرّشَد .
والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال : إنهما قراءتان مستفيضة القراءة بهما في قراءة الأمصار متفقتا المعنى ، فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب الصواب بها .
يجوز أن تكون هذه الآية تكملة لما خاطب الله به موسى وقومه ، فتكون جملة { سأصرف } الخ بأسهم ، استئنافاً بيانياً ، لأن بني إسرائيل كانوا يهابون أولئك الأقوام ويخْشوْن ، فكأنهم تساءلوا كيف تُرينا دارهم وَتعدُنا بها ، وهلْ لا نهلك قبل الحلول بها ، كما حكى الله عنهم { قالوا يا موسى إن فيها قوماً جبّارين } الآية في سورة العقود ( 22 ) وقد حكى ذلك في الإصحاح الرابع عشر من سفر العدد ، فاجيبوا بأن الله سيصرف أولئك عن آياتِه .
والصرف الدفع أي سَأَصُدُّ عن آياتي ، أي عن تعطيلها وإبطالها .
والآيات الشريعة ، ووعد الله أهلها بأن يورثهم أرض الشام ، فيكون المعنى سأتَوَلّى دفعهم عنكم ، ويكون هذا مثل ما ورد في التوراة في الإصحاح الرابع والثلاثين « ها أنا طاردٌ من قُدَّامِك الأُموريين الخ » ، فالصرف على هذا الوجه عناية من الله بموسى وقومِه بما يُهيء لهم من أسباب النصر على أولئك الأقوام الأقوياء ، كإلقاء الرعببِ في قلوبهم ، وتشتيت كلمتهم ، وإيجاد الحوادث التي تفت في ساعد عُدتهم أو تكونُ الجملة جواباً لسؤال من يقول : إذا دخلنا أرض العدو فلعلهم يؤمنون بهدينا ، ويتبعون ديننا ، فلا نحتاج إلى قتالهم ، فأجيبوا بأن الله يَصرفهم عن إتباع آياته ؛ لأنهم جُبلوا على التكبر في الأرض ، والإعراضِ عن الآيات ، فالصرف هنا صرف تكويني في نفوس الأقوام ، وعن الحسن : أن من الكفار من يبالغ في كفره وينتهي إلى حد إذا وصل إليه مَات قلبه .
وفي قَصِّ الله تعالى هذا الكلامَ على محمد صلى الله عليه وسلم تعريض بكفار العرب بأن الله دافِعُهم عن تعطيل آياته ، وبأنه مانع كثيراً منهم عن الإيمان بها لما ذكرناه آنفاً .
ويجوز أن تكون جملة { سأصرف عن آياتي } من خطاب الله تعالى لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم رَوى الطبري ذلك عن سفيان بن عيينة ، فتكون الجملة معترضة في أثناء قصة بني إسرائيل بمناسبة قوله : { سأُريكم دار الفاسقين } [ الأعراف : 145 ] تعريضاً بأن حال مشركي العرب كحال أولئك الفاسقين ، وتصريحاً بسبب إدامتهم العناد والإعراض عن الإيمان ، فتكون الجملة مستأنفة استينافاً ابتدائياً ، وتأتي في معنى الصرف عن الآيات الوجوه السابقة واقتران فعل { سأصرف } بسين الاستقبال القريب تنبهه على أن الله يُعجل ذلك الصرف .
وتقديم المجرور على مفعول { أصرف } للاهتمام بالآيات ، ولأن ذكره عقب الفعل المتعلق هو به أحسنُ .
وتعريف المصروفين عن الآيات بطريق الموصولية للإيماء بالصلة إلى علة الصرف . وهي ما تضمنته الصلات المذكورة ، لأن من صارت تلك الصفات حالات له يَنصره الله ، أو لأنه إذا صار ذلك حاله رين على قلبه ، فصرف قلبه عن إدراك دلالة الآيات وزالت منه الأهلية لذلك الفهم الشريف .
والأوصاف التي تضمنتها الصلات في الآية تنطبق على مشركي أهل مكة أتَمّ الانطباق .
والتكبر الاتصاف بالكبر . وقد صيغ له الصيغة الدالة على التكلف ، وقد بينا ذلك عند قوله تعالى : { أبَى واستكبر } [ البقرة : 34 ] وقوله : { استكْبرتم } في سورة البقرة ( 87 ) ، والمعنى : أنهم يُعْجبَون بأنفسهم ، ويعُدون أنفسهم عظماءَ فلا يأتمرون لآمر ، ولا ينتصحون لناصح .
