{ وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ } أي : نوضحها ونبينها ، ونميز بين طريق الهدى من الضلال ، والغي والرشاد ، ليهتدي بذلك المهتدون ، ويتبين الحق الذي ينبغي سلوكه . { وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ } الموصلة إلى سخط الله وعذابه ، فإن سبيل المجرمين إذا استبانت واتضحت ، أمكن اجتنابها ، والبعد منها ، بخلاف ما لو كانت مشتبهة ملتبسة ، فإنه لا يحصل هذا المقصود الجليل .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَكَذَلِكَ نفَصّلُ الاَيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ } . .
يعني تعالى ذكره بقوله : وكَذَلِكَ نُفَصّلُ الاَياتِ وكما فصلنا لك في هذه السورة من ابتدائها وفاتحها يا محمد إلى هذا الموضع حجتنا على المشركين من عبدة الأوثان وأدلتنا ، وميزناها لك وبينّاها ، كذلك نفصل لك أعلامنا وأدلتنا في كلّ حقّ ينكره أهل الباطل من سائر أهل الملل غيرهم ، فنبينها لك حتى تبين حقه من باطله وصحيحه من سقيمه .
واختلفت القرّاء في قراءة قوله : ولِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ المُجْرِمِينَ فقرأ ذلك عامة قرّاء أهل المدينة : ولِتَسْتَبِينَ بالتاء «سَبِيل المُجْرِمِينَ » بنصب السبيل ، على أن «تستبين » خطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم كأن معناه عندهم : ولتستبين أنت يا محمد سبيل المجرمين . وكان ابن زيد يتأوّل ذلك : ولتستبين أنت يا محمد سبيل المجرمين الذين سألوك طرد النفر الذين سألوه طردهم عنه من أصحابه .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : «وَلِتَسْتبِينَ سَبِيل المُجْرِمِينَ » قال : الذين يأمرونك بطرد هؤلاء .
وقرأ ذلك بعض المكيين وبعض البصريين : ولِتَسْتَبِينَ بالتاء سَبِيلُ المُجْرِمِينَ برفع السبيل على أن القصد للسبيل ، ولكنه يؤنثها . وكأن معنى الكلام عندهم : وكذلك نفصّل الاَيات ولتتضح لك وللمؤمنين طريق المجرمين . وقرأ ذلك عامة قراء أهل الكوفة : «ولِتَسْتَبِينَ » بالياء سَبِيلُ المُجْرِمِينَ برفع السبيل على أن الفعل للسبيل ولكنهم يذكرونه . ومعنى هؤلاء في هذا الكلام ، ومعنى من قرأ ذلك بالتاء في : ولِتَسْتَبِينَ ورفع السبيل واحدٌ ، وإنما الاختلاف بينهم في تذكير السبيل وتأنيثها .
وأولى القراءتين بالصواب عندي في «السبيل » الرفع ، لأن الله تعالى ذكره فصّل آياته في كتابه وتنزيله ، ليتبَيّن الحقّ بها من الباطل جميع من خوطب بها ، لا بعض دون بعض . ومن قرأ «السبيل » بالنصب ، فإنما جعل تبيين ذلك محصورا على النبيّ صلى الله عليه وسلم . وأما القراءة في قوله : وَلِتَسْتَبِينَ فسواء قُرِئت بالتاء أو بالياء ، لأن من العرب من يذكر السبيل وهم تميم وأهل نجد ، ومنهم من يؤنث السبيل وهم أهل الحجاز ، وهما قراءتان مستفيضتان في قرّاء الأمصار ولغتان مشهورتان من لغات العرب ، وليس في قراءة ذلك بإحداهما خلاف لقراءته بالأخرى ولا وجه لاختيار إحداهما على الأخرى بعد أن يرفع السبيل للعلة التي ذكرنا .
وبنحو الذي قلنا في تأويل قوله : نُفصّلُ الاَياتِ قال أهل التأويل .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة : وكذَلِكَ نُفَصّلُ الاَياتِ نبين الاَيات .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في : نُفَصّلُ الاَياتِ : نبين .