وزيادة قوله : { في الأرض } لتفضيح تكبرهم ، والتشهير بهم بأن كبرهم مظروف في الأرض ، أي ليس هو خفياً مقتصراً على أنفسهم ، بل هو مبثوث في الأرض ، أي مبثوث أثره ، فهو تكبر شائع في بقاع الأرض كقوله : { يبغون في الأرض بغير الحق } [ يونس : 23 ] وقوله : { ويفسدون في الأرض أولئك هم الخاسرون } [ البقرة : 27 ] وقوله : { ولا تمش في الأرض مَرحاً } [ الإسراء : 37 ] وقولُ مرة بن عَدّاءَ الفقعسي :
فهلاّ أعدوني لِمثلي تفاقَدوا *** وفي الأرْض مبثوثٌ شجاعٌ وعقرب
وقوله : { بغير الحق } زيادة لتشنيع التكبر بذكر ما هو صفة لازمة له ، وهو مغايرة الحق ، أي : باطل وهي حال لازمة للتكبر ، كاشفة لوصفه ، إذ التكبر لا يكون بحق في جانب الخلق ، وإنما هو وصف لله بحق ؛ لأنه العظيم على كل موجود ، وليس تكبر الله بمقصود أن يحترز عنه هنا حتى يجعل القيد { بغير الحق } للاحتراز عنه ، كما في « الكشاف » .
ومن المفسرين من حاول جعل قوله : { بغير الحق } قيداً للتكبر ، وجعل من التكبر ما هو حق ، لأن للمحق أن يتكبر على المبطل ، ومنه المقالة الشمهورة « الكِبْر على المتكبر صدقة » وهذه المقالة المستشهد بها جرت على المجاز أو الغلط .
وقوله : { وإن يَروا كل آية لا يؤمنوا بها } عطف على قوله : { يتكبرون } فهو في حكم الصلة ، والقول فيه كالقول في قوله : { لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية } في سورة يونس ( 96 ، 97 ) وكل مستعملة في معنى الكثرة ، كما تقدم في قوله تعالى : { ولئن أتيتَ الذين أوتوا الكتاب بكل آية } في سورة البقرة ( 145 ) .
والسبيل مستعار لوسيلة الشيء بقرينة إضافته إلى الرشد وإلى الغي . والرؤية مستعارة للإدراك .
والاتخاذ حقيقته مطاوع أخّذه بالتشديد ، إذا جعله آخذاً ، ثم أطلق على أخذ الشيء ولو لم يعطه إياه غيرُه ، وهوَ هنا مستعار للملازمة ، أي لا يلازمون طريق الرشد ، ويلازمون طريق الغي .
والرشد الصلاح وفعل النافع ، وقد تقدم في قوله تعالى : { فإن آنستم منهم رشداً } في سورة النساء ( 6 ) والمراد به هنا : الشيء الصالح كله من الإيمان والأعمال الصالحة .
والغي الفساد والضلال ، وهو ضد الرشد بهذا المعنى ، كما أن السفه ضد الرشد بمعنى حسن النظر في المال ، فالمعنى : أن يدركوا الشيءَ الصالح لم يعملوا به . لغلبة الهوى على قلوبهم ، وإن يدركوا الفساد عملوا به لغلبة الهوى ، فالعمل به حمل للنفس على كلفة ، وذلك تأباه الأنفس التي نشأت على متابعة مَرغوبها ، وذلك شأن الناس الذين لم يروّضوا أنفسهم بالهدى الإلهي ، ولا بالحكمة ونصائح الحكماء والعقلاء ، بخلاف الغي ، فإنه ما ظهر في العالم إلاّ من آثار شهوات النفوس ودعواتها التي يزيَن لها الظاهر العاجل ، وتجهل عواقب السوء الآجلة ، كما جاء في الحديث : { حفّت الجنة بالمكاره وُحفّت النار بالشهوات } .
والتعبير في الصلات الأربع بالأفعال المضارعة : لإفادة تجدد تلك الأفعال منهم واستمرارهم عليها .
وقرأ الجمهور : { الرُشد } بضم فسكون وقرأه حمزة ، والكسائي ، وخلف : بفتحتين ، وهما لغتان فيه .
وجملة : { ذلك بأنهم كذبوا بآياتنا } مستأنفة استئنافاً بيانياً ، لأن توسيمهم بتلك الصلات يثير سؤالاً .
والمشار إليه بذلك ما تضمنه الكلام السابق ، نُزّل منزلة الموجود في الخارج وهو ما تضمنه قوله : { سأصرف عن آياتي } إلى آخر الآية ، واستعمل له اسم إشارة المفرد ؛ لتأويل المشار إليه بالمذكور كقوله تعالى : { والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلاّ بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاماً } [ الفرقان : 68 ] أي من يفعل المذكور ، وهذا الاستعمال كثير في اسم الإشارة ، وألحق به الضمير كما تقدم في قوله تعالى : { ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله } في سورة البقرة ( 61 ) .
والباء السببية أي : كِبْرُهم . وعدمُ إيمانهم ، واتباعُهم سبيل الغي ، وإعراضُهم عن سبيل الرشد سببه تَكذيبهم بالآيات ، فأفادت الجملة بيان سبب الكبر ، وما عطف عليه من الأوصاف التي هي سبب صرفهم عن الآيات ، فكان ذلك سبب السبب ، وهذا أحسن من إرجاع الإشارة إلى الصرف المأخوذة من { سأصرف } لأن هذا المحمل يجعل التكذيب سبباً ثانياً للصرف ، وجعله سبباً للسبب أرشق .
واجتلبت ( أن ) الدالة على المصدرية والتوكيد ؛ لتحقيق هذا التسبب وتأكيده ، لأنه محل عرابة .
وجعل المسند فعلاً ماضياً ، لإفادة أن وصف التكذيب قديم راسخ فيهم ، فكان رسوخ ذلك فيهم سبباً في أن خُلق الطبعُ والختمُ على قلوبهم فلا يشعرون بنقائصهم ، ولا يصلحون أنفسهم ، فلا يزالون متكبرين معرضين غاوين .
ومعنى { كذبوا بآياتنا } إنهم ابتدأوا بالتكذيب ، ولم ينظروا ، ولم يهتموا بالتأمل في الآيات فداموا على الكبر وما معه ، فصرف الله قلوبهم عن الانتفاع بالآيات ، وليس المراد الإخبار بأنهم حصل منهم التكذيب ، لأن ذلك قد علم من قوله : { وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها } .
والغفلة انصراف العقل والذهن عن تذكر شيء بقصدٍ أو بغير قصد ، وأكثر استعماله في القرآن فيما كان عن قصد بإعراض وتشاغل ، والمذموم منها ما كان عن قصد ، وهو مناط التكليف والمؤاخذة ، فأما الغفلة عن غير قصد فلا مؤاخذة عليها ، وهي المقصود من قول علماء أصول الفقه : يمتنع تكليف الغافل .
وللتنبيه على أن غفلتهم عن قصد صيغ الإخبار عنهم بصيغة { كانوا عنها غافلين } للدلالة على استمرار غفلتهم . وكونها دأباً لهم ، وإنما تكون كذلك إذا كانوا قد التزموها ، فأما لو كانت عن غير قصد . فإنها قد تعتريهم وقد تفارقهم .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
يقول: سأصرف عن التفكير في خلق السماوات والأرض وما بينهما من الآيات... يعني المتكبرين، فلا يتفكرون فتكون لهم عبرة... ثم قال يعنيهم: {وإن يروا كل آية}...فرأوا كل آية على حدة، فلم يؤمنوا، {لا يؤمنوا بها}، يعني لا يصدقون بأنها من الله، {وإن يروا سبيل الرشد}، يعني طريق الهدى، {لا يتخذوه سبيلا}، يعني لا يتخذوه دينا فيتبعونه، {وإن يروا سبيل الغي}، يعني طريق الضلالة، {يتخذوه سبيلا}، يقول: اتخذوه دينا فيتبعونه، {ذلك بأنهم كذبوا بآياتنا}... {وكانوا عنها غافلين}، يعني معرضين، ولم يتفكروا فيها.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
اختلف أهل التأويل في معنى ذلك؛
فقال بعضهم: معناه: سأنزع عنهم فهم الكتاب... [عن] ابن عيينة يقول في قول الله:"سأصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الّذِينَ يَتَكَبّرُونَ فِي الأرْضِ بغيرِ الحَقّ" قال: يقول: أنزع عنهم فهم القرآن، وأصرفهم عن آياتي.
وتأويل ابن عيينة هذا يدلّ على أن هذا الكلام كان عنده من الله وعيدا لأهل الكفر بالله ممن بعث إليه نبينا صلى الله عليه وسلم دون قوم موسى، لأن القرآن إنما أنزل على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم دون موسى عليه السلام.
وقال آخرون في ذلك: معناه: سأصرفهم عن الاعتبار بالحجج... وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله أخبر أنه سيصرف عن آياته، وهي أدلته وأعلامه على حقية ما أمر به عباده وفرض عليهم من طاعته في توحيده وعدله وغير ذلك من فرائضه، والسموات والأرض، وكلّ موجود من خلقه فمن آياته، والقرآن أيضا من آياته، وقد عمّ بالخبر أنه يصرف عن آياته المتكبرين في الأرض بغير الحقّ، وهم الذين حقّت عليهم كلمة الله أنهم لا يؤْمنون، فهم عن فهم جميع آياته والاعتبار والادّكار بها مصروفون لأنهم لو وفقوا لفهم بعض ذلك فهدوا للاعتبار به اتعظوا وأنابوا إلى الحقّ، وذلك غير كائن منهم، لأنه جلّ ثناؤه قال: "وَإنْ يَرَوْا كُلّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها "فلا تبديل لكلمات الله.