الواو استئنافية كما تقدّم في قوله : { وكذلك فتنَّا بعضهم ببعض } [ الأنعام : 53 ] . والجملة تذييل للكلام الذي مضى مبتدئاً بقوله تعالى : { وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربّهم } [ الأنعام : 51 ] .
والتفصيل : التبيين والتوضيح ، مشتقّ من الفصل ، وهو تفرّق الشيء عن الشيء . ولمّا كانت الأشياء المختلطة إذا فُصلت يتبيّن بعضها من بعض أطلق التفصيل على التبيين بعلاقة اللزوم ، وشاع ذلك حتَّى صار حقيقة ، ومن هذا القبيل أيضاً تسمية الإيضاح تبييناً وإبانة ، فإنّ أصل الإبانة القطع . والمراد بالتفصيل الإيضاح ، أي الإتيان بالآيات الواضحة الدلالة على المقصود منها .
والآيات : آيات القرآن . والمعنى نفصّل الآيات ونبيِّنها تفصيلاً مثل هذا التفصيل الذي لا فوقه تفصيل ، وهو تفصيل يحصل به علم المراد منها بَيّنا .
وقوله : { ولتستبين } عطف على علَّة مقدّرة دلّ عليها قوله : { وكذلك نفصّل الآيات } لأنّ المشار إليه التفصيل البالغ غاية البيان ، فيُعلم من الإشارة إليه أنّ الغرض منه اتِّضاح العلم للرسول . فلمَّا كان ذلك التفصيل بهذه المثابة علم منه أنَّه علَّة لشيء يناسبه وهو تبيّن الرسول ذلك التفصيل ، فصحّ أن تعطف عليه علّة أخرى من علم الرسول صلى الله عليه وسلم وهي استبانته سبيل المجرمين . فالتقدير مثلاً : وكذلك التفصيل نفصّل الآيات لتعلم بتفصيلها كنهها ، ولتستبين سبيل المجرمين ، ففي الكلام إيجاز الحذف .
وهكذا كلّما كان استعمال ( كذلك ) نفعل بعد ذكر أفعال عظيمة صالحاً الفعل المذكور بعد الإشارة لأن يكون علَّة لأمر من شأنه أن يعلّل بمثله صحّ أن تعطف عليه علَّة أخرى كما هنا ، وكما في قوله : { وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين } [ الأنعام : 75 ] بخلاف ما لا يصلح ، ولذلك فإنَّه إذا أريد ذكر علَّة بعده ذكرت بدون عطف ، نحو قوله : { وكذلك جعلناكم أمَّة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس } [ البقرة : 143 ] .
و { سبيل المجرمين } طريقهم وسيرتهم في الظلم والحسد والكبر واحتقار الناس والتصلّب في الكفر .
والمجرمون هم المشركون . وضع الظاهر موضع المضمر للتنصيص على أنَّهم المراد ولإجراء وصف الإجرام عليهم . وخصّ المجرمين لأنَّهم المقصود من هذه الآيات كلِّها لإيضاح خفيّ أحوالهم للنبيء صلى الله عليه وسلم والمسلمين .
وقرأ نافع ، وابن كثير ، وابن عامر ، وأبو عمرو ، وحفص عن عاصم ، وأبُو جعفر ، ويعقوب بتاء مثنّاة فوقية في أول الفعل على أنَّها تاء خطاب . والخطاب للنبيء صلى الله عليه وسلم .
وقرأه حمزة ، والكسائي ، وأبو بكر عن عاصم ، وخلف بياء الغائب ، ثم إنّ نافعاً ، وأبا جعفر قرآ { سبيل } بفتح اللام على أنَّه مفعول { تستبين } فالسين والتاء للطلب . وقرأه البقية برفع اللام على أنَّه فاعل « يستبينَ » أو « تستبينَ » . فالسين والتاء ليسا للطلب بل للمبالغة مثل استجاب .
وقرأ ابن عامر ، وابن كثير ، وأبو عَمرو ، وحفص ، على عاصم برفع { سبيل } على أنّ تاء المضارعة تاء المؤنَّثة . لأنّ السبيل مؤنَّثة في لغة عرب الحجاز ، وعلى أنَّه من استبان القاصر بمعنى بَانَ ف { سبيل } فاعل { تستبين } ، أي لتتّضح سبيلهم لك وللمؤمنين .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.