"وَإنْ يَرَوْا كُلّ آيَةٍ لا يُؤمِنُوا بِها وَإنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرّشْدِ لا يَتّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيّ يَتّخِذُوهُ سَبِيلاً ذلكَ بأنّهُمْ كَذّبُوا بآياتِنا وكانُوا عَنْها غَافِلِينَ":
يقول تعالى ذكره: وإن ير هؤلاء الذين يتكبرون في الأرض بغير الحقّ. وتكبرهم فيها بغير الحقّ: تجبرهم فيها، واستكبارهم عن الإيمان بالله ورسوله والإذعان لأمره ونهيه، وهم لله عبيد يغذوهم بنعمته ويريح عليهم رزقه بكرة وعشيا. "كلّ آيَةٍ" يقول: كلّ حجة لله على وحدانيته وربوبيته، وكلّ دلالة على أنه لا تنبغي العبادة إلا له خالصة دون غيره، "لا يُؤْمِنُوا بِها" يقول: لا يصدّقوا بتلك الآية أنها دالة على ما هي فيه حجة، ولكنهم يقولون: هي سحر وكذب. "وَإنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرّشْدِ لا يَتّخِذُوهُ سَبِيلاً" يقول: وإن ير هؤلاء الذين وصف صفتهم طريق الهدى والسداد الذي إن سلكوه نجوا من الهلكة والعطب وصاروا إلى نعيم الأبد لا يسلكوه ولا يتخذوه لأنفسهم طريقا، جهلاً منهم وحيرة، "وإنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيّ" يقول: وإن يروا طريق الهلاك الذي إن سلكوه ضلوا وهلكوا... "يَتّخِذُوهُ سَبِيلاً" يقول: يسلكوه ويجعلوه لأنفسهم طريقا لصرف الله إياهم عن آياته وطبعه على قلوبهم، فهم لا يفلحون ولا ينجحون. "ذلكَ بأنّهُمْ كَذّبُوا بآياتِنا وكانُوا عَنْها غَافِلِينَ" يقول تعالى ذكره: صرفناهم عن آياتنا أن يعقلوها ويفهموها، فيعتبروا بها ويذكروا فينيبوا عقوبة منا لهم على تكذيبهم بآياتنا، "وكَانُوا عَنْها غَافِلِينَ" يقول: وكانوا عن آياتنا وأدلتنا الشاهدة على حقية ما أمرناهم به ونهيناهم عنه، غافلين لا يتفكّرون فيها، لاهين عنها لا يعتبرون بها، فحقّ عليهم حينئذ قول ربنا، فعطبوا...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
قوله تعالى:"الذين يتكبرون في الأرض" والتكبر إظهار كبر النفس على غيرها، وصفة متكبر صفة ذم في جميع البشر، وهو مدح في صفات الله تعالى، لأنه يستحق إظهار الكبر على كل شيء سواه، لأن ذلك حق، وهذا المعنى في صفة غيره باطل. فمعنى الآية: الإخبار من الله أنه يصرف عن ثواب آياته "الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها "يعني الذين إذا شاهدوا الحجج والبراهين لا ينقادون لها، ولا يصدقون بها...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
سأَحْرمُ المتكبرين بركاتِ الاتباع حتى لا يقابلوا الآياتِ التي يُكاشَفُون بها بالقبول، ولا يسمعوا ما يُخَاطَبُون به بسمع الإيمان. والتكبُّر: جحدُ الحق -على لسان العلم، فَمَنْ جَحَدَ حقائقَ الحقِّ فجحودُه تكبُّره واعتراضُه على التقدير مما يتحقق جحودُه في القلب. ويقال التكبُّر: توهمُ استحقاقِ الحقِّ لك. ويقال من رأى لنفسه قيمةً في الدنيا والآخرة فهو متكبِّر. ويقال مَنْ ظَنَّ أَنَّ شيئاً منه أو له أو إليه- من النفي والإثبات -إلا على وجه الاكتساب فهو متكبِّر.
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي 516 هـ :
قوله تعالى: {سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق} قال ابن عباس: يريد الذين يتجبرون على عبادي ويحاربون أوليائي، حتى لا يؤمنوا بي، يعني: سأصرفهم عن قبول آياتي والتصديق بها عوقبوا بحرمان الهداية لعنادهم للحق، كقوله {فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم}. قال سفيان بن عيينة: سأمنعهم فهم القرآن. قال ابن جريج: يعني عن خلق السموات والأرض وما فيهما، أصرفهم عن أن يتفكروا فيها، ويعتبروا بها. وقيل: حكم الآية لأهل مصر خاصة، وأراد بالآيات الآيات التسع التي أعطاها الله تعالى موسى عليه السلام. والأكثرون على أن الآية عامة.
قوله تعالى: {وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها وإن يروا} يعني هؤلاء المتكبرون. قوله تعالى: {سبيل الرشد}... ومعنى الآية: وإن يروا طريق الهدى والسداد.
قوله تعالى: {لا يتخذوه} لأنفسهم.
قوله تعالى: {وإن يروا سبيل الغي} أي طريق الضلال.
قوله تعالى: {يتخذوه سبيلا ذلك بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين} عن التفكر فيها، والاتعاظ بها، غافلين ساهين.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{سَأَصْرِفُ عَنْ ءاياتي} بالطبع على قلوب المتكبرين وخذلانهم، فلا يفكرون فيها ولا يعتبرون بها، غفلة وانهماكاً فيما يشغلهم عنها من شهواتهم.
... وفيه إنذار للمخاطبين من عاقبة الذين يصرفون عن الآيات لتكبرهم وكفرهم بها، لئلا يكونوا مثلهم فيسلك بهم سبيلهم. {بِغَيْرِ الحق} فيه وجهان: أن يكون حالاً بمعنى يتكبرون غير محقين، لأن التكبر بالحقّ لله وحده. وأن يكون صلة لفعل التكبر، أي يتكبرون بما ليس بحق وما هم عليه من دينهم {وَإِن يَرَوْا كُلَّ ءَايَةٍ} من الآيات المنزلة عليهم {لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا}..
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
يقول تعالى: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} أي: سأمنع فهم الحجج والأدلة على عظمتي وشريعتي وأحكامي قلوب المتكبرين عن طاعتي، ويتكبرون على الناس بغير حق، أي: كما استكبروا بغير حق أذلهم الله بالجهل، كما قال تعالى: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الأنعام: 110] وقال تعالى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف: 5]...
وقوله: {وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلا} أي: وإن ظهر لهم سبيل الرشد، أي: طريق النجاة لا يسلكوها، وإن ظهر لهم طريق الهلاك والضلال يتخذوه سبيلا. ثم علل مصيرهم إلى هذه الحال بقوله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} أي: كذبت بها قلوبهم، {وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ} أي: لا يعلمون شيئًا مما فيها.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما انقضى ذلك، كان كأنه قيل: وكيف يختار عاقل ذلك؟ فكيف بمن رأى الآيات وشاهد المعجزات؟ فقال: {سأصرف عن آياتي} أي المسموعة والمرئية على عظمتها بما أشارت إليه الإضافة بالصرف عن فهمها واتباعها والقدرة على الطعن فيها بما يؤثر في إبطالها {الذين يتكبرون} أي يطلبون الكبر بما ليس لهم ويعملون قواهم فيه {في الأرض} أي جنسها الذي أمرت بالتواضع فيه. {ذلك} أي الصرف العظيم الذي زاد عن مطلق الصرف بالعمى عن الإيمان واتخاذ الرشاد {بأنهم} أي بسبب أنهم {كذبوا بآياتنا} أي على ما لها من العظمة {وكانوا عنها} أي خاصة جبلة وطبعاً {غافلين} أي كان دأبهم وديدنهم معاملتهم لها بالإعراض عنها حتى كأنها مغفول عنها فهم لذلك يصرون على ما يقع منهم.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{سأصرف عن آياتي الّذين يتكبّرون في الأرض بغير الحقّ وإن يروا كلّ آية لا يؤمنوا بها وإن يروا سبيل الرّشد لا يتّخذوه سبيلا وإن يروا سبيل الغيّ يتّخذوه سبيلا ذلك بأنّهم كذّبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين 146 والّذين كذّبوا بآياتنا ولقاء الآخرة حبطت أعمالهم هل يجزون إلّا ما كانوا يعملون 147}
انتهى بالآية التي قبل هاتين الآيتين فصل من فصول قصة موسى عليه السلام وهاتان الآيتان استئناف مرتب على جملة ما تقدمه منها، بين الله فيه لخاتم رسله في الأولى منهما سنته في ضلال البشر بعد مجيء البينات في كل زمان ويدخل فيه قوم فرعون من الغابرين دخولا أوليا، وينطبق على رؤساء كفار قريش المعاندين له صلى الله عليه وسلم من الحاضرين، وبين في الثانية جزاءهم على تكذيبهم وكفرهم. قال
{سأصرف عن آياتي الّذين يتكبّرون في الأرض بغير الحقّ} هذا بيان لسنته تعالى في تكذيب البشر لدعاة الحق والخير من الرسل وورثتهم وسببه الأول التكبر فإن من شأن الكبر أن يصرف أهله عن النظر والاستدلال على الحق والهدى لأجل اتباعه فهم يكونون دائما من المكذبين بالآيات الدالة عليها الغافلين عنها، وتلك حال الملوك والرؤساء والزعماء الضالين كفرعون وملئه وإنما ذكرت هذه السنة العامة من أخلاق البشر بصيغة المستقبل لإعلام النبي صلى الله عليه وسلم بأن الطاغين المستكبرين من مشيخة قومه لن ينظروا في آيات القرآن الدالة على صدقه صلى الله عليه وسلم في دعوى الرسالة من وجوه كثيرة بيناها مرارا، والدالة على وحدانية الله تعالى بما أقامته عليها من البراهين الكثيرة ولا في غيرها مما أيده ويؤيده به من آياته الكونية لتكبرهم في الأرض بالباطل، فوجهة نظرهم تنحصر في تفضيل أنفسهم عليه صلى الله عليه وسلم بأنهم سادة قريش وكبراؤها وأغنياؤها وأقوياؤها فلا يليق بهم أن يتبعوا من هو دنوهم سنا وقوة وثروة وعصبية، والمعنى سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق من قومك أيها الرسول ومن غيرهم في كل زمان ومكان كما صرفت فرعون وملأه عن آياتي التي آتيتها رسولي موسى.
- والتكبر: صيغة تكلف أو تكثر من الكبر الذي هو غمط الحق بعدم الخضوع له واحتقار الناس، فهو شأن من يرى أنه أكبر من أن يخضع لحق، أو يساوي نفسه بشخص، والأصل الغالب في التكبر أن يكون بغير الحق وقد يتصور أن يتكلف الإنسان إعلاء نفسه على غيره أو إكثاره من الاستعلاء عليه بحق كالترفع عن المبطلين وإهانة الجبارين واحتقار المحاربين. فقوله تعالى {بغير الحق} يكون على هذا صلة للتكبر وهو قيد له، وإلا كان بيانا للواقع. أو المعنى أنهم يتكبرون حالة كونهم متلبسين بغير الحق أي منغمسين في الباطل فأمثال هؤلاء لا قيمة للحق في نفسه عندهم فهم لا يبطلونه ولا يبحثون عنه وقد تظهر لهم آياته ويجحدونها وهم بها موقنون، كما قال تعالى في آل فرعون: {وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوّا} [النمل: 14] وقال في طغاة قريش {فإنّهم لا يكذّبونك ولكنّ الظّالمين بآيات اللّه يجحدون} [الأنعام: 33].
{وإن يروا كلّ آية لا يؤمنوا بها} هذا إما عطف على جملة (سأصرف...) أي سأصرفهم عن آياتي المنزلة والكونية فينصرفون وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها- وأما عطف على (يتكبرون) فيكون هو وما بعده بيانا لصفات المتكبرين وأحوالهم وأولها أنهم إن يروا كل آية من الآيات التي تدل على الحق وتثبت وجوده لا يؤمنوا بها فإن كثرة الآيات بتعدد أنواعها وأفرادها إنما تفيد من كان طالبا للحق ولكنه جاهل أو شاك أو سيء الفهم فإذا خفيت عليه دلالة بعضها فقد تظهر له دلالة غيره، وفي هذا إعلام للنبي صلى الله عليه وسلم بأن الذين يقترحون عليه الآيات من قومه إنما يقصدون التعجيز، لا استبانة الحق بالدليل، فهم إن أجيبوا إلى طلبهم لا يؤمنون، ولهذا نظائر تقدم بعضها في سورة الأنعام مفصلا تفصيلا.
{وإن يروا سبيل الرّشد لا يتّخذوه سبيلا} الرشد: الصلاح والاستقامة وضده الغي وهو الفساد... والمعنى أن من صفة هؤلاء الذين مرنوا على الضلال واستمرؤوا مرعى الغي والفساد، أن ينفروا من الهدى والرشاد، فإن رأى أحدهم سبيله واضحة جلية لا يختار لنفسه جعلها سبيلا له بإيثارها وتفضيلها على ما هو عليه، وما كل أحد يصل إلى هذه الدرجة من الغي لأن من الناس من يسلك سبيل الغي على جهل فإذا علم بما تنتهي به إليه من الفساد ورأى لنفسه مخرجا منها تركها، واختار سبيل الرشد عليها.
{وإن يروا سبيل الغيّ يتّخذوه سبيلا} وهذه الحالة شر مما قبلها فإن هذه إيجابية وتلك سلبية، وبينهما حال أخرى وهي حال من ليس فيه من نور البصيرة وذكاء النفس ما يحمله على سلوك سبيل الرشد إذا رآه لضعف همته، ولكنه يكره الغي والفساد إذ لم يصل من اعتلال الفطرة وظلمة البصيرة إلى تفضيله على الرشد وإيثار سبيله واختيارها لنفسه إذا رآها بحيث لا يصرفه عن الفساد إلا جهل سبيله أو العجز عن سلوكها.
فمن اجتمعت له هذه الأحوال أو الصفات فهو الذي أضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فلم تبق له سبيل من أسباب الحق والرشد يسلكها، وقد علل ذلك سبحانه بقوله: {ذلك بأنّهم كذّبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين} يعني أن الله تعالى لم يخلقهم مطبوعين على شيء مما ذكر طبعا، ولم يجبرهم ويكرههم عليه إكراها، بل كان ذلك بكسبهم واختيارهم للتكذيب بآياته الدالة على الحق، والصدود عن سبيله الموصلة إلى الرشد، وكانوا غافلين دون أهوائهم لا يعطونها حقها من النظر والتأمل والتفكر والتدبر، لاشتغالهم عن ذلك بأهوائهم، وعصبيتهم لأنفسهم ولآبائهم، وبذلك قطعوا على أنفسهم طريق الهدى، فالغفلة هنا هي الغفلة المطبوعة المانعة من أسباب العلم والفطنة، لا أي نوع من أنواع الغفلة، بل هي المبينة في قوله تعالى من أواخر هذه السورة {ولقد ذرأنا لجهنّم كثيرا من الجنّ والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضلّ أولئك هم الغافلون} [الأعراف: 179].
الضالون من هؤلاء الغافلين عن آيات الله تعالى وما تهدي إليه من معرفته والاستعداد للحياة الأخرى الباقية هم الذين يقول الله تعالى في وصفهم {أولئك في ضلال بعيد} [إبراهيم: 3] ويقول: {قد ضلوا ضلالا بعيدا} [النساء: 167] إذ كان لهم من الانهماك فيما هم فيه والغرور به واحتقار ما سواه ما يصدهم عن توجيه عقولهم إلى غيره...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
... إن الله تعالى يعلن عن مشيئته في شأن أولئك الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق، وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها، وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلاً، وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلاً.. إنه سيصرفهم عن آياته فلا ينتفعون بها ولا يستجيبون لها.. آياته في كتاب الكون المنظور، وآياته في كتبه المنزلة على رسله.. ذلك بسبب أنهم كذبوا بآياته سبحانه وكانوا عنها غافلين.
وإن هذا النموذج من الناس ليرتسم من خلال الكلمات القرآنية، كأنما نراه بسماته وحركاته!
(الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق)..
وما يتكبر عبد من عبيد الله في أرضه بالحق أبداً. فالكبرياء صفة الله وحده. لا يقبل فيها شريكاً. وحيثما تكبر إنسان في الأرض كان ذلك تكبراً بغير الحق! وشر التكبر ادعاء حق الربوبية في الأرض على عباد الله هذا الحق بالتشريع لهم من دون الله؛ وتعبيدهم لهذا التشريع الباطل، ومن هذا التكبر تنشأ سائر ألوان التكبر. فهو أساس الشر كله ومنه ينبعث. ومن ثم تجيء بقية الملامح:
(وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلاً، وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلاً)..
فهي جبلة تجنح عن سبيل الرشد حيثما رأته، وتجنح الى سبيل الغي حيثما لاح لها، كأنما بآلية في تركيبها لا تتخلف! وهذه هي السمة التي يرسمها التعبير، ويطبع بها هذا النموذج المتكبر، الذي قضت مشيئة الله أن يجازيه على التكذيب بآيات الله والغفلة عنها بصرفه عن هذه الآيات أبداً!
وإن الانسان ليصادف هذا الصنف من الخلق بوصفه هذا وسمته وملامحه، فيرى كأنما يتجنب الرشد ويتبع الغي دون جهد منه، ودون تفكير ولا تدبير! فهو يعمى عن طريق الرشد ويتجنبه، وينشرح لطريق الغي ويتبعه! وهو في الوقت ذاته مصروف عن آيات الله لا يراها ولا يتدبرها ولا تلتقط أجهزته إيحاءاتها وإيقاعاتها! وسبحان الله! فمن خلال اللمسات السريعة في العبارة القرآنية العجيبة ينتفض هذا النموذج من الخلق شاخصاً بارزاً حتى ليكاد القارئ يصيح لتوه: نعم. نعم. أعرف هذا الصنف من الخلق.. إنه فلان!!! وإنه للمعنيّ الموصوف بهذه الكلمات.
وما يظلم الله هذا الصنف من الخلق بهذا الجزاء المردي المؤدي الى الهلاك في الدنيا والآخرة.. إنما هو الجزاء الحق لمن يكذب بآيات الله ويغفل عنها، ويتكبر في الأرض بغير الحق، ويتجنب سبيل الرشد حيثما رآه، ويهرع الى سبيل الغي حيثما لاح له! فإنما بعمله جوزي؛ وبسلوكه أورد موارد الهلاك.
(ذلك بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين)..
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
..وفي قَصِّ الله تعالى هذا الكلامَ على محمد صلى الله عليه وسلم تعريض بكفار العرب بأن الله دافِعُهم عن تعطيل آياته، وبأنه مانع كثيراً منهم عن الإيمان بها لما ذكرناه آنفاً. والرشد الصلاح وفعل النافع والغي الفساد والضلال، وهو ضد الرشد بهذا المعنى كما أن السفه ضد الرشد بمعنى حسن النظر في المال، فالمعنى: أن يدركوا الشيءَ الصالح لم يعملوا به. لغلبة الهوى على قلوبهم، وإن يدركوا الفساد عملوا به لغلبة الهوى والغفلة انصراف العقل والذهن عن تذكر شيء بقصدٍ أو بغير قصد، وأكثر استعماله في القرآن فيما كان عن قصد بإعراض وتشاغل، والمذموم منها ما كان عن قصد، وهو مناط التكليف والمؤاخذة، فأما الغفلة عن غير قصد فلا مؤاخذة عليها، وهي المقصود من قول علماء أصول الفقه: يمتنع تكليف الغافل. وللتنبيه على أن غفلتهم عن قصد صيغ الإخبار عنهم بصيغة {كانوا عنها غافلين} للدلالة على استمرار غفلتهم. وكونها دأباً لهم، وإنما تكون كذلك إذا كانوا قد التزموها، فأما لو كانت عن غير قصد. فإنها قد تعتريهم وقد تفارقهم.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
التكبر في الأرض بغير الحق ولا يكون التكبر بحق قط، وهذا وصف كاشف لبيان مضرة الكبر وفساده أن التكبر يجعل المتكبر لا يفكر إلا في نفسه وما يستعلى به على الناس، فإذا غمره كبره في هذا لا يرى إلا من ورائه، فلا يتجه نظره إلى ما يجب عليه، بل يتجه إلى ما يحسبه حقا له.
وقوله تعالى: {بغير الحق}، هو كشف لحقيقة المستكبرين من الطغاة والحكام، وكل المفسدين في الأرض. {لا يؤمنوا بها} لا يصدقون بها، لأنهم عميت عن الحق أبصارهم، وأصبحوا في صمم عنه {بأنهم كذبوا بآياتنا}، أي بسبب أنهم كذبوا بآيات الله؛ سارعوا بتكذيب آيات الله، فاجتالهم الشيطان عنها، وساروا منحرفين عنها غافلين عن معانيها، ومن سار في طريق منحرفا عن الخط المستقيم أو غل في الانحراف حتى يضل ضلالا بعيدا، وكلما أمعن في السير أمعن في الضلال {وكانوا عنها غافلين}، ففسدت نفوسهم وأذاقوهم حتى صاروا يذوقون المر فيحسبونه حلوا، وفسدت مداركهم، فصاروا لا يفرقون بين الخير والشر، ولا بين الحسن والقبيح...
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
..ومما يتضمنه هذا التهديد الإلهي الخطير خذلان الله للمتكبرين الفاسقين، وحرمانهم من التوفيق والهداية إلى الحق المبين..
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِي الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ}، فأتركهم ليسيروا على هواهم، في ما يريدون وما لا يريدون، فلا أمنحهم لطفاً من ألطافي التي أمدُّ بها المؤمنين، عندما تنحرف بهم الطريق عن غير قصدٍ واختيارٍ، فأهديهم بذلك إلى الصراط المستقيم، لأنهم عاشوا الحياة من أجل السير في طريق الهداية. أمّا هؤلاء فإنهم لم يريدوا الاهتداء بما أنزلت إليهم من هدى الوحي والرسالة، ولم يحركوا طاقاتهم الذاتية في هذا الاتجاه؛ فحذّرتهم فلم يحذروا، وخوَّفتهم فلم يخافوا، وأنذرتهم فلم يذعنوا، فسأتركهم لما اختاروه، وسأصرفهم عن آياتي من خلال ذلك...